“لقد رضى الرب أن يوضع في قبر وحيداً، ليزوق وحشة الموت تأكيداً للموت ..
الإله المُتألم
لأن الطريق إلى الله كان قد أُغلق، قد عمل الإنسان على إغلاقه في وجه نفسه، بسبب خطاياه التي صنعت جداراً عازلًا بين قلبه وبين الله، واستراح الإنسان لنفسه وصارت “الأنا” لديه تتربع على عرش السلطة في حياته، وتأخذ محور اهتمامه ومركز دورانه، حينها صار أعمى البصيرة، وأضحى ذهنه مشوشًا فصار إلهًا لنفسه. يمارس عباداته لها في محراب الشرور والخطايا، لذا جاء المسيح ليرفع الخطيئة ويشُق الحجاب الذي يمنع رؤية الإنسان لحقيقة وضعه، أخذ الخطية في جسده وحكم عليها بالإدانة في الصليب بل وأماتها، فمات معها كل سلطان لها على الإنسان، وأعاد المسيح فتح الطريق بين الله والإنسان بل كان هو نفسه الطريق الذي يربط السماء بالأرض..
صديقي، إن حياة المسيح من الميلاد إلى القيامة، بكل أحداثها والقصص التي فيها والتعاليم والإحتكاكات بالكتبة والفريسيين وغيرهم، كانت تحوي بداخلها مضمون الصليب والموت، لكي يشير للموت والقيامة ليمنح حياة جديدة.
يتسائل البعض: إذا كان إلهاً فكيف يموت؟
ونجيب، إن الله/ المسيح، هو فقط وبالتمام ما أعلنه هو عن نفسه، وما أعلنه عن نفسه يقول: أن المسيح هو ذاك الإله المتجسد، أحد أقانيم الثالوث للإله الواحد، والذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة أو طرفة عين كما نردد في القُدَّاس الإلهي، لذلك فإن من مات على الصليب هو ذاك المسيح الإله الذي أختار أن يلبس جسد إنسانيتنا.
يقول الأب متى المسكين عن ذلك في كتابه ” القيامة والصعود ” : فكان المسيح على الصليب هو الله الذي دان الخطية في الجسد، أي جسده، ودفع كل أجرتها بالموت، “أجرة الخطية هي موت” (رو 23:66)، ليرفع عن كل إنسان سلطانها القاتل، وعلى الصليب كان هو الديَّان العادل الذي انتقم للإنسان من عدوه المشتكي عليه ليل نهار، وأدانه، وخلَّص الإنسان من سلطانه، وأمَّن الفداء بقيامته من الأموات وإعطاء الروح القدس لضمان دوام مغفرة الخطايا وتقديس الحياة ورفع الخوف من الموت، ولقد رضي الرب أن يوضع في قبر وحيدًا، ليزوق وَحْشة الموت تأكيدًا للموت”، لكن على عكس كل الأموات الذين يبقون في قبورهم قام هو في اليوم الثالث ليؤكد على أن الموت فَقَدَ جوهره ومظهره. لقد قَبِلَ أن يموت طوعًا لكي يمسح ويطهر ويقدس ويحي الضمائر من كل ما يشوبها، حتى تتحول أدوات الموت إلى مصادر للحياة .والتطهير والتقديس
أيضًا يقول يورجين مولتمان: ” لكي نفهم قصة يسوع المتروك من الله كحدث بين الله الآب والله الابن، يجب أن نتحدث ثالوثيًا، فالمسيح “فاعل” أساسي في القصة فهو ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي، فالآب ليس وحده هو الذي بذل ابنه بل الأبن أيضًا بذل نفسه، هذا يعني أن إرادة الآب وإرادة يسوع إلتقتا عند نفس النقطة، حيث تُرِكَ يسوع على الصليب، وكانا منفصلين بشكل كامل، ولكنه انفصال الحب كما فسره بولس وكما جاء في يوحنا ( 16:3)، إن الآب والابن من جوهر واحد، وفي الصليب انفصل يسوع وإلهه بأعمق معنى للإنفصال، بترك الآب للابن، لكنهما كانا متحدين في هذا الترك بأعمق معاني الإتحاد، فالصليب والموت هو حدث تمَّ بين الآب والابن.
إن مفهوم الصليب والموت إذا اقتصر فقط على موت يسوع الإنسان يكون الصليب قد “فُرِغَ” من معناه ومن ألوهيته، إذن إذا أردنا التحدث عن الصليب والموت فلابد أن نتحدث عن الله الثالوث، عن الأقانيم في علاقتهم الخاصة، فنتحدث عن الآب كالأقنوم الذي يترك الابن ويبذله، وعن الابن كالأقنوم المتروك، وعن الروح القدس كالأقنوم المنبثق روح الحب والترك الباذل للذات.
إذن موت المسيح ليس حدثًا بين الله والإنسان “فقط”، لكنه في المقام الأول حدث داخل الثالوث بين يسوع وأبيه، ينبثق عنه الروح القدس.
لذا صديقنا نشجعك على الإقتراب من عرش النعمة، طارحًا كل تساؤلاتك عند قدمي ذاك المصلوب الذي أحبك، وأعلم يقينًا أنك لن ترجع فارغ اليدين، قد تُولِّد الأسئلة سيلًا من الأسئلة الأخرى لا تجزع، فمازالت أمامك الحياة هنا على الأرض والحياة الأبدية والتي لن تجيب أيضًا عن كل أسئلتنا عن الله غير المحدود الذي له كل السلطان والمجد الدائم.