إرميا النبى
إرميا النبى
وُلد إرميا في قرية تدعى عناثوث (إر 1: 1) التى تبعد ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم. ومعنى اسمه “الله يرمى ويخرج إلى الشعوب”. واسم إرميا يدل على حياته، فقد أخرجه الله؛ ليتنبأ على كل المحيطين به ويدعوهم للرجوع إلى الله.
وُلد إرميا عام 646 ق.م فى أواخر حكم منسى ملك يهوذا، الذي عبد الأوثان وسار في الشر، ولكنه فى نهاية حياته تاب وعاد إلى الله، وإن كان لم يستطع أن يعيد شعبه إلى الله، بل ظل يعبد الأوثان. وفى سن الرابعة من عمر إرميا مات منسى وملك ابنه آمون على يهوذا، وهذا سار فى الشر وعبد الأوثان أيضاً. ومعنى هذا أن الجو المحيط بإرميا كان فاسداً والشعب يميل لعبادة الأوثان والابتعاد عن الله.
إن قرية عناثوث- التى وُلد فيها إرميا- هى قرية مخصصة لسكنى الكهنة (يش 21: 18)، فإرميا من نسل كهنوتى، إذ أن جده الأكبر أبياثار كان رئيساً للكهنة مع صادوق أيام داود النبى. وبعد موت داود عزل سليمان أبياثار عن الكهنوت؟ لاشتراكه فى تمليك أدونيا أخى سليمان، مخالفاً لأوامر الله ولداود الملك (1مل 2: 27). ولذا فكان نسل أبياثار الساكنين فى عناثوث المعزولين عن خدمة الهيكل قد سقطوا فى بدعة، وهى تقديم العبادة خارج أورشليم فى قريتهم عناثوث. كل هذا يوضح مدى الفساد والتخبط الذي ساد الجو المحيط بإرميا فى طفولته.
مما سبق نفهم أن إرميا كان كاهناً ونبياً فى نفس الوقت ولكنه لم يمارس كهنوته، بل ركز على النبوة، أو هكذا الله أراده أن يكون نبياً، ولم يتضايق إرميا بسبب عزل جده أبياثار وكل نسله من الخدمة الكهنوتية. وجمع إرميا للكهنوت والنبوة فى شخصه يشبه آخرين، مثل حزقيال النبى وزكريا الكاهن والنبى أبى يوحنا المعمدان. ولما بلغ إرميا من العمر سبع سنوات، تملك يوشيا الملك الصالح على مملكة يهوذا، بعد موت آمون أبيه. وكان يوشيا طفلاً عمره ثماني سنوات حين ملك، ولم يبدأ يوشيا إصلاحاته الدينية إلا حين بلغ ستة وعشرين عاما . ً أي بعد ثمانية عشر سنة من تملكه، فبدأ فى ترميم الهيكل وإبادة عبادة الأوثان من مملكة يهوذا بكل شدة (2 مل 22: 1، 23: 23).
فى الفترة التى كان فيها إرميا طفلاً، ثم فتى كان الفساد يعم مملكة يهوذا. ولكن يظهر عمل الله مع إرميا، فقد تأثر بالأنبياء الذين سبقوه. كما ذكر فى نبوته (إر 28: 8) ولعل من أشهر هؤلاء الأنبياء: إشعياء وصفنيا الذى سبق إرميا بثلاثة عشر عاماً وهوشع وعوبديا.
وبهذا كان إرميا فى ضيق شديد من هذا الفساد وكان يعلم مدي غضب الله على شر شعبه، خاصة وأن إرميا كان رقيق المشاعر جداً، فأحب الله من كل قلبه وتضايق لضيق الله من الشر.
نادى الله ارميا ليبدأ نبوته وكان عمره عشرين عاماً وقتذاك، وكان في السنة الثالثة عشر من ملك يوشيا؟ قبل أن يبدأ إصلاحاته الدينية (ار 1: 2)، فكان ارميا بهذا مشجعاً ليوشيا على إبادة عبادة الأوثان وترميم الهيكل ودعوة الشعب للتوبة والرجوع إلى الله.
أمر الله إرميا أن يوبخ كل فئات الشعب لشرهم، الملك والرؤساء والمعلمين والكهنة وكل الشعب. فشعر إرميا بصعوبة الرسالة التى كلفه بها الله واعتذر أولاً لصغر سنه (ار 1: 5). لكن الله قال له، لا تقل إني ولد، وتنبأ بما أمرتك (إر 1: 7)، فقام مسرعاً لينفذ مشيئة الله ويتنبأ على كل من حوله. وخاصة وأن الله أعلمه أنه مختار من الله وهو بعد جنين في بطن أمه (ار 1: 5).
أحب إرميا البتولية، ثم أمره الله بعدم الزواج، وكان هذا متمشياً مع محبة إرميا لله والتفرغ لخدمته. وقصد الله أيضاً ببتولية إرميا أن يكون مثالاً للشعب فى أن مملكة يهوذا غير مستقرة ومعرضة للخراب بيد بابل (إر 16: 2).
استمر إرميا فى دعوة شعبه للتوبة وكان يوشيا وقتذاك مستمراً أيضاً في دعوة الشعب لعبادة الله، وإذ رأى الله اهتمام يوشيا وإرميا جعل حلقيا- رئيس الكهنة وقتذاك- يكتشف نسخة من شريعة الله فى الهيكل، أثناء ترميمه (2 مل 22: 8). وعندما قرأها يوشيا تأثر جداً ومزق ثيابه مقدماً توبة عن نفسه وكل شعبه بسبب مخالفتهم للشريعة. وأرسل إلى خلده النبيه الساكنة فى أورشليم (2 أى 34: 22)، فأعلمتهم أن الله سيجلب الشر على أورشليم. لأجل كثرة خطاياها، ولكن لتوبة يوشيا سيجعل هذا الخراب يتم بعد موته. وقد سمح الله أن يرسل يوشيا إلى خلده. لتقول نفس كلام ارميا وبهذا يساند الله إرميا فى نبواته ووعظه لشعبه ويؤكد للشعب صدق كلام ارميا. وهذا بالطبع ساند إرميا وشجعه. ليواصل رسالته.
واهتم يوشيا بعمل عيد الفصح ودعا الشعب فى كل مملكته، واليهود الباقين فى مملكة إسرائيل التى تم سبيها، فكان عيدا عظيماً. وهذا اسعد قلب إرميا جداً، إذ رأى ثماراً روحية فى شعبه وصلى لعلها تدوم.
لم يتجاوب الشعب مع إرميا (إر 7: 24 ، 26)، إذ أنه وبخهم وهددهم بخراب بلادهم وتدمير الهيكل وهى أخبار صعبة عليهم. وكان يملك وقتذاك على مملكة أشور، التى تحكم العالم، ملك يسمى أشور بأنيبال ولكنه مات مع بداية نبوة إرميا، وبدأت أشور تضعف من بعده. فشعر اليهود أنه لم يعد هناك خطراً على بلادهم وهيكلهم، فلم يطيعوا كلام ارميا ولم يتوبوا.
من ناحية أخرى لم يتجاوب مع دعوة إرميا أهل قريته عناثوث (إر 11: 21)، إذ رأوا أنه يمكن تقديم عبادة لله فى قريتهم وليس فى هيكل أورشليم. وهذا عكس ما نادى به إرميا. كما أنهم تضايقوا من إرميا مثل باقى الشعب؛ لأنه هدد البلاد بالخراب ودعا شعبه للخضوع والذهاب إلى السبى، فاعتبره الكل خائنا للوطن، مع أن كلامه كان هو كلام الله، الذي ينذر شعبه بالتأديب فى السبى لعدم توبتهم.
ولما بلغ إرميا السابعة والثلاثين من عمره قام نخو ملك مصر على رأس جيش للاستيلاء على الشام، مستغلاً ضعف مملكة أشور، فأندفع يوشيا الملك لمقاومة نخو ومنعه من الوصول إلى أشور، وهذا كان اندفاع من يوشيا الذي لم يطلب الله، فقتل في معركة مجدو عام 608 ق 3 (2 أي 35: 20- 24) وكانت بابل في هذا الوقت قد بدأت فى الظهور كدولة صغيرة.
بعد موت يوشيا مللك ابنه يهوآحاز وكان شريراً، عكس أبيه يوشيا، فابتعد عن الله وبدأت في أيامه عبادة الأوثان من جديد. ولكنه لم يبق طويلاً على العرش، إذ أن نخو ملك مصر- بعد انتصاره على أشور فى معركة كركميش عند نهر الفرات- قبض على يهوآحاز وأرسله مسبياً إلى مصر وملك بدلاً منه أخيه يهوياقيم (2 أي 36: 1- 4).
سار يهوياقيم فى الشر مثل يهوآحاز أخيه، فابتعد عن الله وعبد الأوثان وبالتالى قاوم إرميا، الذى كان يوبخ الكل لابتعادهم عن الله. والعجيب أن يهوياقيم لم يتعلم شيئاً من صلاح أبيه، بالرغم من تنبيه إرميا له أن يسير في طريق أبيه (إر 22: 15-19). كانت مشاعر إرميا كأب لشعبه تعتصر ألماً؛ لاندفاعهم في الشر، خاصة وأن الله أعلن له أن العقاب سيأتي، وهو تدمير أورشليم والهيكل وقتل الكثيرين من شعبه. فكان يبكي عليهم كثيراً، فهو رقيق المشاعر جداً. وهذا زاده إلحاحاً على الشعب أن يتوبوا، أما هم فاستمروا يستهزئون به ويقاومونه، وذلك من الملك والرؤساء الدينيين والمعلمين وكل الشعب. فاحتمل كثيراً جداً فى صمت ولم يكن له معزي إلا الله.
وقف إرميا في باب بيت الرب أمام الجموع المحتشدة هناك، الآتية للعبادة وأعلن لهم نبواته، فدعاهم للتوبة؟ لأن غضب الله شديد عليهم بسبب كثرة خطاياهم، وأعلمهم أن الله سيخرب بلادهم عن طريق ملك بابل (إر 7-9)، وصلى إرميا من أجل شعبه وتشفع فيهم أمام الله، حتى يسامحهم ولكن الله رفض، لعدم توبتهم وهذا يبين حنان إرميا واهتمامه بشعبه (إر 18: 20).
ولكن الأنبياء الكذبة قاوموا إرميا معلنين أن كلامه كله خطأ وعلى العكس سيكون سلام للشعب. وأشترك معهم الكهنة، فقام فشحور وضرب إرميا وربط يديه ورجليه بالسلاسل وسجنه (إر 2،1:20).
تأثر إرميا بهذه الضغوط الشديدة وحاول أن يكف عن خدمته ولكنه شعر بتأنيب ضميره فصارت كلمة الله كالنار في داخله، إذ أن الله أشعره بخطأ صمته عن إعلان التعليم السليم. وفي نفس الوقت شجعه أنه معه. وفى النهاية أقتنع إرميا وقام ليواصل خدمته (إر20: 7-9).
أستمر الكهنة في مقاومة إرميا، حتى أنهم منعوه من دخول الهيكل، فأمر الله إرميا أن يكتب نبواته فى درج (كتاب)، فأملى كلامه على تلميذه باروخ، فقد كان باروخ مسجلاً لكلام إرميا ومرافقاً له، ولكن كانت له أيضاً نبوة خاصة به موجودة فى الكتاب المقدس. وأمر إرميا باروخ أن يقرأ الدرج فى باب هيكل الرب – لأن ارميا كان ممنوعاً من دخول الهيكل- حيث يجتمع عد كبير من الشعب. وكان الدرج يحوي تحذيراً إلهيا بأن بابل ستهجم عليهم وتستولى على بلادهم، وقصد الله من هذا أن يتوبوا.
استدعى رؤساء مملكة يهوذا باروخ، ليقرا الدرج لهم، فخافوا من كلام الله، وأوصوا باروخ أن يختفي هو وارميا عن وجه الملك؛ لأنه سيغضب ويحاول قتلهما. ولكن لما أعلموا الملك يهوياقيم، أخذ الدرج ومزقه بمبراة الكاتب (مثل السكين) وألقاه فى النار حتى احترق. ثم أمر بالقبض على ارميا وباروخ ولكن الله أخفاهما عن عينيه، فلم يستطع أن يصل إليهما (إر 36: 20-26).
اختفى إرميا وباروخ، ولكن أعاد ارميا كتابة نسخة جديدة من نبواته بيد باروخ. واحتوت نبوات إرميا أيضاً أن يهوياقيم الملك سيقتل وتسحب جثته على الأرض مثل جثة حمار. وهذا ما حدث على يد نبوخذنصر ملك بابل (إر 22: 19). عضد أيضاًَ الله ارميا وعزاه بإرساله حبقوق النبي؟ الذى تنبأ بعد ارميا بحوالى خمسة عشر عاماً. ونادى الشعب للتوبة والرجوع إلى الله. وظهر أيضاً أيام أرميا نبيا يسمى أوريا. نادى بنفس كلام إرميا، أى دعا الشعب للتوبة؛ لأن الخراب مقبل عليهم. ولكن لم يسمع الشعب له، بل أمر يهوياقيم ملك يهوذا بقتله وكان قد هرب إلى مصر، فأحضروه من هناك وقتلوه أمام الملك (ار 26: 21-23). أما إرميا فتشفع من أجله أحد رؤساء المملكة- وهو أخيقام بن شافان- فلم يقتله الملك (إر 26: 24). وهذا يبين مدى الاضطهاد الذي واجهه إرميا أيام يهوياقيم، فكان مرضاً للموت مرات كثيرة، ولكنه لم يتوقف عن إعلان صوت الله لكل أمته حتى يتوبوا.
بعد موت يهوياقيم تملك ابنه يهوياكين لمدة ثلاثة أشهر ولكن قبض عليه نبوخذنصر ملك بابل وأرسله ليسجن فى بابل وملك بدلاً منه عمه صدقيا (2 أي 36: 9، 10).
كان صدقيا ضعيف الشخصية، متلوناً، فأحياناً يظهر اهتمامه بنبوات إرميا ويتودد إليه، وفى أحيان أخرى يأمر بسجنه ويضطهده (إر 32: 3). وكان إرميا قد بلغ من العمر- وقت ملك صدقيا- ثمانية وأربعين عاماً.
وقد ظهر خضوع صدقيا لإرميا، أمر اليهود بإطلاق إخوتهم المستعبدين عندهم. فأطاعوه (إر34: 8-11). وأيضا أرسل صدقيا إلى اليهود المسبيين فى بابل، نبوات إرميا التى تطلب منهم أن يستقروا فى أماكنهم ويشتروا بيوتاً ويغرسوا كروماً، مؤكدة أن بابل ستسبى أورشليم وسيستقروا هناك سنوات طويلة. وطلب منهم أيضاً الصلاة من أجل ملك بابل، أي الخضوع للملك؛ لعل كل هذا يقودهم للتوبة، إذ يؤكد حرمانهم من أورشليم، التى ستخرب بسبب شرها (إر 29: 1- 17). ولكن بعد هذا تقلب صدقيا ولم يعد يسمع لكلام إرميا، إذ أنه فى السنة الرابعة لملكه أتى إليه وفود من الأمم المحيطة باليهودية يشجعونه على التمرد ضد بابل ولكن أعلن له ارميا خطورة ما يحاول عمله، إذ قدم نفسه مثالاً عملياً، فحمل نيراً خشبياً على كتفه وعنقه مؤكداً ضرورة الخضوع لبابل، ولكن لم يستجيب صدقيا له ولم يطعه (إر 27). وعلم نبوخذنصر، فاستدعى صدقيا ووبخه، فخاف جداً، خاصة وأنه ضعيف الشخصية.
مما سبق نفهم أن بابل قامت بسبى مملكة يهوذا مرة أيام يهوياقيم، فأخذت أفضل الرجال ومنهم دانيال و الثلاثة فتية، ثم قامت بسبى ثان- بعد موت يهوياقيم- وأخذت فيه يهوياكين الملك وعدداً كبيراً من أشراف اليهود، وكان منهم عدد كبير من الأتقياء ومنهم حزقيال النبي. وبهذا لم يبق إلا عدد قليل من الأتقياء حول صدقيا الملك، أي أن مشيريه معظمهم كانوا أشراراً، فشجعوه على مقاومة بابل وعلى اضطهاد إرميا، حتى أن يرئياً وهو من الرؤساء ضرب ارميا وألقاه في سجن قاس فى بيت يوناثان، متهماً إياه بالخيانة لوطنه والتواطؤ مع بابل (ار 37: 13: 14). وظل فى السجن مدد طويلة حتى تعب جداً واقترب من الموت.
استدعى الملك صدقيا إرميا سراً وهو فى السجن القاسى؛ ليطلب منه كلمة الله، فأعلن له إرميا بشجاعة أن بابل ستهجم على البلاد. ولم يخف من الملك وترجى الملك أن يخرجه من هذا السجن، فأخرجه ونقله إلى سجن آخر فى القصر الملكى، أقل قسوة من السجن السابق (ار 37 : 18- 21). لان صدقيا خاف أن يفرج عن إرميا، فيغضب عليه الرؤساء.
ألقي إرميا مرة أخرى في سجن قاسى وهو جب مملوء بالطين (ار 38: 6) ولكن تشفع فى إرميا احد الرؤساء وهو عبد ملك. فأمر الملك بإخراجه (إر 38: 7- 12).
فى نفس الوقت الذي تنبأ فيه ارميا النبى تنبأ أيضاً حزقيال النبى، الذي تنبآ في السبي في شمال مدينة بابل.
فى السنة الثامنة لملك صدقيا، هجم نبوخذنصر على اليهودية وأستولى على بلاد كثيرة منها، فأرسل الله إرميا إلى صدقيا وقال له إن نبوخذنصر سيستولى على أورشليم ويحرقها وسيقبض عليك، ثم يرسلك مقيداً إلى بابل (ار 34: 2 ،3) كل هذا قاله إرميا لصدقيا لعله يتوب ولكنه لم يرجع إلى الله.
بعد هذا ترك نبوخذنصر اليهودية، ثم عاد إليها فى السنة التاسعة لملك صدقيا وحاصر أورشليم (2 مل 25، إر 39، 52). ولكن عندما تقدم خفرع ملك مصر بجيش لنجدة أورشليم، ترك نبوخذنصر حصار أورشليم والتقى بجيش مصر وهزمه، ثم عاد فحاصر أورشليم مرة ثانية (ار 44: 30، 37: 8- 10). فى هذه الأثناء ظن اليهود أنهم تخلصوا من بابل، فقسوا قلوبهم ولم يطيعوا كلام الله على فم ارميا. ليتوبوا عن شرهم، فأتى عليهم الشر بأن حاصرهم نبوخذنصر مرة ثانية، وظل يحاصرهم حتى السنة الحادية عشرة لملك صدقيا. وأثناء هذا الحصار، مات الكثيرون من اليهود فى أورشليم بالجوع والوبا، إذ كانت الضيقة عظيمة جداً؛ لأن الحصار استمر حوالي سنة ونصف.
وفى نهاية هذه المدة شعر صدقيا بأن أورشليم ستسقط حتماً فى يد بابل، حينئذ نقب صدقيا السور وهرب من أورشليم هو ورجله، فقبض عليهم رجال نبوخذنصر وأخذوه إلى نبوخذنصر، فقتل بنيه أمامه، ثم فقأ عينيه وقيده بسلاسل نحاس وأرسله إلى بابل (2 مل 25: 4-6). وفي نفس الوقت اقتحم نبوخذنصر أورشليم وأحرقها وهيكلها بالنار وسبى ما بقى فيها من أشراف وهكذا تمت نبوات إرميا (إر 34).
بعد تدمير أورشليم- وكان عمر إرميا وقتذاك تسعة وخمسين عاماً- سمعت بابل إن إرميا كان يتنبأ بنبوات لصالحها، فعامل مندوب ملك بابل إرميا برفق وسمح له أن يذهب إلى بابل، أو يبقى في أورشليم- أيما يختار (إر 39: 11- 14)، فاختار إرميا أن يظل بين شعبه في أورشليم؛ ليدعوهم إلى التوبة.
حاول اليهود الالتجاء إلى مصر ولكن إرميا أعلن لهم ضرورة الخضوع لبابل، فالخضوع لها هو خضوع لله وضرورة قبول التأديب البابلي؛ ليتوبوا. أما هم فأصروا على الهرب إلى مصر، بل وحملوا إرميا معهم بالقوة إلى مصر.
في مصر ظل إرميا يدعو شعبه للرجوع إلى الله ولكنهم للأسف قدموا عبادة للآلهة الوثنية في مصر، فأعلن لهم إرميا إن إصرارهم على رفض الله سيؤدي بهم إلى الفناء؛ لأن نبوخذنصر سيهجم على مصر ويدمر آلهتها، بعد أن ينتصر عليها (إر 43: 13) أما هم فقسوا قلوبهم واستمروا فى عبادة الأوثان. بل حنقوا على إرميا وقاموا عليه ورجموه فى مصر، فمات شهيداً، بعد أن بلغ من العمر ستين عاماً، كما يذكر التقليد اليهودي.
استشهد إرميا بعد أن تنبأ أربعين عاماً لشعبه واحتمل آلاماً كثيرة وتعرض للموت عدة مرات، فكان رمزا للمسيح، الذي رفضه شعبه، والذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 1). ومات إرميا بيد شعبه- مثل المسيح- بعد أن تمم إرميا خدمته فى طاعة عجيبة.
تميز إرميا برقة المشاعر، فقد سالت دموعه كثيراً من أجل شعبه ولكنه في نفس الوقت أعلن صوت الله وعدله وعقابه بلا تقصير. كان كأب يتألم من أجل أولاده الذين سيهلكون وفي نفس الوقت ينبههم دائماً للعودة إلى الله (إر 9: 1). وفى تأثره الشديد لهلاك شعبه كتب مرثاة طويلة سجلت فى الكتاب المقدس في خمسة إصحاحات وهى سفر مراثى إرميا.
هل تبحث عن  بدعة سابيليوس والرد عليها

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي