الآم فراق الأحباء



الآم فراق الأحباء

كما أنه «مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا!» (مز133: 1)، فإنه ما أقسى وما أصعب أن يفترق الأحباء عن بعضهم! فالذين كانوا بيننا يومًا ملء السمع والبصر، وكانت تحلو لنا العشرة معهم، قد يأتي يوم لا نراهم فيه، ونعاني آلام فراقهم، ومرارة الفراغ الذي يتركونه في حياتنا. وقد يكون الفراق بسبب «آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ … الْمَوْتُ» (1كو15: 26)، وقد يكونون أحياء وتمنع الظروف رؤيتهم أو التواصل معهم.

ودعونا نمر على بعض الأمثلة التي وردت في الكتاب:

1. أول مشاهد الافتراق بالموت نراه في تكوين 23 عندما فارقت “سارة” – شريكة العمر – إبراهيم، في عمر 127 عامًا، بعد رحلة إيمان طويلة، باستثناء أيام معدودة في بيت فرعون (تك12: 10-20)، ثم في بيت أبيمالك (تك20: 1-18)، كانتا كدهرين من الزمان. وكم كان حبه لها وإخلاصه، حتى إنه سمع لها في أمور لا تقبلها الطبيعة (تك21: 9-13)، كما كانت هي تحترمه وتُطيعه داعية إياه سيدها (تك18: 12؛ 1بط3: 1-6)، ولذلك نراه يندبها ويبكيها (تك23: 1، 2)، مُعبِّرًا عما بداخله من مشاعر. إلا أن لمسات تعزية القدير، الذي آمن به، حوَّلت أفكاره إلى الرجاء المبارك الخاص بقيامة الراقدين، فطلب لها مُلك قبر في مغارة المكفيلة، في طرف الحقل، حيث يُزرع الجسد في فسادٍ، لكن يُقام في عدم فسادٍ (1كو15: 42)، وكما دخل من باب المغارة، سيخرج مُمجَّدًا من الباب الآخر، وهو ما أعلنه رئيس الحياة بعد ألفي عام «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ» (يو5: 28، 29).

2. في تكوين 35 ماتت راحيل المحبوبة، وكان مشهدًا حزينًا (بَنْ أُونِي)، لكن الإيمان حوَّله إلى مشهد مجد وأفراح (بِنْيَامِين). فدفنها يعقوب في «طَرِيقِ أَفْرَاتَةَ، الَّتِي هِيَ بَيْتُ لَحْمٍ» (تك35: 19). ومن المكان ذاته أُذيعت بشارة الفرح، وتهلَّلت الملائكة بالتسبيح وتمجيد الله بولادة «مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو2: 11)، والذي فيه «سَيُحْيَا الْجَمِيعُ» (1كو15: 22).

هل تبحث عن  ظليلينا بشفاعاتك لدى السيد

3. راعوث افترقت عن رجلها بموته، وعن أبيها وأمها بحياتهما في موآب، وسارت إلى شعب لم تعرفه مِن قبل. فآلامها كانت مضاعفة؛ ترمل وحرمان مِن الوالدين ومِن أرض وطنها، لكن إله إسرائيل – الذي جاءت لتحتمي تحت جناحيه – ملأ جبابها الفارغة؛ فوجدت في حماتها تعويضًا عن الأم، وفي بوعز تعويضًا عن الأب، ثم عن الزوج. كما أعطاها الرب نسلاً. ويا له من نسل! لقد جاء من نسلها داود الملك، بل جاء الرب يسوع ملك الملوك.

4. داود تعرَّض لآلام افتراق كثير من أحبائه؛ لقد حُرِم من والديه عندما كان مُطاردًا من شاول، وعبَّر عن ذلك بقوله: «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مز27: 10). ثم نراه يُعاني آلام افتراق يوناثان؛ مرة بالحياة عند حجر الافتراق (1صم20؛ 23)، ومرة بالموت على جبال جلبوع (1صم31). ولقد عبَّر عن آلام هذا الفراق في المرثاة التي عنونها “نشيد القوس” (2صم1: 17-27).

5. مريم ومرثا وآلام فراق لعازر أخيهما، وكم ذرفتا الدمع السخين حتى إن الرب لما رآهما تبكيان واليهود الذين جاءوا معهما كذلك يبكون «انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ … بَكَى يَسُوعُ» (يو11: 34، 35)، لكنه كفكف لهما الدمع بإعلانه العجيب: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ» (يو11: 25، 26)، ثم أقام لهما أخاهما بكلمة أمره.

6. ولا ننسى لوعة وأسى يايرس وامرأته على موت ابنتهما (لو8: 40-56)، أو حزن أرملة نايين على موت ابنها الوحيد الشاب (لو7: 11-17)، وكيف أعاد الرب البهجة والفرح برجوعهما إلى ذويهم.

7. بولس وافتراقه عن الأحباء؛ فعندما أنهى خطابه الوداعي في ميليتُس «جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى. وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضًا» (أع20: 36-38). ثم في قيصرية، عندما تنبأ “أغابوس” عما سيُقابله بولس في أورشليم، مما جعل الإخوة يتوسلون له أن لا يصعد إلى أورشليم، فأجاب بولس وقال لهم: «مَاذَا تَفْعَلُونَ؟ تَبْكُونَ وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي. لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ لأَجْلِ اسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ» (أع21: 13).

هل تبحث عن  تفسير سفرالعدد - الفهرس

8. وهل نستطيع تقدير أحزان التلاميذ تجاه إعلان الرب عن فراقه لهم: «إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ» (يو16: 20)، وهو ما تم بعد القيامة «فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ» (يو20: 20).
وهل نستطيع أن نُقدّر آلام السيف الذي جاز في أحشاء المُطوَّبة مريم، وحزن الواقفات معها عند الصليب (يو19: 25)، وبكاء مريم المجدلية عند القبر (يو20: 11).

بل حتى في مشهد الصعود، كانت عيون الجميع شاخصة إليه إلى أن جاءتهم رسالة الملاكين بوعد عودته ثانية «إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ. حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ»، «رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (أع1: 11، 12؛ لو24: 52).

وهكذا نحن المتألمين من الفراق والتشتت، تتشدد قوانا كلما سمعنا وعد الرب بالمجيء، ولم الشمل بقيامة الراقدين وتغيير الأحياء، ولقاء العريس على السحاب.

وهاك بعض وعود الرب للمتألمين من فراق الأحباء:

فلمن فقدت زوجها يقول: “أنا قَاضِي الأَرَامِلِ” (مز68: 5).
ولأبنائها يقول: “أنا أَبُو الْيَتَامَى” (مز68: 5).
وللأخ الذي فقد أخـاه أو صديقه يقول: “أنا المُحِبّ الأَلْزَقُ مِنَ الأَخِ” (أم18: 24).
وللأخت التي فقدت أخاها يقول: «سَيَقُومُ أَخُوكِ» (يو11: 23).
وللأم التي فقدت ابنها يقول: «لاَ تَبْكِي» (لو7: 13).
فلنرنم بانتصار
وسرور وهتاف

ولنعش بالانتظار
لرجاء الاختطاف

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي