مقدمة في أسفار موسى الخمسة
1. وحدة الأسفار الخمسة.
2. موسى والأسفار الخمسة.
3. محتويات الأسفار الخمسة.
١.
وحدة الأسفار الخمسة.
تسميتها:
تسمي الأسفار الخمسة الأولي من العهد القديم في اليونانية Pentateuch، تعني “الأسفار الخمسة”، وقد استخدم هذا الاسم في المسيحية منذ عصر مبكر. حاول بعض الدارسين أن يربطوا بين الأسفار الأربعة الأولي في وحدة واحدة معًا تحت اسم Tetrateuch إذ نظروا إلى سفر التثنية بكونه أشبه بمقدمة لتاريخ إسرائيل منذ بدء دخوله إلى الموعد (سفر يشوع)، بينما حاول البعض ضم سفر يشوع إلى الأسفار الخمسة لتكوين وحدة واحدة بين الأسفار الستة الأولي تحت اسم Hexateuch، وأحيانًا حاول البعض ضم الثمانية أسفار الأولي باسم Octateuch لتشمل التاريخ حتى بدء عهد الملوك، لكن لا يزال الفكر التقليدي الأصيل يسود علي الباحثين في الربط بين الأسفار الخمسة الأولي كأساس تاريخي عليه قام شعب الله.
هذه الوحدة عرفها اليهود أيضًا، فالكتاب المقدس في العبرية ينقسم إلى ثلاث وحدات حسب واضعيها:
أولاً – الناموس أو التوراة: يحوي أسفار موسى الخمسة.
ثانيًا – الأنبياء: ينقسمون إلى أنبياء أولين وإلى أنبياء متأخرين. القسم الأول يضم يشوع والقضاة حتى الملوك، أما القسم الثاني فيشمل إشعياء وإرميا وحزقيال والاثنى عشر نبيًا الصغار.
ثالثًا – الكتوهيم وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام: كتب شعرية مثل المزامير والأمثال وأيوب، وكتب ميحيلوت مثل النشيد وراعوث والمراثي والجامعة وأستير، وكتب تاريخية غير نبوية مثل دانيال وعزرا ونحميا وأخبار الأيام.
بهذا تظهر أسفار موسى الخمسة كوحدة تسمي “الناموس” وإن كانت قد حملت أسماء أخري مختلفة وردت في العهدين، منها:
— التوراة أو الشريعة أو الناموس (يش 1: 7، مت 5: 17؛ 12: 5).
— سفر الشريعة أو كتاب الناموس (يش 1: 8، غلا 3: 10).
— سفر توراة موسى (يش 8: 31).
— سفر شريعة الله (يش 24: 26).
— كتاب موسى (2 أي 25: 4؛ مر 12: 26).
— ناموس (شريعة) الرب (2 أي 31: 3؛ لو 2: 23).
— شريعة موسى (1 مل 2: 3، عز 7: 6، لو 2: 22).
وحدة تاريخية:
تمثل هذه الأسفار وحدة تاريخية مترابطة معًا، تبدأ بخلق العالم من أجل الإنسان ثم خلق الإنسان نفسه، وإذ سقط الإنسان هيأ له الخلاص فاختار الله الآباء الأولين إبراهيم وإسحق ويعقوب، وفي مصر بدأت البذرة الأولي للشعب الذي هيأه الله ليتحقق خلاله خلال البشرية كلها، ثم أقيم موسى كأول قائد لهذا الشعب، أخرجه من عبودية فرعون وخلاله تمتعوا بالعهد عند جبل سيناء، وأخيرًا وقف بهم عند الشاطئ الشرقي للأردن ليسلمهم في يد قائد جديد هو يشوع، وكأنه بالناموس يسلمنا ليسوع قائد الحياة وواهب الميراث. هكذا تحقق هذه الأسفار حقبة هامة متكاملة في حياة البشرية من جهة علاقتها بالله، وتمثل دورًا هامًا يعيشه الإنسان، فيه يلمس رعاية الله له واهتمامه بخلاصه.
هذا ومما يجدر ملاحظته أن التاريخ في هذه الأسفار يمتزج بالإيمان، فلا انفصال بين الأحداث التاريخية والعقيدة الإيمانية.
بين التاريخ والإيمان في اليهودية والمسيحية:
في جميع الأمم القديمة ارتبط التاريخ بالدين، فكان الدين يمثل دورًا رئيسيًا في كل جوانب حياتهم اليومية والأسرية والاقتصادية وتحركاتهم السياسية، لكن مع هذا فالتاريخ وهو متأثر بالعقيدة لا يمثل جزءًا منها، أما بالنسبة لليهود فلا انفصال بين التاريخ والإيمان؛ فالتاريخ ليس فقط متأثرًا بالعقيدة وإنما يمثل جزءًا لا يتجزأ من عقيدتهم. بمعنى آخر ترتبط النظرة اللاهوتية للتاريخ بالنظرة اللاهوتية للعقيدة. تاريخ هذا الشعب يمثل جزءًا لا يتجزأ من كلمه الله، ويمثل تدبيرًا إلهيًا فائقًا لأجل خلاص البشرية كلها. بدأ التاريخ بخلق الإنسان حيث يظهر كسفير الله على الأرض يحمل سلطانًا وسيادة على كل ما على الأرض وما تحتها وما في أعماق البحار وما في الجو وحتى الفضاء، ليس له سيد من كل الخليقة بل هو سيد الخليقة الأرضية. وجاء التاريخ يعلن اختيار الله للآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب… وفي كل تصرف وكل عمل ورد في تاريخهم يعلن الله ذاته لنا، بل وفي مفهومنا المسيحي تحمل حياتهم رموزًا متعددة عن مجيء السيد المسيح كمخلص وعمله الخلاصي.
ونحن كمسيحيين لا نرى في هذا التاريخ ماضيًا قد زال، إنما نرى فيه تهيئة إلهية لتدبير خلاصنا، ورموزًا بلا حصر لعمل الله معنا حتى هذا اليوم إنه ليس بالتاريخ في مفهومه العلمي العام، لكنه يقدم لنا سر علاقتنا مع الله وإدراكنا أسراره والتعرف على حكمته السماوية من نحونا. إنه تاريخ حاضر يحمل قوة الحياة خلال لقائنا بالسيد المسيح الذي أعلنه هذا التاريخ وهيأ لمجيئه!
سرّ الوحدة بين الأسفار الخمسة:
يرى [2] R. de Vaux وجود أربعة خيوط ذهبية تربط هذه الأسفار الخمسة معًا في وحدة متكاملة؛ هذه الخيوط هي: الوعد، الاختيار، العهود، الشريعة.
1. الوعد الإلهي: عصب هذه الأسفار تأكيد وعد الله للإنسان الذي أُبرز بصورة خاصة مع إبراهيم فصار أبًا للمؤمنين. فيه نرى الوعد إلهي لخلاص آدم وبنيه متجسمًا، وقد تجدد هذا الوعد خلال الأجيال المتعاقبة. حقًا إن شعب إسرائيل في بداية انطلاقه لم يكن يحمل ثقافة حضارية ذات شأن إذا ما قورنوا بالشعوب المحيطة بهم مثل الفراعنة والبابليين، ولكنهم تمتعوا بنوال الوعد الإلهي عن طريق آبائهم البطاركة المتجولين وخلال هذا الوعد قام وجود الشعب الإسرائيلي.
2. الاختيار: ظهر الوعد الإلهي متجليًا في الاختيار، فلا فضل لآدم في اختياره كإنسان يحمل السيادة على الأرض كلها، ولا فضل للآباء البطاركة في اختيارهم كرجال الله، ولا للشعب في اختياره كأمُة مقدسة، إنما هي محبة الله الفائقة وتدبير حكمته (تث 7: 6) العاملة. إذن لله فضل الاختيار بلا تحيز ولا مجاملة على حساب الحياة المقدسة.
3. العهود: كانت العهود أساسية في المجتمعات الشرقية، كالعهد الذي أُقيم بين إبراهيم وأبيمالك (تك 21: 23)، وبين يعقوب وحميه (تك 31: 44)، وبين داود ويوناثان (1 صم 23: 28). وفي الأسفار الخمسة الأولى يبرز الوحي الإلهي تقدير الله للإنسان، فيرفع من شأنه ليقيم معه عهدًا بل ويدخل معه في عهود متتالية. دخل مع آدم في عهد غير معلن بطريقة مباشرة إن كان آدم في الفردوس قد أدرك محبة الله له فيرد له الحب بالحب. لكنه عصى الله فشوّه صورة العهد، لذلك أقام الله العهد من جديد مع نوح بعد تجديد الأرض خلال مياه المعمودية وسجل علامته في الطبيعة خلال قوس قزح (تك 9). وإذ لم يدرك إنسان مفاهيم هذا العهد أُعطى للعهد علامة في جسد كل ذكر، أي الختان؛ وأخيرًا عند جبل سيناء أقام الله عهده مع شعبه (خر 19). الذي ختمه بدم الذبائح الحيوانية إشارة إلى العهد الذي يسجله الآب على الصليب بدم ابنه الحبيب! هذا هو خيط الحب الذي ربط الأسفار الخمسة معًا ليدخل بنا إلى العهد الجديد.
4. ارتبط العهد بالشريعة: ففي سيناء التحمت الشريعة بقوانين أو شرائع العبادة ودون انفصال بين الوصية والعبادة، أو بين الشرائع والذبائح…
أسفار موسى الخمسة وسفر المزامير:
إذ تنقسم الشريعة إلى خمسة أسفار، يحمل سفر المزامير ذات التقسيم، كل قسم منها ينتهي ببركة:
الكتاب الأول: مز 1 – 41. الكتاب الثاني: مز 42 – 72.
الكتاب الثالث: مز 73 – 89. الكتاب الرابع: مز 90 – 106.
الكتاب الخامس: مز 107 – 150 ( + المزمور 151 في الترجمة السبيعنية).
<<.
٢.
موسى والأسفار.
موسى كاتب الأسفار:
حوالي عام 1167م استلفت نظر ابن عزرا Ibn Ezra كلمات الوحي: “وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض” (تك 12: 6). كأن الكاتب يتحدث بعد ترك الكنعانيين للأرض، الأمر الذي لم يتحقق في أيام موسى النبي، مما جعله ينادي بأن واضع هذه الأسفار آخر غير موسى. وجاءت القرون من السابع عشر حتى العشرين مشحونة بالدراسات النقدية المتطورة للبحث عن مدى علاقة موسى النبي بهذه الأسفار، إن كان هو خلال التقليد الشفوي أو الكتابي الذي تسلمه، أو لعله سجل ملاحظات على الشرائع التي تسلمها وأن شخصًا آخر اعتمد على مذكراته ليضع هذه الأسفار. وأيضًا إن كان هناك مصدر آخر غير ما سلمه موسى شفاهة أو كتابة لكتابة هذه الأسفار… الأمور التي لا أود الإطالة فيها. خاصة وقد ظهر اتجاه جديد مع بدء القرن العشرين بين الدارسين والنقاد يعود إلى تأكيد الفكر التقليدي التاريخي أن واضع هذه الأسفار هو موسى النبي، لكننا قد فضلنا قبل استعراض تطور هذه الدراسات أن نسجل الدلائل والشهادات على أن موسى هو واضع هذه الأسفار بوحي روح الله القدوس.
أولاً – شهادة العهد القديم:
يستطيع الدارس لأسفار موسى الخمسة أن يدرك وجود ثلاثة أجسام للناموس لابد أن يكون موسى النبي نفسه هو الذي سجلها، وهي:
أ. كتاب العهد (خر 20: 22 – خر 23)، والوصايا العشر التي تمثل حجر الزاوية في الشريعة (خر 20: 1 – 17؛ 24: 1 – 12؛ 31: 12 – 18؛ 34: 17 – 28). وجاء في سفر الخروج: “فكتب موسى جميع أقوال الرب” (خر24: 4).
ب. الشرائع الخاصة بخيمة الاجتماع والخدمة (خر25 – 31؛ 35 – 40)، وقد أكد السفر نفسه أن الرب أعلن هذه الشرائع بكل تفاصيلها المذكورة لموسى النبي (خر 25: 1).
ج. أُفتتح سفر التثنية بخطاب لموسى النبي وجهه للجيل الجديد قبل دخولهم أرض كنعان، يحوى مختصرًا تاريخيًا للطريق الذي قادهم الله فيه، مكررًا فيه أجزاء من الناموس. وجاء في هذا السفر: “كتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بنى لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل” (تث 31: 9، 24 – 26).
إن كانت الأسفار الخمسة تشهد أن موسى النبي هو كاتب هذه الأجسام الثلاثة الرئيسية للناموس، فإن العهد القديم ككل يشهد أن موسى هو واضع هذه الأسفار، نذكر بعض العبارات الواردة فيه:
“وقام يشوع بن يوصادق وأخوته الكهنة… وبنوا مذبح إله إسرائيل ليصعدوا علية محرقات كما هو مكتوب في شريعة موسى رجل الله” (عز 3: 2).
“وأقاموا الكهنة في فرقهم واللاويين في أقسامهم على خدمة الله التي في أورشليم كما هو مكتوب في سفر موسى” (عز 6: 18).
“اجتمع كل الشعب كرجل واحد… وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل” (نح 8: 1).
“في ذلك اليوم قرىء في سفر موسى في آذان الشعب” (نح 13: 1).
“كما كتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشر” (دا 9: 13).
يختتم العهد القديم بالعبارة التالية: “اذكروا شريعة موسى التي أمرته بها في حوريب على إسرائيل الفرائض والأحكام” (ملا 4: 4).
ثانيًا – شهادة العهد الجديد:
أ. أقتبس السيد المسيح من الأسفار الخمسة عبارات نسبها لموسى النبي، من ذلك ما جاء في الإنجيل: “فقال لهم يسوع: انظر لا تَقُـل لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدّم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم” (مت 8: 4، راجع لا 14: 4، 10). قارن أيضًا (مت 19: 8، مر 10: 5 مع تث 24: 1؛ مر 7: 10 مع خر 20: 12؛ 21: 17؛ مر 12: 26، لو 20: 37 مع خر 3: 6).
ب. في حديث السيد المسيح عن الناموس نسبه لموسى النبي، وكان هذا هو رأى اليهود في عهده [3]. فلو أن السيد المسيح يعلم أنهم مخطئون لصحح مفاهيمهم، أو على الأقل حين يقتطف منه لا ينسبه لموسى. فيكون السيد المسيح هو الحق (يو 14: 6)، الذي جاء ليشهد للحق (يو 8: 37)، فإنه لا يقبل الخطأ ويصدق عليه.
ج. شهادة رجال العهد الجديد: فقد اعتبروا القراءة في الناموس هي قراءة في موسى (أع 15: 21؛ 2 كو 3: 15، راجع أيضًا رو 10: 5، 19؛ 1 كو 9: 19).
ثالثًا:
نحن نؤمن أن الوحي الإلهي يقدس الفكر الإنساني والثقافة البشرية، فهو لا يملي على واضع السفر كلمات معينة بحرفيتها، إنما يلهب قلبه بالكتابة ويتكلم فيه وبه ويحوط به حتى لا يخطئ، تاركًا إياه يكتب خلال ثقافته الخاصة، فيكتب الإنسان البسيط كعاموس النبي بلغة البساطة، ويكتب الرسول بولس بفكر فلسفي روحي… وهنا إذ يستخدم روح الله موسى النبي نلحظ في أسلوبه ما يشير إلى موسى كرجل تربى في مصر وتعلم حكمة المصريين. فالكاتب يظهر كشخص له إلمام دقيق بمصر، الأمر الذي لا يتحقق مع آخر غير موسى ممن عاشوا في كنعان بعد الخروج بقرون. هذا ما لاحظه كثير من الدارسين في تفصيل، نوجزه في النقاط التالية:
1. جاءت الأسفار الخمسة تضم الكثير من الكلمات المصرية، من ذلك الاسم الذي أعطاه فرعون ليوسف: “صفنات فعنيح” (تك 41: 45) وهو اسم مصري يناسب يوسف الذي خلص مصر من المجاعة، معناه (الله يتكلم وهو يعيش [4]) (أو المولود حديثًا يعيش [5])، وذكر اسم زوجة يوسف “أسنات” (تك 41: 45)، وهو اسم مصري يعني (تنتمي للإلهة نيث Neith [6]). وذكر اسم مدينة هليوبوليس حيث كانت مركز عبادة إله الشمس باسمها المصري القديم “أون” (تك 41: 45، 50؛ 46: 20). وذكر أيضًا الاسم المصري لمدينة رعمسيس (تك 47: 11؛ خر 1: 11؛ 12: 37؛ عد 33: 3، 5)، وأيضًا فيثومPi – Tum الاسم الذي أشير إليه في آثار الأسرة الـ 19، الأمر الذي يتفق تمامًا مع الخروج. ولقب كأس يوسف الذي أمر بوضعه في فم عدل بنيامين بالاسم المصري للكأس الإلهي “طاسى”، التعبير الذي لم يُستخدم في غير الأسفار الخمسة إلاَّ في (إر 35: 5)، وقد وُجد إرميا في مصر. وهناك كلمات أخرى كثيرة مصرية، أو مصرية عبرانية أي حملت مسحة عبرانية.
2. بجانب الكلمات المصرية سجلت لنا هذه الأسفار بعض العادات المصرية الدقيقة التي لا يعرفها إلا من عاش في مصر في ذلك الحين، منها عادة زواج الخصيان التي لم يُشر إليها في كل العهد القديم سوى في (تك 37: 36؛ 39: 1). ربما كلمة “خصي” هنا تشير إلى صاحب وظيفة كبرى لدى فرعون (تك 40: 20)، وهي عادة لم تعرف في إسرائيل، وإنما حدثت مرة واحدة في زمن متأخر مع هيرودس الملك (مت 14: 6؛ مر 6: 21). كذلك عادة تقديم الخاتم ووضع طوق ذهب في عنق من يوّد تكريمه بالسلطة (تك 41: 42) لم تعرف في إسرائيل، إنما وجدت في مصر وفارس وبابل (إش 3: 10، 12؛ 8، 10؛ دا 5: 29). أيضًا عزل إخوة يوسف عن يوسف والمصريين على المائدة (تك 43: 32) مع تقديم عبارة توضيحية أن المصريين لا يأكلون خبزًا مع العبرانيين إذ هو رجس عند المصريين. كذلك تقديم ملاحظة أن كل راعي غنم هو رجس عند المصريين (تك 46: 34). هذا وقد أوضح الكاتب أنه على دراية بأرض الكهنة في مصر (تك 47: 22).
3. من الناحية الجغرافية يعرف الكاتب سمات شاطئ نهر النيل كما يعرف رمل البرية (خر 2: 12)، والبردي المصري (خر 2: 3)، وموقع رعمسيس وسكوت (خر 2: 37) وإيثام (خر 13: 20) وفم الحيروث (خر 14: 2). ويظهر إدراكه لجغرافيتها من قوله: “قد استغلق عليهم القفر” (خر 24: 3).
رابعًا:
يرى كثير من الدارسين أن القوانين الخاصة باللآويين (خر20 – 23؛ 25 – 31؛ 35 – 40؛ عد 5؛ 6؛ 8 – 10؛ 15 – 19) والواردة في سفر اللآويين… تحمل علامات تشير إلى أنها وضعت في أيام موسى وليس في عصر متأخر عنه. ومن الدلائل التي قدمها Rawlinson على ذلك هي [7]:
1. يرى [8] Prof. Main أن هذه الشرائع بدائية تناسب عصر موسى إذ جاءت مزيجًا بين شرائع دينية وأخرى مدنية وسلوكية واقتصادية.
2. امتزجت الشرائع بالجنب التاريخي القصصي مما يدل على أنها كُتبت أثناء التجول في البرية.
3. جاءت بعض هذه الشرائع تناسب الرّحل ساكني الخيام.
4. يلاحظ في هذه الشرائع تجنب الحديث عن الشمس بطريقة مكرمة كما في العبادة (مز 19: 4)، مما يدل على أن الكاتب خشي عليهم لئلا يسقطوا في عبادة الشمس مثل المصريين…
خامسًا:
يرى بعض الدارسين أن سفر التثنية يحمل في داخله شهادة على أنه موضوع في موسى النبي وليس كما ادعى البعض أنه في عهد يوشيا الملك أو منسى، من ذلك طريقة معالجته لطرد الكنعانيين من مدن البلاد إذ جاءت تناسب أيام موسى لا أيام الملوك (تث 20: 10 – 20).
تطور الدراسات في أسفار موسى الخمسة:
قلنا أن ابن عزرا في القرن الثاني عشر لاحظ من (تك 12: 6) أن واضع السفر يتحدث عن طرد الكنعانيين كحدث ماضٍ، وكأن الكاتب جاء بعد موسى النبي.
وفي القرن السابع عشر قال Richard Simon (عام 1685) أن الأسفار الخمسة قد استخدمت ملاحظات موسى ومذكراته لكن الواضع أضاف إليها بعض الموارد. ورأى الفيلسوفThomas Hobbes أن هذه الأسفار مع أسفار الملوك من وضع عزرا الكاتب.
وفيما يلي ملخص سريع لتطور الدراسات الخاصة بالأسفار الخمسة:
1. نظرية المصادر القديمة: The Old Documents Hypothesis.
ملخص هذه النظرية أن موسى النبي استخدم وثائق سابقة، اتسمت كوثيقة بذكر اسم الله بلقب مختلف عن الوثائق الأخرى. فقد لاحظ H. B. Witter (عام 1711) أن اسم الجلالة في هذه الأسفار تارة يكتب ألوهيم Elohim وأخرى يهوهJehovah هذا وقد ذُكرت الخليقة مرتين في سفر التكوين (1 – 3: 24) مما جعله يعتقد بوجود مصدرين سابقين استخدمهما موسى، يمثلان تقليدًا استلمه موسى شفاهة أو كتابة. وقد اتخذ الطبيب الفرنسيJean Astruc (عام 1753) بنفس النظرية خلال دراسته المستقلة عن Witter، فقال إن موسى استقى معلوماته عن مصدر ألوهيميElohistic (أي يستخدم كلمة ألوهيم) وآخر يستخدم اسم يهوهYahwistic، هذا بجانب عشرة مصادر أخرى قدمت مقتطفات صغيرة، فروعها في أربعة أنهر، أخيرًا ظهر سفر التكوين.
أخذ أيضًاJ. G. Eichorn بنظرية وجود مصدرين سابقين لموسى في كتابه Introl to the O. T. (1780 – 1783)، أماK. D. Ilgen (1798م) فنادى بوجود ثلاثة مصادر سابقة، أحد هذه المصادر استخدم تعبير “يهوه” والمصدران الآخران استخدما تعبير “ألوهيم”.
2. نظرية المصادر غير الكاملة: The Fragment Hypothesis.
إن كانت النظرية السابقة قد قامت في جوهرها على وجود مصدرين أو ثلاثة استخدمها موسى النبي في وضع هذه الأسفار، فإن النظرية أو وجهة النظر التي مثلها Vater (1805م) وHartman (1831م) تقوم على استخدام مصادر غير كاملة (مجموعة متفرقات) تبلغ حوالي الثلاثين أو أكثر، كل منها مستقل عن الأخرى، لكن هذه النظرية لم تجد استجابة من الدارسين.
3. نظرية التكميل: The Supplementary Hypothesis.
تقوم على أساس وجود عدة وثائق لاحقة لموسى النبي، قام واضع هذه الأسفار بتكميلها فيما بينها. اقترح هذه النظريةH. G. Ewald (1831م)، وتبعةBleek (1836م)، ثم تبناهاJ. C. F. Tuch (1938م) في تعليقاته على سفر التكوين، وأيضًاF. Delitzsch (1852م). اعتقد Ewald بوجود مصدر ألوهيمي في عصر متأخر عن موسى أضيف إليه أجزاء أقدم منه مثل الوصايا العشر وكتاب العهد. وتلقف آخر هذا الإنتاج ليضيف عليه أجزاء من وثيقةYahwistic تستخدم تعبير “يهوه“. مع أنEwald هو مؤسس هذه النظرية لكنه وصل بنفسه إلى هدمها، مناديًا في كتابةHistory of Israel (1843 – 1855) بوجود نهرين: ألوهيمي وYahwistic.
4. نظرية الوثائق الحديثة:
قدمH. Hupfeld (1853م) اتجاهًا جديدًا في الدراسات الخاصة بالأسفار الخمسة، خلال دراسته لسفر التكوين، جاء فيه أن الوثائق وهي متأخرة عن عصر موسى ليست مكملة لبعضها البعض لكنها تمثل ثلاثة أنهر قصصية كاملة: ألوهيمية الأصل، وألوهيمية متأخرة، ويهودية، ثم قامت يد رابعة منقحة تربط بين هذه الوثائق معًا.
وفي عام 1805م نادىWette بوجود وثيقة أخرى خاصة بالتثنية اكتشفت حوالي عام 621 ق. م، وأنها وضعت قبل ذلك بفترة قصيرة. وفي عام 1854 نادىE. Reuss بوجود وثيقة رابعة دعاها بالوثيقة الكهنوتية Priestly Document، وقد أعطيت رموز لهذه الوثائق هي:
E الألوهيمية Elohist J اليهودية Yahwistic.
D خاصة بالتثنية Deuteronomy P الكهنوتية Priestly.
قامGraft بنشر هذه النظرية عام 166، ودافع عنهاA. Kuenen (1869 – 1870)، وفيما بعد أعطاهاJ. Welhausen (1878م) تعبيرات كلاسيكية في كتابة History Of Israel I، وقد عرفت النظرية باسمGraft. Welhausen أو Welhausen وحده، وأُدخلت عليها بعض التعديلات.
5. النقد التقليدي – التاريخي: The Tradits – Historical Criticism.
مع بداية القرن العشرين ظهر اتجاه قوي بضرورة العودة إلى الفكر التقليدي الأصيل: أن الكاتب هو موسى النبي نفسه، وإن كانت بعض العبارات القليلة قد أضيفت بعده مثل قصة موته.
تأسست هذه النظرية في إسكندنافيه في مدرسةUppsala يمثلها 1. Engell عام 1945 الذي نادي بأنه من الخطأ التطلع إلى وجود وثائق متوازية معًا عند وضع هذه الأسفار، خاصة أنه لا أثر لهذه الوثائق.
الرد علي اعتراضات النقاد:
إن كانت الدراسات السابق الإشارة إليها تقوم علي أساس عقلي بحت بعيد كل البعد عن الجانب الإيماني وعن مفهوم الوحي الإلهي، فإنني إذ قدمت لها عرضًا سريعًا أقدم حجج المعترضين علي كون موسى هو واضع هذه الأسفار ورد الدارسين عليها.
الاعتراض الأول:
رأينا أن العامل الرئيسي لظهور هذه النظريات هو ذكر اسم الجلالة بألقاب كثيرة، خاصة اللقبين “ألوهيم ويهوه” مما جعل النقاد ينادون بوجود أكثر من مصدر لهذه الأسفار.
الـرد:
لو أن الكاتب مجرد منقح لأكثر من مصدر فإنه لم يكن يصعب عليه في التنقيح أستخدم لقب آخر لله، وأن أعطيته لقبًا آخر فلا يكون بكثرة ولا في نفس الموضع. ففي قصة الخليقة (تك1: 1؛ 2: 4) يُلقب الله بألوهيم، وفي تكملة القصة (تك 2: 4 – 25) يستخدم لقب يهوه. وهكذا أيضًا في قصة الطوفان (تك 6: 5؛ 9: 19) يستخدم أحيانًا ألوهيم وأحيانًا يهوه… مما يؤكد أن الوحي أراد تقديم الله للمؤمنين خلال أكثر من لقب ليعلن لهم عن عمله مع البشرية. فتارة يستخدم لقب: “ألوهيم” وهي جمع كلمة “الله” ليؤكد التثليث ليهيئ البشرية للعمل الخلاصي إذ يرسل الآب الابن فدية عنا ويقوم الروح القدس بالشركة بيننا وبين الله… وأخري يلقبه: “يهوه” معلنًا أنه فوق كل الادراكات [9]، وثالثة: “مشاداي” بكونه ضابط الكل المهتم بكل كبيرة وصغيرة في حياة أولاه، ورابعة: “الايليون” El Elyon أي العلي لكي يرفع قلوب مؤمنيه إلى الأعالي، وخامسًا: “الأولام” El Olam أي الأبدي لكي ينطلق بنا إلى ما هو فوق الزمن فنشتهي أن نوجد معه في الأبديات… في اختصار أن ألقاب الله ليست دليلاً علي وجود وثائق مختلفة للأسفار وإنما غايتها إعلان سر الله وسماته التي تمس إيماننا وتتفاعل مع حياتنا ومفاهيمنا وسلوكنا.
الاعتراض الثاني:
يعترض بعض الدارسين بقولهم أن موسى كان قائدًا عمليًا وليس كاتبًا [10].
الـرد:
إن كنا قد تعرفنا علي أعمال موسى النبي القيادية خلال الكتاب المقدس، فإن الكتاب يقدمه لنا أيضًا ككاتب [11]، لم يكن يوجد في عهده ولا من بعده من هو أقدر منه علي الكتابة، يستخدمه الروح القدس لتقديم كلمة الله الحية خلال تاريخ تلك الحقبة الزمنية ممتزجة بالشريعة الإلهية.
أولاً: إن كان موسى قد تعلم حكمة المصريين (خر 2: 10، أع 7: 21) التي تشمل الكتابة، فإن الله الذي يقدس المواهب البشرية أعطاه ما هو أعظم من الحكمة المصرية… ملأه من حكمته الإلهية، فسجل لنا هذه الأسفار المقدسة بوحي الروح القدس ليعمل الله بها عبر الأجيال.
ثانيًا: تسلم موسى النبي المعلومات الخاصة بالخليقة عن التقليد الذي يمكن أن يكون قد سُلم من آدم الرجل الأول حتى آخر من رآه من أحفاده، والأخير قدم ما سمعه بأذنيه من آدم إلى آخر حفيد له قد عاصره، وهكذا يكون موسى الشخص الخامس الذي تسلم التقليد نقلاً عن آدم. ويري بعض الدارسين أن يوسف إذ جاء إلى مصر وجاء بعده والده أودع في خزانة فرعون ما تسلمه عن آبائه، الأمر الذي تسلمه موسى عن القصر.
ثالثًا: حملت الأسفار الخمسة الوصايا العشر والشريعة الأمور التي تسلمها موسى نفسه، كما سجل دقائق أحداث الخروج والبرية الأمور التي لا يعرف أحد تفاصيلها مثله.
رابعًا: عاش موسى النبي نحو أربعين سنة في البرية، ومع انشغاله بالقيادة إذ سمع مشورة حميه يثرون (خر 18: 13 – 26) وزّع القضايا الصغرى علي شيوخ الشعب وتفرغ هو للأمور الكبرى، مما أعطاه الفرصة والوقت الكافي للكتابة.
خامسًا: فترة رعايته للغنم حوالي 40 عامًا أكسبته حيوية في التأمل في محبة الله وتدابيره، مما ألهب نفسه للكتابة بعد ذلك، فإن كان في اتضاع أعلن أنه ليس بصاحب كلام (خر 4: 10) لكنه بحق صار أداة مقدسة حية في يد الله للعمل القيادي الحيّ الملتحم بالكتابة المقدسة.
الاعتراض الثالث:
يعترض البعض علي نسبة هذه الأسفار لموسى النبي لما ظهر في الأسفار من عهد يشوع حتى السبي كأن الشريعة الخاصة باللآويين لم تكن موجودة، معتمدين علي بعض العبارات التي أهمها: “هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا، لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة أو ذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلاً: اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهًا، وأنتم تكونون لي شعبًا، وسيروا في الطريق الذي أوصيكم به ليحسن إليكم” (إر 7: 21 – 23 راجع عا 5: 21 – 25؛ مي 6: 6 – 8؛ إش 1: 11 – 15). فيقول النقاد لو أن موسى كان قد كتب الأسفار الخمسة التي حوت شرائع الذبائح وطقوسها لما قال إرميا وغيره من الأنبياء مثل هذه العبارة.
الـرد:
لا يفهم من كلمات إرميا النبي وغيره أنهم كانوا يجهلون طقوس الذبائح، ولا عدم كتابة سفر اللآويين… فإن هذه العبارات لا تفهم بطريقة حرفية قاتلة، وإنما تُفسر هكذا:
أولاً: خلط اليهود بين تقديم الذبائح لله وللأوثان، فظنوا أنهم يرضون الله بتقديم الذبائح له في الوقت الذي فيه يقدمون ذبائح وثنية لإشباع شهواتهم، لذا قيل: “ذبحوا لأوثان ليست الله” (تث 32: 17). وجاء في سفر حزقيال أن اليهود مارسوا العبادات الوثنية برجاساتها جنبًا إلى جنب مع الطقس اليهودي فحسب الله عبادتهم له إغاظة له وفارق مجده بيته ومدينته (حز 10: 18، 19؛ 11: 32، 33). الله لا يُغش بذبائح ولا يُرتش بتقدمات من أيد دنسة مصممة علي الشر… لهذا يعلن أنه لم يطلب ذبائح ولا في حاجة إلى تقدمات.
ثانيًا: صمت الأنبياء عن الجوانب الطقسية الواردة في سفر اللآويين لا يعني عدم معرفتهم بالسفر لعدم كتابته بعد وإنما لأن الارتداد في عصرهم لم يكن عن مخالفة للطقوس الدينية وإنما ارتداد في السلوك لهذا اهتموا بالجانب السلوكي العملي.
ثالثًا: لما كانت الذبائح مجرد رمز لذبيحة المسيا، فإن الله يحسب نفسه كمن لم يوصِ بها ما دامت قد انحرفت عن غايتها وصارت في شكلية تمارس إرضاءً للضمير دون شوق للمصالحة.
رابعًا: إن كان النقاد قد نادوا بأن الأنبياء عرفوا سفر التثنية واقتبسوا منه دون سفر اللآويين، فإن سفر التثنية إنما هو تذكره لشريعة قائمة فعلاً وردت في اللآويين. هذا وأن عاموس النبي قد أشار أيضًا إلى اللآويين (عا 4: 4، 5؛ 5: 21).
الاعتراض الرابع.
يستخدم بعض النقاد مدلولات جغرافية يظنون أنها تؤكد بأن هذه الأسفار وضعت في عصر لاحق لموسى، من ذلك القول: “في عبر الأردن” (تث 1: 1، 5؛ 3: 8؛ 41 – 49). كأن الكاتب يتكلم في الضفة الغربية ليتحدث عن الضفة الأخرى (الشرقية) حيث كان موسى مقيمًا. لكن كما يقول: J. Raven أن هذا التعبير يمكن استخدامه من كان في شرق الأردن أو في غربة علي السواء، معطيًا أمثلة بذلك: (تث 3: 20، 25؛ يش 9: 1؛ عد 22: 1؛ 32: 32؛ تك 50: 10، 11).
من الدلائل الجغرافية الأخرى أن الأسفار الخمسة تذكر مدينة “دان” عوض “لايش” (تك 14: 14؛ تث 34: 1)، مع أن لايش لم تحمل هذا الاسم إلاَّ بعد نصرة الدانيين لها بعد عصر موسى. يجيب Raven بأنه ليس بالضرورة أن تكون دان الواردة في (تك 14: 14) هي لايش، إنما يحتمل أن تكون مدينة أخري تحمل اسم دان. أما ما ورد في (تث 34: 1) فنحن نعلم أن الفصل الأخير من سفر التثنية كتب بعد موت موسى.
وأيضًا المنطقة التي سميت “حووت يائير إلى هذا اليوم” (تث 3: 14)، تشير إلى أن واضع هذا السفر بعد موسى النبي، حيث أُعطي هذا الاسم متأخرًا (عد 32: 41؛ يش 13: 3؛ قض 10: 4). لكن Raven يجيب بأن هذا الاسم يعني (قري يائير) (عد 32: 4)، ويشير إلى تسمية يائير لبعض القرى في جلعاد علي اسمه، وقد صنع ذات الأمر في باشان (تث 3: 14)، هذا وأن يائير المذكورة في الأسفار الخمسة لا تعني بالضرورة يائير المذكورة في سفر القضاة.
أيضًا قول يوسف: “لأني قد سرقت من أرض العبرانيين” (تك 40: 15)… مع أن العبرانيين لم يكونوا بعد قد امتلكوا الأرض، ولا حتى في أيام موسى النبي. ويرد علي ذلك بأن كلمة “عبرانيين” كانت تشير إلى من هم غير مستقرين في أرضهم، فقد دُعي إبراهيم بـ “عابر” (تك 14: 13)، وقد عُرف كرئيس صاحب سلطان (تك 23: 6) وأيضًا إسحق (تك 26: 13) ويعقوب (تك 34)، فالأرض التي عاش فيها هؤلاء البطاركة الثلاثة قرابة قرنين ربما حملت اسم “أرض العبرانيين“، ولعله لذات السبب نجد امرأة فوطيفار تدعوا يوسف في أكثر من موضع عبرانيًا (تك 39: 14، 17).
الاعتراض الخامس:
استخدم بعض الدلالات الخاصة بالآثار القديمة Archeological في رفض نسب هذه الأسفار لموسى النبي من ذلك ما جاء في (خر 16: 36) “وأما العُمِر فهو عشر الايفة” مدعين أنه من الناحية الأثرية لم يعرف العُمر في عصر موسى. يرد علي ذلك بأن الايفة كلمة مشتقة عن المصرية، وأنه كان من السهل علي العبرانيين الخارجين من مصر أن يعرفوا الايفة، لذلك فسر الكتاب العمر بالايفة المعروفة لموسى ومعاصريه.
كذلك تعبير “شاقل القدس” (خر 30: 13؛ 38: 24 – 26) يفترض أن الهيكل قد أُقيم وطقوسه قد استخدمت لمدة طويلة [12]. يُرد علي ذلك بأن هذا التعبير كان جديدًا في ذلك الوقت بدليل إيضاحه ثلاث مرات (خر 30: 13؛ لا 27: 25؛ عد 3: 47) وأنه لم يكن بعد قد أُستخدم.
يتحدث موسى النبي عن أصل عوج ملك باشان وسريره الحديدي (تث 3: 11) لسامعيه كمن لم يعرفوه مع أن السامعين في أيام موسى غلبوا الملك وقتلوه [13]. فلماذا يشرحه لهم؟ يرد علي ذلك بأن موسى الني يكتب لعامة الشعب الذين لم يعرفوا عن عوج هذه الأمور حتى وإن كانوا قد غلبوه، كما يكتب للأجيال التالية.
الاعتراض السادس:
اعتمد النقاد علي بعض الجوانب التاريخية في افتراضهم أن الكاتب غير موسى. من ذلك ما ورد في (عد 21: 14، 15) من مقتطف شعري عن “كتاب حروب يهوه” الذي شرح الكاتب أن يخص أرنون… ولما كان هذا الكتاب معاصرًا لموسى فلم تكن هناك حاجة لهذا الشرح. ويجيب الدارسون أن الشرح ضروري لأن موسى لا يكتب لمعاصريه العارفين هذه الأمور وإنما يكتب للأجيال كلها.
اعتمدوا أيضًا علي كلمة “حينئذ” في القول بأن الكنعانيين كانوا حينئذ في الأرض (تك 12: 6؛ 13: 7) كدليل علي أن الكنعانيين لم يكونوا في الأرض أثناء وضع هذا السفر، الأمر الذي لم يتحقق إلاَّ بعد موسى. يجيب Raven J. بأن الكلمة “حينئذ” في (تك 12: 6) طبيعية ولازمة، بدونها ربما يتساءل القارئ: هل كان الكنعانيون قد تركوا الأرض عند كتابة السفر. فتأكيد وجودهم أيام إبراهيم بالرغم من وجودهم حتى في أيام موسى يعطي للوعد قوة أعظم، إذ يهبها لنسله بالرغم من وجودهم. أما ذكرها في (تك 13: 7) فيمثل شرحًا وتوضيحًا بأنه لم يكن هناك موضع كافٍ لغنم إبراهيم وغنم لوط خاصة لوجود الكنعانيين بغنمهم في الأرض.
جاء أيضًا (تك 36: 31): “وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما مَلَكَ ملِك لبني إسرائيل” وكأن الكاتب قد عاصر عهد الملوك. يُرد علي ذلك بأن الكاتب موسى النبي الذي وإن كان لم يعاصر عهد الملوك لكنه وهو يتحدث عن وجود ملوك لأدوم أدرك أنه سيتحقق وعد الله ويُقام ملوك لبني إسرائيل إذ قيل لإبراهيم: “وملوك منك يخرجون” (تك 17: 6)، كما نال يعقوب ذات الوعد (تك 35: 11)، وتنبأ عن قيامهم في بركته لابنه يهوذا (تك 49: 10)، وتنبأ بلعام في عصر موسى عن قيامهم (عد 24: 7). كان في ذهن موسى النبي قيام ملوك إسرائيليين لذا قدم وصايا خاصة باختيارهم وسماتهم (تث 17: 14 – 20). وكأن موسى النبي في عبارته السابقة (تك 36: 31) يعلن أنه وإن كان لأدوم ثمانية ملوك لكن الله سيقيم لشعبه المختار ملوكًا بالرغم من عدم تحقق الوعد حتى تلك اللحظات [14].
يسأل البعض: إن كان موسى النبي هو واضع هذه الأسفار فلماذا صمت عن ذكر اسم الأميرة التي انتشلته من الماء، واسم فرعون الذي ضايقه، وعن موت زوجته صفوره، وعن اسم زوجته الكوشية، وكيف يشير إلى نفسه كإنسان وديع؟ يُجاب علي ذلك بأن صمته عن ذكر اسمي الأميرة وفرعون أمر طبيعي، إذ كانا معروفين لمعاصري موسى النبي، ولو كان الكاتب في عصر متأخر عن موسى لالتزم بذكر الاسمين حسب التقليد المتداول بين اليهود. أما صمته عن موت زوجته الأولي صفوره واقتضاب حديثه عن الزوجة الكوشية وعدم ذكر اسمها، فإن النبي لم يرد الاسترسال في ذلك لأن الزواج الثاني غير مستحب واكتفي بالإشارة إليه بكونه رمزًا لدخول الأمم إلى الإيمان ممثلين في الكوشية. أما عن دعوة نفسه أنه وديع فلم يكتب علي سبيل الافتخار إنما ألزمه الوحي بذلك ليعلن بطريقة غير مباشرة أن المؤهل الرئيسي في القيادة الروحية السليمة هو الوداعة. وأننا نري المرتل أيضًا يدعو نفسه وديعًا (مز 9: 13، 14؛ 10: 17). إن كان رجل الله موسى لم يحذف أخطاؤه ولا قلل من شأنها ذاكرًا تأديبات الله له حتى حُرم من التمتع بالدخول إلى أرض الموعد فمن الإنصاف أن يبرز الوحي الجوانب الصالحة التي وهبه الله إياها.
<<.
3.
محتويات الأسفار الخمسة.
عرضت لنا هذه الأسفار المقدسة حديثًا تاريخيًا ممتزجًا بالعقيدة يكشف عن خطة الله من جهة الإنسان، فكشفت عن الله كخالق للإنسان، يهتم بكل أموره الروحية والنفسية والجسدية. أقامه صاحب سلطان، لكنه إذ حرم نفسه بنفسه من هذا المركز الفريد اهتم الله بخلاصه فاختار الآباء البطاركة كتهيئة لاختيار شعبه ومساندتهم بكل إمكانية حتى ينطلق بهم من أرض العبودية ويرافقهم في البرية ويعولهم ماديًا ويهتم بتقديم شرائع مقدسة، حتى ينطلق بهم تحت قيادة موسى النبي إلى جبل موآب حيث يقف علي شاطئ نهر الأردن ويسلمهم لقائد جديد هو يشوع رمز يسوع المسيح واهب الميراث.
أولاً: الخليقة كمقدمة لتاريخ الخلاص التكوين 1 – 11.
ثانيًا: اختيار البطاركة كتهيئة لاختيار شعبه 12 – 50.
- إبراهيم. 12 – 25.
- إسحق. 25 – 26.
- يعقوب. 26 – 36.
- يوسف. 37 – 50.
ثالثًا: اختيار شعبه وتحريره من العبودية الخروج 1 – 18.
رابعًا: مساندته لشعبه 19 – 24.
- بتقديم الشريعة والدخول معهم في عهد. 19 – 24.
- بقبوله إقامة مقدس له في وسطهم وكهنة له. 25 – 31.
- بتجديد اللوحين حتى بعد انتهاكهم المقدسات. 32 – 34.
- بإقامة المقدس. 35 – 40.
- بطلبه ذبائح بطقوس متنوعة. اللاويين 1 – 7.
- بسيامة هرون وبنيه. 8 – 10.
- بالتطهير الناموسي. 11 – 16.
- بالقداسة الموسوية. 17 – 26.
- بقبوله نذورهم وعشورهم. 27.
خامسًا: اهتمامه بشعبه في البرية.
سادسًا: علي جبل موآب.
- موسى يستعيد الأحداث. التثنية 1 – 4: 33.
- شرح معني العهد. 4: 34 – 11.
- الشريعة. 12 – 26.
- البركات واللعنات. 27 – 30.
- اختيار يشوع. 31.
- تسبحة النصرة. 32.
- مباركة الأسباط. 33.
- موت موسى ودفنه. 34.
مقدمة في التكوين.
اسم السفر:
يُدعي في العبرية “بي راشيت” وهي الكلمة العبرية الأولي من السفر نفسه وتعني (في البدء)، أما تسميته “التكوين” فمترجمة عن السبعينية وتعني (الأصل) أو (بداية الأمور).
كاتبة:
موسى النبي، يظن أنه كتبه في مديان عندما كان يرعى غنم حميه يثرون، والأرجح أنه كتبه بعد استلامه لوحي الشريعة. وقد تعلم الكتابة من المصريين الذين تثقف بحكمتهم، وإن كان الذي علّم التلاميذ اللغات يوم الخمسين قادر أن يعلم موسى الكتابة.
غايته وسماته:
1. شغل موضوع الخلقية العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبي وكان يحمل مزيجًا من الأساطير والخرافات، لذا التزم موسى أن يسجل في شيء من البساطة التي يمكن أن يفهمها حتى الرجل العامي في شرحه للخليقة بعيدة كل البعد عن الخزعبلات القديمة. ومما يجدر ملاحظته أنه لم يقدم “لاهوتًا خاصًا بالخلق Ktisiology” إنما حدثنا عن الخلق كطريق لتفهم عمل الله الخلاصي. فالوحي الإلهي لم يهدف إلى عرض لاهوتيات وفلسفات خاصة بالخليقة وإنما أراد أن يدخل بنا إلى الخالق الذي يهتم بتجديد الخليقة بعد فسادها. وكما يقول أحد الدارسين: (في إسرائيل كان علم اللاهوت الخاص بالخليقة Ktisiology يعتبر ثانويًا معتمدًا علي علم اللاهوت الخاص بالخلاص Soteriology) [15].
يري القديس ديديموس الضرير في تفسيره لسفر التكوين أن غاية الوحي الإلهي من الحديث عن الخلق هو تصحيح الأفكار الخاطئة التي تسربت إلى إسرائيل في هذا الشأن من العبادات الوثنية المصرية. أما القديس باسيليوس فيؤكد أن عمل الكنيسة ليس دراسة طبيعة المخلوقات (أي الدراسات الفلسفية العقلية الجافة) وإنما النظر في أعمالها ونفعها [16]، وان موسى النبي كتب في بساطة ليؤكد بعض الحقائق التي شوهها بعض الفلاسفة الملحدين، فأكد أن العالم ليس وليد الصدفة [17]، وإنما هو عمل خالق ماهر، وانه ليس أزليًا مع الله ولا يشاركه أبديته إنما له بداية ونهاية [18].
2. أبرز هذا السفر جانبًا هامًا يمس علاقتنا بالله. فالإنسان في نظر الله ليس مجرد خليقة وسط ملايين من المخلوقات الأرضية والسماوية لكنه كائن فريد يحمل السمة الأرضية في الجسد والسماوية في الروح. له تقديره الخاص في عيني الله. وهبة الله الإرادة الحرة التي تميز بها عن سائر المخلوقات الأرضية، فالأرض بكل جبروتها والكواكب بكل عظمتها تسير حسب قوانين طبيعية موضوعة لها، والحيوانات تسلك حسب غريزة طبيعية، أما الإنسان فالكائن الحرّ له أن يختار الطريق ويسلك حسبما يقرر.
من أجل هذا خلق الله الإنسان سيدًا علي الأرض، ومتسلطًا علي كل ما عليها وما تحتها، ما في البحار وما في الهواء… حتى علي الفضاء! لقد وهبه صورته ومثاله وأقامه كسفير له.
وتبرز نظرة الله لنا واعتزازه بنا من شوقه أن ينسب نفسه إلينا متي تأهلنا لذلك، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب… يود أن يكون إلهًا خاصًا بكل ابن له.
3. أبرز هذا السفر أبوة الله الفائقة للإنسان، فلم يخلقه أسيرًا كما تخيلته بعض الفلسفات المعاصرة، ولا أقامه في مذلة يتحكم فيه كيفما أراد، وإنما أقامه ابنًا محبوبًا لديه، من أجله خلق المسكونة وقد هيأ له الأمجاد الأبدية ليرفعه إلى حيث يوجد الله أبوه ليعيش الإنسان شريكًا في المجد، متنعمًا بالأبوة الفائقة. قيل عن أحدهم أنه إذ كان يحتضر تبسم بفرح وهو يخاطب الله: “هل أنت خلقت العالم لأجلي، أم أنا الذي جبلته؟ الآن أستطيع أن أقول انك قادر أن تشبعني وترعاني!”. هذا ما هدف إليه سفر التكوين: يقدم لنا الله الخالق للعالم المادي ومؤسس العالم الروحي. في أبوته الحانية خلق من أجلي السماء والأرض الماديتين لينطلق بي إلى مجيئه الأخير لأنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة علي مستوي ملائكي أبدي!
4. يري البعض في هذا السفر أنه أهم أسفار الكتاب المقدس، إن صح التعبير. إذ يضع الأساس لكل إعلان، يفتح لنا الباب لإدراك المفاهيم اللاهوتية السليمة، فيعرفنا عن الله وعلاقته، ووصيته الإلهية وعملها في حياتنا. حدثنا عن الأسرة البشرية في الرب كيف انطلق من خلق الإنسان إلى تكوين أسرة مقدسة، فعشيرة ثم شعب لله. كشف لنا عن مفهوم الزواج والحياة الأسرية، كما عرفنا علاقتنا بالجسد والخليقة غير العاقلة. فضح عدو الخير وأعلن خططه المهلكة وشهوته من جهة هلاك الإنسان. أخيرًا يضع السفر الأساس لتاريخ الخلاص والنبوة الخ…
5. الله في حبه للإنسان قدم أسراره له – قدر ما يحتمل – لا للمعرفة العقلية الجامدة وإنما ليدخل معه في صداقة أبدية، وكأنه بالصديق الذي يفتح خزائن قلبه لصديقه حتى يدخل به من يوم إلى يوم إلى أعماق جديدة في الصداقة. فإن حدثنا الرب عن ألقابه الإلهية مثلاً إنما لكي نتعرف عليه خلال هذه الألقاب وننعم بعمله معنا وفينا. فلا نجد في السفر كتابات فلسفية نظرية ومبادئ جامدة وقوانين حرفية، لكننا نري الله متجليًا كصديق، فيتمشى صوته عند هبوب ريح النهار في الجنة ليلتقي بالإنسان الساقط، وفي الحقل يحاج قايين القاتل، وعند ثورة بابل ينزل ليري ماذا يفعل الإنسان، وفي وقت الظهيرة يتقبل مع ملاكيه ضيافة إبراهيم، وفي الطريق يلتقي مع يعقوب في صراع ليحطم اعتداده بذاته…
6. إذ أفسدت الخطية عيني الإنسان وأفقدته القدرة علي اللقاء مع صديقه الأعظم قدم لنا هذا السفر منهج العبادة لله بكونه يحمل شقين متلازمين: الذبيحة لأجل المصالحة والسلوك الحيّ لحمل سمات الله فينا… وهكذا عرفنا هذا السفر مفهوم العبادة كسر مصالحة مع الله خلال الذبيحة وحياة معه خلال شركة الحب العامل.
7. يمكننا القول بأن الكتاب المقدس كله جاء ليكشف ما ورد في هذا السفر عن حديث الله للحية: “وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يستحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (3: 15). فالكتاب المقدس إنما يعلن الصراع المرّ بين عدو الخير والإنسان الذي ينتهي بنصرة الإنسان خلال ذبيحة السيد المسيح (نسل المرأة) وإن كان البعض يهلك إذ يصير كعقب ينزل إلى التراب لتسحقه الحية وتبتلعه.
8. في عرضه لحياة الآباء البطاركة لم يقدم لنا السفر قصصًا مجردة لحياتهم إنما قدم معاملات الله معهم، مظهرًا أن كل تحرك في حياتهم وكل تصرف مهما بدا تافهًا يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية… بمعني أنه يستخدم أولاده في كل تصرفاتهم كالات برّ تعمل لحساب ملكوته في حياتهم الخاصة وفي حياة الجماعة. لكن ما أوضحه السفر هو تأكيد جانبين: الأول أن الله عامل في أولاده لكن ليس بدونهم، فإبراهيم ما كان يبقي إبراهيمًا بكل ما حمله من نعم وكرامات كأب الآباء بدون إبراهيم نفسه. الله يكرم الحرية الإنسانية ويقدسها، فيتعامل معنا علي مستوي الصداقة كما مع نِد – إن صح هذا التعبير – وليس كما مع آلات جامدة يحركها بطريقة آلية جامدة. أما الجانب الآخر فهو إبرازه لبطولات رائعة ومتنوعة كإبراهيم خليل الله ويعقوب مغتصب البكورية وسارة الزوجة المثالية… لكن خلال الواقع البشري العملي، فلم تخلُ حياة بطل من ضعف بشري. صوّرهم كما هم دون أن يطفي عليهم مسحه العصمة من الخطأ أو الضعف.
9. يبدأ هذا السفر بالحديث عن عمل الله كخالق، يوجد الحياة من العدم، لكنه ينتهي بيوسف في أكفانه بمصر (50: 26). فما أقامه الله من حياة أفسده الإنسان بشِره، إذ دخل بنفسه (الإنسان الحيّ) إلى أكفان الظلمة والدنس ليدفن في مصر. والعجيب أن السفر ينتهي بالدفن في مصر بالذات التي عرفت بالأهرامات وأبي الهول وفن التحنيط الذي لا يزال موضع بحث العلماء حتى يومنا هذا… وكأن الإنسان بفنه وقدراته وأعماله المجيدة مهما بلغت لا تقدر أن تخلصه من الأكفان. إنه يدفن في مصر حتى يأتي إليها المسّيا المخلص قادمًا علي سحابة خفيفة يقيمه من الأكفان ويحرره من ظلمة القبر.
كأن السفر يختتم بانتظار المؤمنين للمسيّا المخلص لينزل إليهم ويقيمهم من أكفانهم.
10. من جهة الأسلوب، سجله موسى النبي نثرًا لا شعرًا، بطريقة تاريخية، ليقدم لنا الحق في بساطة ووضوح بعيدًا عن الأساطير التي ملأت العالم في ذلك الحين.
النبوات في سفر التكوين:
يقدم لنا سفر التكوين بداية النبوات الخاصة بمجيء السيد المسيح كمخلص العالم، فقد وعد الله الإنسان بعد السقوط مباشرة أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (3: 15)، ولم يقل نسل الرجل لأن السيد المسيح جاء متجسدًا في أحشاء القديسة العذراء مريم بغير زرع بشر، هذا الذي سحق رأس الحية القديمة أي إبليس (رؤ 20: 2؛ رو 6: 20؛ 1 يو 3: 8).
لم يترك تحقيق الوعد عامًا بل خصص أنه يتحقق من نسل إبراهيم: “وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك 22: 18؛ أع 2: 25، غل 3: 16)، وأوضح يعقوب أنه يأتي من سبط يهوذا، قائلاً: “لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب” (تك 49؛ مت 2: 26؛ لو 1: 32، 33).
الرموز في سفر التكوين:
إن كان السيد المسيح كمخلص للعالم هو مركز الكتاب المقدس بعهديه، فقد قدم لنا هذا السفر الكثير عن المخلص لا خلال النبوات الصريحة فحسب وإنما خلال الرموز الكثيرة التي نتحدث عنها في شيء من التفصيل في مواضعها، وأهمها:
1. شجرة الحياة في وسط الجنة (تك 3: 22) تشير إلى السيد المسيح الذي يعلن ملكوته داخل القلب كشجرة حياة وسط الجنة التي تفرح قلب الآب كما تفرح قلبنا. إنه الشجرة واهبة الحياة للعالم كله (يو 3: 36).
2. بدأت العبادة بعد السقوط بتقديم ذبائح دموية إشارة إلى دم السيد المسيح بكونه الذبيحة الفريدة، به تُقبل عبادتنا رائحة سرور للآب وموضع رضاه.
3. فلك نوح والطوفان كرمز للسيد المسيح واهب التجديد للعالم لا خلال مياه الطوفان بل مياه المعمودية، أما فلكه الخشبي فهو الصليب الذي احتضن المؤمنين وحفظهم من الهلاك (1 بط 2: 20، 21).
4. تقدمة ملكي صادق (تك 14: 18 – 20) كرمز لذبيحة السيد المسيح في العهد الجديد خلال الخبز والخمر المتحولين إلى جسده ودمه واهبين التقديس (عب 8: 5 – 8).
5. طاعة إسحق لأبيه إبراهيم حاملاً الحطب مقدمًا نفسه حتى الموت (تك 22)، تعلن عن طاعة الابن المتجسد لأبيه حاملاً خشبة الصليب. (في 2: 8).
6. تحقيق الزيجات عند المياه بجوار الآبار كاختيار رفقه وراحيل إشارة إلى اختيار الكنيسة كعروس السيد المسيح خلال مياه المعمودية.
7. السلم الذي رآه يعقوب متصلاً من الأرض إلى السماء (تك 28: 12) والملائكة صاعدون ونازلون إشارة إلى صليب ربنا يسوع الذي فيه تمت مصالحة السماء مع الأرض (2 كو 5: 18؛ أف 2: 16؛ كو 1: 20، 21)، أما الملائكة الصاعدون فهي الكنيسة المقدسة المرتفعة به إلى حضن أبيه، أما النازلون فهم جماعة اليهود الذين رفضوه فنزلوا إلى الهاوية خلال جحودهم للصليب.
8. جاءت حياة يوسف غني يفيض بالرموز من جهة السيد المسيح جوانب متعددة منها:
أ. كان يوسف الابن المحبوب لدي أبيه، والسيد المسيح الابن الوحيد موضع سرور الآب.
ب. قدم له أبوه قميصًا ملونًا، وكأنه بالآب يقدم للابن كنيسة العهد المتباينة المواهب.
ج. نزول يوسف لافتقاد أخوته إنما يعلن نزول الكلمة الإلهي إلينا ليفتقدنا كأخوة له.
د. إلقاء يوسف في الجب وبيعه يرمزان لنزول السيد المسيح إلى الجحيم وخيانة يهوذا له.
هـ. سقوطه تحت العبودية في مصر بلا ذنب سوي كراهية أخوته له يعلن عن السيد المسيح وقد صار من أجلنا عبدًا.
ز. ترك الثياب في يدي المصرية إشارة إلى ترك الأكفان في القبر دون أن يمسك به الموت أو يحجبه عن القيامة التي هي فيه.
ح. لقاؤه في السجن مع رئيس السقاة الذي يخرج من السجن الخباز الذي يحكم عليه بالموت يشير إلى قيامته وموته.
ط. إنقاذه حياة أخوته إشارة إلى السيد المسيح الممجد مخلص البشرية وواهبها الحياة.
سفر التكوين والكتاب المقدس:
سفر التكوين كأول سفر في الكتاب المقدس يعتبر المدخل الحيّ لفهم كلمة الله، قدم لنا الخطوط العريضة التي تكشفت وتحققت في الأسفار التالية. ففي سفر التكوين إذ يعلن الله محبته للإنسان خلال الخليقة يبقي الله متحدثًا عن محبته خلال تجديد الخليقة حتى تظهر الأرض الجديدة والسماء الجديدة في سفر الرؤيا.
في سفر التكوين كانت الدعوة لإبراهيم أن يرث أولاده الملكوت، وفي العهد الجديد ظهر الملكوت معلنًا في أولاد إبراهيم… حتى يمكننا القول مع القديس أغسطينوس: [في العهد الجديد وحده ينكشف القديم، ويختفي العهد الجديد في القديم].
في سفر التكوين نتلمس شخصية ربنا يسوع المسيح كمخلص معلنة خلال نبوات صريحة ورموز كثيرة، ويبقي السيد المسيح كعصب الأسفار لنراه “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد”، جاء ليخلص الخطاة ويعد بمجيئه الأخير ليضمنا إلى مجده كعروس مقدسة له.
أقسامه:
أولاً – التاريخ البدائي:
1. خلقة العالم وسقوط الإنسان. ص 1 – 3.
2. قتل هابيل. 4.
3. نوح وتجديد العالم. 5 – 10.
4. برج بابل. 11.
ثانيًا – البطاركة الأولون:
1. إبراهيم. 12 – 25.
2. إسحق. 21 – 27.
3. يعقوب. 25 – 36.
4. يوسف. 37 – 50.
<<.
الباب الأول.
التاريخ البدائي.
ص 1 – ص 11.
الأصحاح الأول
خلقة العالم.
افتتح الوحيّ الكتاب المقدس بإعلان الله كخالق، هيأ كل شيء من أجل الإنسان، وانطلق به خلال الحب حتى يدخل به في النهاية إلي ملكوته الأبدي يتمتع بالأمجاد الأبدية.
مقدمة.
1. الله الخالق 1.
2. روح الله والمياه 2.
3. اليوم الأول: انطلاق النور 3 – 5.
4. اليوم الثاني: الجلد 6 – 8.
5. اليوم الثالث: إنبات الأرض 9 – 13.
6. اليوم الرابع: الأنوار 14 – 19.
7. اليوم الخامس: الزحافات والطيور 20 – 23.
8. اليوم السادس: الحيوان والإنسان 24 – 31.
مقدمة:
أود في دراستنا هنا الالتزام بروح الكنيسة التي تتطلع إلي الكتاب المقدس لا ككتاب علمي أو فلسفي وإنما كسرّ حياة مع الله يتمتع بها الإنسان ويعيشها، ولهذا عندما كتب القديس باسيليوس الكبير مقالاته عن أيام الخليقة الستة Hexaemeron أوضح أن عمل الكنيسة ليس البحث عن طبيعة الأشياء والمخلوقات وإنما دراسة عملها ونفعها. وكما أعلن القديس أغسطينوس: [كثير عليك إدراك كيف خلق الله هذه الأشياء، فقد خلقك أنت أيضًا لكي تطيعه كعبد وعندئذ تفهم كصديق له[1]]. وكأننا كخليقة الله نقبل عمله بفرح كعبيد وإذ يهبنا فهمًا وحكمة وإدراكًا لأسراره نعيش معه كأصدقاء وأحياء له.
نستطيع في إيجاز أن نقدم الملاحظات التالية عن حديث سفر التكوين عن الخليقة:
أ. قدم لنا السفر أحداث الخلق بطريقة مبسطة وصادقة، يفهمها الإنسان البسيط ويفرح بها ويجد العالم أيضًا فيها أعماقًا…
ب. حاول كثير من الدارسين الغربيين تأكيد أن ما ورد في سفر التكوين لا يتنافى مع الحقائق العلمية حسب الفكر الحديث، ورأي البعض أن ما ورد من تسلسل في الخليقة كما جاء في التكوين يطابق الفكر الخاص بتطور الخليقة بدقة بالغة… وقد صدرت أبحاث كثيرة في هذا الشأن كتب بعضها علماء ورعون، لكنني لست أود الدخول في تفاصيل تبعد بنا عن تفسير كلمة الله. وقد سبق فأصدرت كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج بحثًا مبسطًا للأستاذ الدكتور يوسف رياض، أستاذ بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، تحت عنوان: “التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس”، تعرض لهذا الموضوع في شيء من البساطة والإيجاز، كما قدمت أسقفية الشباب كتيبًا عن: “ستة أيام الخليقة” للدكتور فوزي إلياس.
ج. يلاحظ في كلمة “يوم” في الأصحاح الأول من سفر التكوين أنها لا تعني يومًا زمنيًا يُحصر في 24 ساعة، إنما تعني حقبة زمنية قد تطول إلي ملايين السنوات، فالشمس والقمر وبقية الكواكب لم تكن بعد قد خُلقت حتى الحقبة الزمنية الرابعة، وبالتالي لم يكن يوجد من قبل زمن مثل الذي نخضع له الآن، كما لم يكن للعالم نهار وليل بالمعنى المادي الملموس. هذا ما أكده كثير من الآباء منهم القديس جيروم[2]. وحتى بعد الخليقة كثيرًا ما يتحدث الكتاب المقدس عن “اليوم” بمفهوم أوسع من اليوم الزمني، من ذلك قول المرتل: “لأن يومًا في ديارك خير من ألف” (مز 84: 10؛ راجع مز 90: 4، 2 بط 3: 8).
لقد جاءت كلمة “يوم” في الكتاب المقدس بمفاهيم كثيرة، فأحيانًا يقصد بها الأزل حيث لا توجد بداية، كقول الآب للابن: “أنت ابني أنا اليوم ولدتك” (مز 2: 7؛ أع 13: 32؛ عب 1: 5)، كما قيل عن الله: “القديم الأيام” (دا 7: 9) بمعني الأزلي. وجاء عن “اليوم” بمعني الأبدية التي فوق الزمن كالقول: “يوم الرب” (أع 2: 20)، أي مجيئه الأخير حيث ينتهي الزمن، كما قيل عن السيد المسيح: “ربنا يسوع المسيح له المجد الآن وإلي يوم الدهر” (2 بط 3: 18)…
د. ربما يعترض البعض علي ما ورد في سفر التكوين بخصوص خلق الإنسان الأول، فقد اثبت الحفريات بطريقة قاطعة وجود عظام إنسان منذ أكثر من مليون سنة كما وجدت نقوش قديمة عن أيام آدم… فبماذا نعلل هذا؟
أولاً: بحسبة رياضية بسيطة نجد أن سكان العالم حاليًا لا يمكن أن يكون ثمر أكثر من 6000 عامًا بافتراض أن كل عائلة تنجب حوالي 3 أطفال، هذا مع خصم نسبة مرتفعة من الموتى بسبب الموت الطبيعي والكوارث الطبيعية والحروب… لو أن تاريخ الإنسان يرجع إلي مليون سنة، فإن الإنسان الواحد في مليون سنة ينجب نسلاً لا تكفي آلاف مضاعفة من مساحة الأرض لوجودهم.
ثانيًا: قلنا أن كل حقبة زمنية يمكن أن تكون عدة ملايين من السنوات، فغالبًا ما تكون هذه العظام لحيوانات ثديية حملت شكل الإنسان ولها أيضًا قدرات لكن ليس لها النسمة التي من فم الله التي تميز بها آدم وحواء. هذه الكائنات لا تحسب بشرًا حتى إن حملت شيئًا من التشابه.
هـ. إن كان هذا السفر يقدم لنا فصلاً مختصرًا للغاية عن عمل الله في بدء الخليقة، فإن الله الذي كان يعمل ليقدم لنا العالم لخدمتنا يبقي عاملاً خلاقًا في حياتنا بلا انقطاع. ما سبق ففعله لا يتوقف، إذ يبقي الله نفسه يعمل في حياة الإنسان ليجعل من أعماقه سماءً جديدة وأرضًا جديدة يسكنها البر. وفي هذا يقول السيد المسيح: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17). لهذا ففي تفسيرنا هذا نود أن نتلمس عمل الله المستمر في حياتنا الداخلية ليخلق فينا بلا انقطاع مجددًا أعماقنا. وإنني أرجو في المسيح يسوع ربنا أن أقدم التفسير الروحي جنبًا إلي جنب مع التفسير التاريخي أو الحرفي.
العدد 1
١. الله الخالق:
بدأ سفر التكوين بهذه الافتتاحية البسيطة: “في البدء خلق الله السموات والأرض” [١].
إن كان التعبير “في البدء” لا يعني زمنًا معينًا، إذ لم يكن الزمن قد أوجد بعد، حيث لم تكن توجد الكواكب بنظمها الدقيقة، لكنه يعني أن العالم المادي له بداية وليس كما أدعي بعض الفلاسفة أنه أزلي، يشارك الله أزليته. هذا ما أكده القديس باسيليوس في كتابه “الهكساميرون” أي “ستة أيام الخليقة”، إذ يقول أن تعبير “في البدء” لا يعني زمنًا وإلاَّ كان للبدء بداية ونهاية، وهكذا تكون لهذه البداية بداية وندخل في سلسلة لانهائية من البدايات، لكن “البدء” هنا يعني حركة أولي لا كّمًا زمنيًا، وذلك كالقول: “بدء الحكمة مخافة الله” (أم 9: 10) [3]. كما يقول: [لا تظن يا إنسان أن العالم المنظور بلا بداية لمجرد أن الأجسام السماوية تتحرك في فلك دائري ويصعب علي حواسنا تحديد نقطة البداية، أي متي تبدأ الحركة الدائرية، فتظن أنها بطبيعتها بلا بداية[4]]، ويقول: [الذي بدأ بزمن ينتهي أيضًا في زمن[5]]. هنا لا يعني وجود زمن في بداية الحركة للعمل إنما يؤكد انتزاع فكرة الأزلية، فمع عدم وجود زمن لكنه وجدت بداية قبلها إذ كان العالم عدمًا. وقد جاء العلم يؤكد عدم أزلية المادة[6].
ويأخذ كثير من الآباء بجانب هذا التفسير الحرفي أو التاريخي “في البدء” التفسير الرمزي أو الروحي، فيرون أنه يعني “في المسيح يسوع” أو “في كلمة الله” خُلقت السموات والأرض، وفيما يلي بعض كلمات الآباء في هذا الشأن:
- الابن نفسه هو البدء. فعندما سأله اليهود: من أنت؟ أجابهم: “أنا هو البدء” (يو 8: 25). هكذا في البدء خلق الله السموات والأرض.
القديس أغسطينوس[7].
- من هو بدء كل شيء إلاَّ ربنا ومخلص جميع الناس (1 تي 4: 10) يسوع المسيح، “بكر كل الخليقة” (كو 1: 15)؟ ففي هذا البدء، أي في كلمته “خلق الله السموات والأرض”، وكما يقول الإنجيلي يوحنا في بداية إنجيله: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 1 – 3). فالكتاب لا يتحدث عن بداية زمنية، إنما عن هذه البداية التي هي المخلص، إذ به صُنعت السموات والأرض.
العلامة أوريجينوس[8].
- يفكر البعض أن “البدء” هو زمن، لكن من يتعمق في كلمة “البدء” يجد أنها لا تحمل معني واحدًا بل أكثر من معنى. فأحيانًا تعني العلة، فيكون المعنى هنا أن السموات والأرض متواجدة في العلة… بالحقيقة كل شيء صنعها الكلمة؛ ففي المسيح يسوع خُلق كل ما علي الأرض وما في السماء، الأمور المنظورة وغير المنظورة.
في اختصار نقول أن الله خلق العالم في بداية معينة ولم يكن العالم شريكًا معه في الأزلية، ومن جانب آخر فإن كلمة الله هو البدء الذي بلا بداية خالق الكل!
“في البدء خلق ألوهيم السماوات والأرض” [١].
جاءت كلمة “ألوهيم” بالجمع، أما الفعل “خلق” فمفرد، فالخالق هو الثالوث القدوس، الواحد في جوهره وطبيعته ولاهوته.
أكّد موسى النبي أن الله هو الخالق، نازعًا عن شعبه الأساطير الكثيرة التي ملأت العالم في ذلك الحين حول موضوع الخلق، كما نزع عنهم فكرة بعض الفلاسفة القائلين بأن العالم وليد ذاته جاء محض الصدفة، وقد تحدث الأستاذ الدكتور يوسف رياض في هذا الشأن[10].
أخيرًا فإنه يقول “خلق ألوهيم السماوات والأرض”، إذ خلقْ السمائيين أولاً بكل طغماتهم وبعد ذلك الأرض وكل ما يخصها.
إن كانت السماوات تشير للنفس البشرية التي يتقبلها الله مسكنًا له، أو سماوات له، والجسد بتقديسه يكون أرضًا مقدسة، ففي المسيح يسوع نتمتع بهذه السماوات والأرض، أي ننعم بنفس هي هيكل للرب وجسد مقدس لحساب مملكته.
العدد 2
٢. روح الله والمياه[11]:
“وكانت الأرض خربة وخالية، وعلي وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف علي وجه المياه” [٢].
قيل عن الأرض إنها كانت “خربة وخاوية”، وفي الترجمة السبعينية: “غير منظورة وغير كاملة”، ويعلل القديس باسيليوس الكبير أنها غير منظورة لعدم خلق للإنسان بعد لكي يراها، ولأن المياه كانت تغطيها تمامًا، أو لأن النور لم يكن بعد قد أشرق عليها فكان الجو غامضًا. أما كونها “غير كاملة” فبسبب عدم قدرتها علي الإنبات[12].
علي أي الأحوال إن كان الوحي قد أعلن أن الآب خلق السماوات والأرض بكلمته [١]، فهنا يكشف عن دور الروح القدس الذي كان يرف علي وجه المياه ليخلق من الأرض الخربة والخاوية عالمًا صالحًا جميلاً. ولا يزال الروح القدس إلي يومنا هذا يحل علي مياه المعمودية ليقدسها فيقيم من الإنسان الذي أفسدته الخطية وجعلت منه أرضًا خربة وخاوية، غير منظورة لحرمانها من إشراقات الله وغير كاملة… سموات جديدة وأرضًا جديدة، أي يهبنا الميلاد الجديد فيه ننعم بنفس مقدسة علي صورة الله خالقنا وجسد مقدس أعضاؤه آلات برّ لله. نقتطف هنا بعض كلمات الآباء في هذا الشأن:
- لقد أنجبت المياه الأولي حياة، فلا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة… كان روح الله محمولاً علي المياه، هذا الذي يعيد خلق من يعتمد. كان القدوس محمولاً علي المياه المقدسة، أو بالأحرى علي المياه التي تتقبل منه القداسة. بهذا تقدست المياه وتقبلت إمكانية التقديس. هذا هو السبب الذي لأجله إذ كانت المياه هي العنصر الأول لموضوع الخلق حصلت علي سر التقديس خلال التوسل لله[13].
العلامة ترتليان.
- تتم الخليقة الجديدة بواسطة الماء والروح وذلك كخلق العالم، إذ كان روح الله يرف علي المياه[14].
القديس أكليمنضس الإسكندري.
- المياه هي بدء العالم، والأردن هو بدء الإنجيل[15].
- إن كانت المعمودية في ذلك اليوم قد سبق فأُعلنت خلال الظل، فإنه لم تكن هناك معمودية حقيقية أكيدة بدون الروح[16].
أما عن تعبير “يرف” فيقول القديس باسيليوس: [أن أحد السريان يري أنه الكلمة السريانية قادرة علي إعطاء معني أكثر من العبرية، فهي تترجم بمعني يحتضن، وكأن الروح يُشبه طائرًا يحتضن بيضًا ليهبه حياة خلال دفئه الذاتي[17]]. ويري القديس أمبروسيوس أن حركة الروح هنا علي وجه المياه إنما هي حركة حب مستمر لعمل خلاّق في حياة الإنسان، إذ يقول: [كيف يمكن لذاك الذي كان يتحرك قبل خلق الأرض أن يتوقف عن حركته بعد أن أوجدها؟ ! [18]].
الأعداد 3-5
٣. اليوم الأول: انطلاق النور…
أول عمل يقدمه الله هو انطلاق النور: “وقال: ليكن نور، فكان نور، ورأي الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلاً، وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا” [3– 5].
ويلاحظ في هذا النص:
أولاً: إلي سنوات قليلة كان بعض العلماء يتعثرون في هذه العبارة قائلين كيف ينطلق النور في الحقبة الأولي قبل وجود الشمس، إذ كان الفكر العلمي السائد أن النور مصدره الشمس، لكن جاءت الأبحاث الحديثة تؤكد أن النور في مادته يسبق وجود الشمس، لهذا ظهر سمو الكتاب المقدس ووحيه الإلهي، إذ سجل لنا النور في الحقبة الأولي قبل خلق الشمس، الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد.
في اختصار يمكن القول بأن الرأي العلمي السائد حاليًا أن مجموعتنا الشمسية نشأت عن سديم لولبي مظلم منتشر في الفضاء الكوني انتشارًا واسعًا (السديم هو سحابة من الغازات الموجودة بين النجوم). ولذلك فمادة السديم خفيفة جدًا في حالة تخلخل كامل، لكن ذرات السديم المتباعدة تتحرك باستمرار حول نقطة للجاذبية في مركز السديم، وباستمرار الحركة ينكمش السديم فتزداد كثافته تدريجًا نحو المركز، وبالتالي يزداد تصادم الذرات المكونة له بسرعة عظيمة يؤدي إلي رفع حرارة السديم. وباستمرار ارتفاع الحرارة يصبح الإشعاع الصادر من السديم إشعاعًا مرئيًا، فتبدأ الأنوار في الظهور لأول مرة ولكنها أنوار ضئيلة خافتة. هكذا ظهر النور لأول مرة قبل تكوين الشمس بصورتها الحالية التي تحققت في الحقبة الرابعة (اليوم الرابع)… لقد ظهر النور حينما كانت الشمس في حالتها السديمية الأولي، أي قبل تكوينها الكامل.
والعجيب أن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع جاءت مطابقة لاكتشافات القرن العشرين، إذ قال: [نور الشمس التي كانت في اليوم الأول عارية من الصورة وتصورت في اليوم الرابع للخليقة[19]].
ربما حمل القديس أغسطينوس نفس الفكر حينما قال إن النور هنا في اليوم الأول ليس بالصادر عن الشمس لكنه ربما يكون نورًا ماديًا يصدر عن أماكن علوية فوق رؤيتنا[20].
ثانيًا: من الجانب الرمزي يري القديس أغسطينوس[21] أن هذا النور خاص بالمدينة السماوية المقدسة التي تضم الملائكة القديسين، وفيها ينعم المؤمنون بالأبدية، هذه التي قال عنها الرسول إنها أورشليم العليا، أمنا الأبدية في السموات (غلا 4: 26)، والتي يكون لنا فيها نصيب، إذ قيل: “جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة” (1 تس 5: 5). يري القديس أن السمائيين تمتعوا بالنور الذي انطلق في اليوم الأول بمعاينتهم أعمال الله العجيبة خلال كل الحقبات، لكنه متى قورنت معرفتهم للخليقة بمعرفة الله حُسبت معرفتهم مساءً.
يمكننا القول بأن أعمال الله بدأت بانطلاق النور حتى تري الملائكة أعماله فتمجده، وهكذا في بداية الخليقة الجديدة أشرق الرب علينا بنوره الإلهي من القبر المقدس عند قيامته حتى إذ نقوم فيه يعلن مجده فينا. في خلقتنا الجديدة – في مياه المعمودية – ننعم بالنور الإلهي، نور قيامته عاملاً فينا، كأول عمل إلهي في حياتنا، وهذا هو السبب في تسمية المعمودية “سر الاستنارة”.
ثالثًا: فصل الله بين النور والظلمة لكي نقبل النور كأبناء للنور وأبناء للنهار ونرفض الظلمة فلا نسقط تحت ليل الجهالة المهلك.
يهبنا الرب النور الداخلي ليبدد الظلمة القديمة، كقول الرسول: “لأنكم كنتم قبلاً ظلمة” (أف 5: 8). يهبنا أيضًا روح التمييز فنفصل بروح الله بين النور والظلمة، فلا نسقط تحت الويل النبوي: “ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا، والنور ظلامًا، الجاعلين المر حلوًا والحلو مرًا” (إش 5: 20).
رابعًا: ليست “الظلمة” مادة مخلوقة أوجدها الله، بل هي حرمان من النور، فبظهور النور انفضحت الظلمة وعُرفت. ومع هذا فكما يقول القديس أغسطينوس: [أن الله يأمر النور الذي خلقه والظلمة التي لم يخلقها ويطيعانه[22]].
خامسًا: يري القديس هيبولتيس الروماني أنه [في اليوم الأول خلق الله الأشياء من العدم، أما في الأيام الأخرى فلم يخلق بقية الأشياء من العدم وإنما مما خلقه في اليوم الأول بتشكيله حسب مسرته[23]]. هذا وإن كان كثير من الآباء علق علي عبارة: “قال فكان” بأن الخلق كله خلال المراحل الست قد تم كثمرة للأمر الإلهي، فيقول القديس أمبروسيوس: [لم يخلق الله الأشياء بأدوات وفن، وإنما قال فكان (مز 33: 9)، إذ تكمن قوة العمل في الأمر الإلهي[24]]. ويقول القديس باسيليوس الكبير: [الأمر في ذاته عمل[25]].
سادسًا: يعلق القديس باسيليوس علي العبارة “ورأي الله ذلك (النور) أنه حسن” [٤، ١٢، ١٨، ٢١]… [الله لا يحكم بأن الشيء حسن خلال افتتان العين به ولا لتذوق الفكر لجماله كما نفعل نحن وإنما يراه حسنًا متي كان الشيء كاملاً، مناسبًا لعمله، نافعًا حتى النهاية[26]].
تحدث كثير من الآباء عن صلاح الخليقة… فقد “رأي الله ذلك أنه حسن”، لكن الإنسان بفساده أفسد استخدام الخليقة الصالحة. لذلك إذ جاء السيد المسيح يجدد طبيعتنا الساقطة وكأنه يخلقها من جديد، لا نعود نري في العالم شيئًا شريرًا. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الأشياء التي تبدو فاسدة كتلك التي استخدمت في العبارة الوثنية: [خليقة الله ليست دنسة، فإن كانت قد صارت هكذا فلديك العلاج: اختمها “بعلامة الصليب” وقدم لله شكرًا ومجدًا فيزول عنها الدنس[27]].
سابعًا: يختم حديثه عن اليوم الأول أو الحقبة الأولي بقول: “وكان مساء وكان صباح يوم واحدًا”. بدأ بالسماء وختم بالصباح، وفي التقليد اليهودي يبدأ اليوم بالعشية ليليها النهار. فإن كان المساء في نظر القديس أغسطينوس [يشير إلي الجسد القابل للموت، والصباح يشير إلي خدمة البر أو النور فإن المساء يسبق الصباح بمعني أن يكون الجسد خادمًا للبر، لا البر خادمًا لشهوات الجسد[28]]. فإن كنا قد بدأنا حياتنا بالمساء فلننطلق بالروح القدس إلي الصباح فلا نعيش بعد كجسدانيين بل كروحيين.
ثامنًا: إذ نختم حديثنا عن انطلاق النور نورد ما قاله القديس أغسطينوس عنه: [انه قد يشير إلي خلق السمائيين أي الملائكة بطغماتهم فقد خلقوا أولاً، وأن فصل النور عن الظلمة يشير إلي سقوط جماعة من الملائكة بالكبرياء فصاروا ظلمة. ويري القديس أن هذا الفصل تم قبل السقوط بسابق معرفة الله لهم[29]]، وإن كان هذا الرأي غير مستحب، فالله لا يفصل إلا بعد السقوط.
الأعداد 6-8
٤. اليوم الثاني: الجلد…
ربما يقصد بالجلد المنطقة التي فوق الأرض مباشرة التي تطير فيها الطيور وليس الفضاء حيث الكواكب. ويمكننا أن ندرك طريقة تحقيق أمر الله إن علمنا أن الأرض كانت في غليان مستمر وبخار فكانت محاطة بغلاف بخاري كثيف. وفي الفترة ما بين الحقبة الأولي والحقبة الثانية أخذت درجة الحرارة تهبط، وبالتالي هدأ البخار وبدأ الجو يصير صحوًا. أما تسمية الجلد “سماء” فذلك من قبيل إطلاق هذه الكلمة علي ما هو سامٍ ومرتفع فوق الأرض[30].
هذا الجلد يفصل ما بين المياه التي من فوق أي السحب، والمياه التي من أسفل أي البحار والمحيطات. وقد حمل هذا الفصل بجانب تحققه الحرفي مفهومًا روحيًا يمس حياة الإنسان. فإن كان الإنسان الروحي يتقبل في البداية انطلاق الإشراقة الإلهية في أعماقه الداخلية، فإنه يليق به أن يحمل الجلد الذي يفصل بين مياه ومياه، فيتقبل مياه الروح القدس العلوية واهبة الحياة (يو 4: 14) ويسمو فوق المياه التي هي أسفل أي في الأعماق والتي يسكنها لويثان الحيّة القديمة والوحش البحري القتال للنفس البشرية (رؤ 12: 7؛ 20: 3) فمن ينعم بالانطلاق في الجلد يميز بين نعمة الروح وخداعات الشرير.
يقول العلامة أوريجينوس: [إذ يرتبط المؤمن بالمياه العليا التي هي فوق في السموات يصير سماويًا، ويطلب الأمور المرتفعة العلوية، فلا يكون له فكر أرضي بل كل ما هو سماوي؛ يطلب ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله (كو 3: 1)، فيستحق التمتع بمديح الله القائل: “رأي الله أنه حسن” [31]].
هاجم القديس أغسطينوس[32] ما قاله العلامة أوريجينوس في كتابه “المبادئ” أن المياه التي فوق هي الأرواح الصالحة التي خلقها الله وبقيت هكذا في صلاحها بسبب التصاقها بالله، وأنها إذ انعزلت عنه صارت منحطة فعاقبها الله بإنزالها إلي العالم وحملها أجسادًا. وكأن العالم الذي نعيشه هو عقوبة أوقعها الله علي ملائكة ساقطين لبسوا جسدًا كتأديب لهم. هذه النظرية رفضها أيضًا القديس أبيفانيوس وعارضها آباء الكنيسة إذ تشوه نظريتنا للعالم، وتدنس الجسد، وتقلل من شأن الإنسان وتوحي بفكرة تناسخ الأرواح.
الأعداد 9-13
٥. اليوم الثالث: إنبات الأرض…
نقتطف كلمات الأستاذ الدكتور يوسف رياض بخصوص الخلق: [نجد أن موسى النبي في بداية سفر التكوين قسم أعمال الله علي ست فترات من الزمن منتهيًا بخلق الإنسان، وقال موسى أن النباتات ظهرت أولاً علي شكل نباتات بسيطة وهي العشب، ثم تدرجت الحياة إلى ما هو أكثر تعقيدًا وهو البقل، ثم الشجر، وبعد ذلك ظهر الحيوانات، وواضح أن الحيوانات المائية ظهرت قبل الطيور وهذه ظهرت قبل الإنسان. هذا الترتيب هو نفس الترتيب الذي تضعه علوم الحياة للكائنات الحية. فهل كان موسى علي علم بمعلوماتنا عن الكائنات الحية في القرن العشرين؟ كلا. ربما يقول البعض إن هذا الترتيب جاء نتيجة للمصادفة ولكن الحقيقية أن الله هو الذي أرشده لهذه المعرفة].
كتب موسى أيضًا في سفر التكوين (1: 9 – 10): “وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضًا ومجتمع المياه دعاه بحارًا، ورأي الله ذلك أنه حسن”.
كتب موسى بأن الله جمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، والمتأمل في خريطة العالم يلاحظ فعلاً أن ذلك صحيح علميًا، وإذ أن جميع المحيطات السبعة لها قاع واحد، إذ هي مشتركة مع بعضها في القاع. ولكن موسى كان حريصًا إذ ذكر البحار منفصلة، لأنه ذكرها بصيغة الجمع “بحارًا”. وفي أيام موسى كان البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وربما بعض أجزاء من المحيط الأطلنطي معروفين لدي البشر، وأن المحيطات السبعة المعروفة الآن لدينا لم تكتشف إلاَّ بعد قرون طويلة حين بني الإنسان المراكب الضخمة، فكيف عرف موسى أن البحار مع كونها منفصلة إلاَّ أن قاعًا واحدًا لها! [33]].
يري البعض أنه في هذه الحقبة أمر الله حرارة الأرض أن تهدأ أكثر من ذي قبل مما أدي إلى تقلص القشرة الأرضية وتشققها، فنشأت المجاري العميقة وتكونت الأنهار والبحيرات والبحار. وقد تجمعت البحار والمحيطات معًا في مكان واحد، أما البحار المعزولة الآن فجاءت نتيجة لعوامل طبيعي مختلفة.
والآن إذ نترك التفسير الحرفي أو التاريخي وننطلق إلى التفسير الرمزي أو الروحي، نجد العلامة أوريجينوس يميز بين اليابسة والأرض، فاليابسة وقد غطتها المياه تشير إلى الإنسان وقد غطته الخطية والرذيلة فصار كأرض غارقة في المياه لا تصلح للإثمار، أما إذا انحسرت عنها الخطية فتتحول من يابسة عقيمة إلى أرض قابلة للإثمار تنتج عشبًا وبقلاً وأشجارًا، أي تأتي بثمر روحي ثلاثين وستين ومائة (مت 13: 8). يقول العلامة أوريجينوس: [إن لم ننفصل عن المياه التي هي تحت السماء، أي خطايا جسدنا ورذائله، لا يمكن للأرض أن تظهر في حياتنا، ولا أن نتمتع بالقدرة علي النمو في النور. “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله، وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يو 3: 20، 21). لا توهب لنا هذه الثقة إن لم ننفصل عن مثل هذه المياه، وننزع عنا رذائل الجسد التي هي أساس خطايانا، وإلاَّ يبقي العضو اليابس فينا في يبوسته[34]].
ليتنا إذن نتقبل عمل الله فينا فيحول يابستنا الداخلية إلى أرض مقدسة تقدم ثمار الروح لتبهج الله، لا أن تحمل لعنة وتقدم شوكًا وحسكًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن كان البعض لا يزالون يابسين ليس لهم ثمر بل يحملون شوكًا وحسكًا (تك 3: 18)، هؤلاء يحملون “اللعنة التي نهايتها الحريق” (عب 6: 8؛ إش 9: 17، 18)، لكن بالاجتهاد والمثابرة إذ ينفصلون عن مياه الهاوية التي هي طريق الشيطان يظهرون أرضًا خصبة، عندئذ يليق بهم أن يترجوا الرب الذي ينقلهم إلى أرض تفيض عسلاً ولبنًا]. كما يقول: [لنرجع إلى أنفسنا، فإننا أرض، لسنا بعد يابسة! لنقدم للرب ثمارًا كثيرة ومتنوعة لكي نتبارك من الرب بالقول: “رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب” (تك 27: 27). ويتم فينا قول الرسول: “لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق” (عب ٦: ٧، ٨) [35]].
ويري القديس أمبروسيوس[36] في إنبات الأرض علامة علي قيامة الجسد من الموت، فكما تخرج الأرض حياة بأمر الرب، هكذا بأمره يرد الحياة لجسدنا المائت. الطبيعة تطيعه، والعظام اليابسة تطيعه أيضًا في يوم الرب العظيم.
الأعداد 14-19
٦. اليوم الرابع: خلق الأنوار…
من أجل الإنسان خلق الله العوالم الشمسية في دقة نظامها الفائق، لا ليجعل منا رجال فلك وإنما لأجل خدمتنا وإعلان حبه لنا.
إن كان الله قد خلق الشمس لتنير له في النهار وتكون له عونًا في كل حياته، إنما يقدم لنا كلمته الحيّ شمس البر الذي يحول ظلمتنا إلى نهار لا ينقطع، واهبًا إيانا حياة جديدة داخلية. يسطع باشراقاته علي الكنيسة فيجعل منها قمرًا تضيء علي العالم، ويعمل في كل عضو ليجعل منه نجمًا له موضعه ليدور في الفلك الذي له ساكبًا نورًا وبهاء علي الأرض. يقول العلامة أوريجينوس: [المسيح هو نور العالم الذي يضئ الكنيسة بنوره. كما يستمد القمر نوره من الشمس فينير الظلام، هكذا تستمد الكنيسة النور من المسيح لتضئ علي الذين هم في ظلمة الجهل[37]]. كما يقول: [موسى أحد هذه الكواكب يلمع فينا، وأعماله تنيرنا. وبالمثل إبراهيم وإشعياء ويعقوب وإرميا وحزقيال، كل الذين شهد لهم الكتاب أنه أرضوا الله (عب 11: 5) [38]]. وكما يقول أيضًا: [كلما ارتفعنا إلى فوق نتأمل الشروق من الأعالي، ويكون البهاء والحرارة بصورة أفضل. هكذا كلما صعد فكرنا وارتفع إلى المسيح اقترب من بهاء ضيائه، فنستضئ بنوره في أكثر روعة وجمال. وكما يقول بنفسه: “ارجعوا إليَّ يقول رب الجنود فأرجع إليكم” (زك 1: 3)… فإن كنا قادرين أن نرتفع معه إلى قمة الجبل مثل بطرس ويعقوب ويوحنا نستضيء بنور المسيح وبصوت الآب نفسه[39]].
خلق الكواكب بأنواعها المختلفة وأحجامها المتباينة ومواقعها المتباعدة تبعث في النفس شوقًا داخليًا للمسيح في سماء الكنيسة فترتفع النفس من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، لتكون كوكبًا أعظم بالمسيح يسوع.
يقول الكتاب: “وجعلها الله في جلد السماء لتنير علي الأرض” [١٧]. وكأن كل كوكب روحي يود أن يحتفظ بطبيعته ككوكب وعمله “إنارة الأرض” يلزمه أنه يبقي “في جلد السماء”، أي يبقي حاملاً الطبيعة السماوية. فإن سقط كوكب علي الأرض يفقد كيانه ككوكب ويُفسد الأرض عوض أن ينيرها. هكذا كل نفس تجامل الآخرين فتسقط معهم في محبة الأرضيات وتعيش بفكر زمني تفقد طبيعتها السماوية، ويظلم نور الرب فيها، وتهلك معها الكثيرين. إذن لنحب الأرض ببقائنا في جلد السماء، لا في كبرياء أو رياء، وإنما في حب نعكس نور شمس البر علي الآخرين، مدركين أن سر الاستنارة ليس فينا وإنما في شمس البر المشرق علي الجميع مجانًا!
إن كانت الأرض تشير إلى الجسد فإنه متي حملت النفس الطبيعة السماوية الجديدة وحلقت في جلد السماء ككوكب تعكس نور الرب علي الجسد فيستنير، ولا تكون أرضنا (الجسد) عائقًا في طريق خلاصنا إنما تحمل نور المخلص فيها؛ هكذا يسلك الجسد مع النفس في تناغم وتوافق، ويتحقق القول: “وجعلها الله في جلد السماء لتنير علي الأرض”.
وللقديس ثاوفيلس أسقف أنطاكية من رجال القرن الثاني بعض التعليقات علي خلق الكواكب المنيرة في اليوم الرابع. ففي رأيه أن الأيام الثلاثة الأولي تشير إلى الله وكلمته وحكمته، وربما قصد الثالوث القدوس، وجاء اليوم الرابع يشير إلى البشرية التي خلقها الله ككواكب منيرة تخضع للوصية الإلهية. هذه الكواكب نوعان: كواكب بهية ثابتة لا تنحدر مثل الأنبياء ومن يتمثلون بهم؛ وكواكب سيارة تغير مركزها تشير إلى الذين ضلوا عن الله وتركوا وصيته[40].
الأعداد 20-23
٧. اليوم الخامس: خلق الأسماك والطيور…
إذ تهيأت الأمور لخلق الأسماك قال: “لتفض المياه ذات أنفس حيّة” [٢٠]، فكانت بداية الخلائق التي لها نفس حيّة في المياه، وكما يقول القديس أمبروسيوس أنه كما أنجبت المياه كائنات حية طبيعيًا بكلمة الله هكذا تلد المياه المقدسة الآن بكلمة الله كائنات حية حسب النعمة، إذ نعيش كالسمك متمثلين بالمسيح السمكة الحقيقية.
يري القديس أغسطينوس في خروج الزحافات ذات الأنفس الحية من المياه صورة حية لخروج الشعب القديم زاحفًا من البحر الأحمر يحمل حياة في داخله، وكأنه كان منطلقًا من مياه المعمودية[41]. وما حدث معهم رمزيًا يتحقق معنا واقعيًا، إذ يقول: [انظروا أنتم الذين أخرجتكم المياه تزحف فيكم أنفس حيّة[42]].
ويري العلامة أوريجينوس في الزحافات إشارة إلى الأفكار الشريرة التي تجعلنا كمن يزحف علي الأرض مرتبطة قلوبنا بالتراب، أما الطيور فتشير إلى الأفكار الصالحة التي تنطلق بنا إلى السمويات، إذ يقول: [فيما يخص ما هو أفضل أي الطيور لنتركها تحلق في جلد السماء ولا تزحف علي الأرض… لنعرف الزحافات التي تؤذينا. فإن نظرنا إلى امرأة لنشتهيها نكون كالحيّة (التي تزحف)، وإن كان لنا تعقل ورزانة فحتى إن عشقنا المرأة المصرية نكون كالعصفور، نترك بين يديها ملابسنا المصرية ونطير بأجنحتنا من مكائدها المخادعة (تك 39: 7). إن تركنا أنفسنا لفكر السرقة فإننا نتمم أعمال الحية، أما إذا قدمنا صدقة للآخرين فنكون كعصفور يرتفع فوق الأرضيات محلقًا في جلد السماء[43]].
يتساءل العلامة أوريجينوس إن كانت الزحافات تشير إلى الفكر الشيطاني، فلماذا يقال أن الله رأي كل شيء حسنًا؟ يجيب أنه حتى في مقاومة الشيطان لنا ننعم بالنصرة والإكليل فيكون لنا حسنًا[44].
أما القديس ثاوفيلس الأنطاكي فيري في الأسماك ما هو صالح حينما يشير إلى المتمتعين ببركات جرن المعمودية والذين لا يطلبون ما لهم، أي ليس لهم ملكية خاصة، ومن الأسماك ما هو شرير حين يكون الإنسان كالسمك يأكل الكبير الصغير، والقوي الضعيف. والطيور أيضًا منها الصالح ومنها الشرير: [الذين يرجعون عن شرهم ويعيشون بالبر في الروح يطيرون إلى أعلى ويسرون إرادة الله، أما الذين لا يعرفون الله ولا يعبدونه فيكونون كالطيور التي لها أجنحة لكنها عاجزة عن الطيران فلا تحلق في الإلهيات العالية[45]].
الأعداد 24-31
٨. اليوم السادس: الحيوانات والإنسان…
هيأ الله كل شيء لخلق الحيوان ثم خلق الإنسان، مقدمًا لهم الأمور المنظورة وغير المنظورة.
يري القديس ثاوفيلس الأنطاكي أن الحيوانات المفترسة لم تحمل روح الشراسة إلا بعد سقوط الإنسان، مما قدمه الإنسان لنفسه من فساد خلال عصيانه انعكس علي طبيعة الأرض لتخرج شوكًا وحسكًا وعلي الحيوانات ليحمل بعضها نوعًا من الشراسة، تزول بالنسبة لكثير من الأبرار، إذ يقول: [عندما يرجع الإنسان إلى حالته الطبيعية فلا يفعل شرًا تعود هذه الحيوانات أيضًا إلى لطفها الأصلي[46]]. وتاريخ الكنيسة يقدم لنا أمثلة بلا حصر لقديسين عاشوا وسط حيوانات مفترسة، وفي السنوات الأخيرة رأينا راهبًا مثل “الأب عبد المسيح الحبشي” لا يؤذيه أي حيوان مفترس بل يعيش في وسطها.
أخيرًا توّج الله خليقته الأرضية بخلق الإنسان لا كخليقة وسط مخلوقات بلا حصر، وإنما علي صورته ومثاله، وأقامه سيدًا علي الخليقة الأرضية… ويلاحظ في خلق الإنسان الآتي:
أولاً: إن ما يشد أنظارنا في خلق الإنسان قوله: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” [٢٦]، مؤكدًا: “فخلق الله الإنسان علي صورته، علي صورة الله خلقه” [٢٧]. الأمر الذي لم نسمع عنه قط في خليقة أخري، إذ أوجد النفس تحمل صورة الثالوث القدوس، وتتسم بالتمثل بالله…
قبل أن أقدم تعليقات آباء الكنيسة الأولي في هذا الشأن أود أن أشير باختصار إلى الفلسفات الإلحادية المعاصرة لنرى أنها تقوم عن عدم إدراك لحقيقة العلاقة التي تربط الله بالإنسان، وعدم فهم خلق الإنسان علي صورة الله.
نحن نعلم أن الإلحاد المعاصر هو رفض الله أكثر منه إنكارًا لوجوده، فالملحدون المعاصرون لا ينكرون وجود الله لكنهم يتجاهلون وجوده، أو بمعني أدق يريدون التحرر منه لأنه في نظرهم يستعبد الإنسان ويفقده إنسانيته. لذلك قال الملحد الألماني هنري هين: [فلنترك السماء للملائكة والعصافير]، وقال الشاعر الفرنسي بريفير: [أبانا الذي في السماوات، أبق فيها]. وجاء ماركس بإلحاده فتتلمذ جزئيًا علي كلمات الفيلسوف فووباخ (1804 – 1872) القائل: [أن نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون اللحظة التي سيعني فيها الإنسان أن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه Homo homini deus]. هكذا أراد فووباخ أن يكون الإنسان إلهًا لذاته، ليس من كبير يكتم أنفاسه، وجاء ماركس ينكر وجود الله لا لشيء إلاَّ ليؤكد وجود الإنسان. هكذا رأي ماركس خطأ أن الدين هو “تغرب عن الإنسان” بالهروب إلى ما يسمي “إله”. والآن لا أريد مناقشة هذه الأفكار هنا وإنما يمكن الرجوع للبحث الشيق العلمي الذي كتبه الأستاذ كوستي بندللي[47]، وإنما ما أريد توضيحه أن ما أثار هؤلاء الفلاسفة الملحدين هو عدم إدراكهم لتقدير الله للإنسان. فالله ليس عدو الحرية الإنسانية كما كرر الماركسيون، ولا يقوم وجوده علي عجز الإنسان وذله، إنما خلق الإنسان علي صورته ليقبل خالقه صديقًا له، يتجاوب معه لا علي مستوي المذلة والضعف وإنما علي مستوي الحرية والحب والصداقة، وسنري في دراستنا للكتاب المقدس ككل أن الخط السائر فيه هو إقامة الإنسان علي صورة الله ومثاله ليكون وارثًا لله ووارثًا مع المسيح، شريكًا معه في المجد الأبدي. نري الله يجري وراء الإنسان ليضمه إليه لا ليحطمه، ويرفعه إلى ما فوق الحياة الزمنية. حتى بعد السقوط نسمع السيد المسيح كلمة الله يقول: “لا أعود اسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 15: 15).
وجود الله لا يقوم علي إهدار حياة الإنسان وكرامته، إنما ننزل الله إلينا لكي يرفعنا إليه، وقد جاء اللاهوت الشرقي في القرون الأولي ملخصًا في العبارة المشهورة التي كررها كثير من الآباء وإن كان بأسلوب مختلف: [صار الله إنسانًا، لكي يصير الإنسان إلهًا]. إن ما يحمله الملحدون المعاصرون من شوق نحو الألوهية إنما هو عطش داخلي نحو الأبدية يقوم خلال الصورة التي تمتع بها الإنسان دون سائر الخليقة الأرضية. وكما يقول كوستي بندللي: [أماني الإنسان اللامحدودة هي في الإنسان صورة الله غير المحدود الذي يدعوه إلى مشاركته حياته[48]].
لقد ظن ماركس أن يقيم من نفسه إلهًا لنفسه بإنكاره وجود الله، ولم يدرك أن ما في داخله من شوق نحو الألوهية إنما هو ثمرة خلقه علي صورة الله وإن كانت قد انحرفت في اتجاهاتها. وقد واجه ماركس “مشكلة الموت” في عجز لذا حاول عدم التعرض لها في إنتاجه الضخم إلاَّ مرة واحدة، بسبب ارتباكه أمام الموت وإدراكه أنه عندئذ يفقد ألوهيته التي أقامها لنفسه. وظهر ذلك في قوله: [إن موت ولدي آلمني كثيرًا حتى أنني لا أزال أشعر بمرارة فقده كما في اليوم الأول[49]]. هنا يتحطم كل رجاء له، ويفقد معني الحياة، لذلك بدأ الماركسيون يثيرون في مؤتمراتهم مشكلة “معني الحياة والموت” إذ يقفون في حالة ارتباك.
إن كان الملحدون المعاصرون يظنون في تحطيم العلاقة مع الله إقامة للكيان الإنساني، فإننا نقول أن اتحادنا مع الله الذي خلقنا علي صورته ومثاله، ومات لينجينا ويهبنا شركة طبيعته والتمتع بأمجاده فوق حدود الزمان والمكان. إننا نحمل صورته وكأننا عملته الخاصة التي لا يغتصبها آخر بل تنجذب إليه لتوجد الصورة مع الأصل، وكما قال السيد: “أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (مت 22: 21). إذ نحمل صورته نشتاق أن نرجع إليه وننعم بأحضانه.
فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن خلق الإنسان علي صورة الله ومثاله:
- لاحظ كيف يوجد في خلق الإنسان أمر سام جدًا لا نجده في خلق آخر، فخلق الله الإنسان على صورته ومثاله، الأمر الذي لا نجده في خلق السماء أو الأرض أو الشمس أو القمر.
- الذي صُنع علي صورة الله هو إنساننا الداخلي غير المنظور، غير الجسدي، غير المائت ولا فانٍ. بهذه السمات الحقيقية تتصف صورة الله وبها تُعرف[50].
العلامة أوريجينوس.
- إني أقصد ما قاله الرب عندما رأي عملة قيصر: “أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (مت 22: 12)، كأنه يقول: كما يطلب قيصر منكم ختم صورته هكذا يطلب الله، فترد العملة لقيصر وتُرد النفس لله مستنيرة ومختومة بنور ملامحه[51].
- لقد طبعت ملامحك علينا! لقد أوجدتنا علي صورتك ومثالك! لقد جعلتنا عملتك، لكن لا يليق بصورتك أن تبقي في الظلام. أرسل شعاع حكمتك لتبدد ظلمتنا فتشرق صورتك فينا[52].
- لا تبحث كيف ترد له المكافأة… ردّ له صورته، فهو لا يطلب شيئًا غير هذا. إنه يطلب عملته… لا تعطه مكافأة من عندك، فالله لا يطلب ما هو لك، فإنك إذ تعطيه ما لديك إنما تقدم الخطية[53].
ثانيًا: خلق الله النفس البشرية علي صورته ومثاله، أي علي مثال الثالوث القدوس فهي كائن ناطق حيّ، ومع أنها جوهر واحد في كيانها وطبيعتها لكن الكيان غير النطق غير الحياة. هكذا مع الفارق الآب هو الوجود الذاتي له، والنطق هو كلمة الله، والحياة هو الروح القدس. فالله واحد في جوهر، موجود بذاته، ناطق بالابن، حيّ بالروح القدس.
ثالثًا: في خلق الإنسان وحده دون سائر الخليقة يقول الله: “نعمل” بصيغة الجمع، إذ يلذ للثالوث القدوس أن يعمل معًا بسرور من أجل هذا الكائن المحبوب.
رابعًا: خلق الله الإنسان في النهاية حتى يتوجه كملك علي الخليقة، وكما نقول في القداس الأغريغوري أنه لم يجعلنا معوزين شيئًا من أعمال كرامته. خلق كل شيء من أجله وأعطاه سلطانًا، إذ قال: “إملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا علي سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض” [28]. لم يخلقه كائنًا خانعًا في مذلة إنما أراده صاحب سلطان علي نفسه كما علي بقية الخليقة.
يقول العلامة أوريجينوس: [هذه تشير إلى ما ينبع عن النفس كما إلى أفكار القلب، أو ما ينتج عن شهوات جسدية وحركات الجسد. فالقديسون الذين هم أمناء في بركة ربنا يحملون سلطانًا علي هذه الأمور، فيسيطرون علي الإنسان بكليته حسب إرادة الروح، أما الخطاة فعلي العكس يسقطون تحت سلطان ما ينتج عن رذائل الجسد وشهواته[54]]. المسيحي الحقيقي كما يقول الآب مار إسحق السرياني ملك صاحب سلطان يقول لهذا الفكر اذهب فيذهب ولذاك أن يأتي فيأتي.
خامسًا: جاء خلق الإنسان في اليوم السادس أو الحقبة السادسة حتى إذ تكمل خلقته لا يري الله أن كل ما عمله حسن فقط بل “حسن جدًا” [21]، فيستريح في اليوم السابع، أي يفرح ويُسر بالإنسان موضع حبه. وكما خلق الإنسان في اليوم السادس، قدم السيد المسيح حياته فدية علي الصليب ليعيد خليقته أو يجددها روحيًا في اليوم السادس في وقت الساعة السادسة. ويري القديس أغسطينوس[55] أن السيد المسيح جاء إلى الإنسان في الحقبة السادسة ليجدد الإنسان ويرده إلى صورة الله، إذ يقسم تاريخ الخلاص إلى الحلقات التالية: الأولي من آدم إلى نوح، والثانية من نوح إلى إبراهيم، والثالثة من إبراهيم إلى داود، والرابعة من داود إلى سبي بابل، والخامسة من سبي بابل إلى كرازة يوحنا، والآن نحن في المرحلة السادسة أو في اليوم السادس حيث جاءنا السيد المسيح ليجدد خليقتنا حتى ينتهي العالم وندخل إلى راحته في يوم الرب أو اليوم السابع.
سادسًا: في حديثه العام عن الخلق تحدث هنا عن خلقه الإنسان في عبارة مختصرة ودقيقة للغاية، إذ يقول: “ذكرًا وأنثي خلقهم” [27]، مع أنه سيعود ويتحدث في شيء من التفصيل عن خلق آدم ثم حواء، لكنه من البداية أكد “ذكرًا وأنثي خلقهم” ليظهر أن لنا أبًا واحدًا وأمًا واحدة، فترتبط البشرية كلها برباط دم واحد… وليؤكد جانبًا آخر هو تقديس لسر الزواج بين الرجل والمرأة بكونه سرّ الوحدة بينهما. يقول العلامة أوريجينوس: [كل أعمال الرب تتم بعمل مجموعة متحدة معًا كالسماء والأرض، والشمس والقمر، وهكذا أراد الكتاب أن يظهر الإنسان كعمل الرب لا يتحقق بدون الملء والوحدة التي تناسبه[56]]. بمعني آخر الله خلق الإنسان ذكرًا وأنثي لكي تكون فيهما حركة حب كل نحو الآخر، لا بالمفهوم الشهواني الجسدي، إنما ما هو أعظم “الحب” كعلامة الحياة الداخلية التي تعطي ولا تنتظر مقابل. إن كان الثالوث القدوس هو ثالوث الحب الذي يتفاعل معًا أزليًا في حركة حب فإن الله يريد في البشرية أن تحمل حركة حب صادق من أجل طبيعة الحب الداخلية وليس انتظارًا لمكافأة. ولعل هذا هو الهدف الأول للحياة إنسانية بوجه عام، وهو أيضًا هدف الحياة الزوجية.
يقول الكتاب: “وباركهم الله وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا…” [٢٨]. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الإكثار والنمو لملء الأرض هما هبة من بركة الله، إنهما عطية الزواج الذي أسسه الله من البداية قبل سقوط الإنسان عندما خلقهما ذكرًا وأنثي، بمعني أنه خلقهما جنسين متمايزين[57]]. ويقول العلامة أوريجينوس: [لا يستطيع الرجل أن يثمر ويكثر بدون المرأة، (فأعطاه المرأة) لكي لا يشك في إمكانية البركة[58]].
لقد خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثى لينجبا – حتى ولو لم يسقطا في العصيان – وليس كما ظن البعض أن الإنجاب جاء ثمر للخطية. لذلك يؤكد القديس أغسطينوس[59] إن الإنجاب يتحقق لا كثمرة للشهوة وإنما كجزء من مجد الزواج الذي أسسه الله نفسه، كما يرفض القول بأن الخطية التي ارتكبها الأبوان الأولان هي الشهوة الجسدية وقد عرّتهما من الطهارة، وإنما يقول إن الشهوة جاءت ثمرة من ثمار العصيان.
أخيرًا فإن العلامة أوريجينوس[60] تفسيرًا رمزيًا أيضًا فيري في الرجل رمزًا للعقل وفي المرأة رمزًا للروح، وكأنه يلتزم اتحاد العقل مع الروح في حياة مقدسة كعنصرين متفقين معًا ينجبان أبناء لهما سلطان علي الأرض، أي علي الجسد وكل طاقاته. بمعني آخر أنه لا حياة روحية بدون العقل ولا بدون الروح، إنما يتناغم الاثنان معًا وينسجمان تحت قيادة الروح القدس ليثمرا في الرب ما يفرح قلبه.
في العهد الجديد إذ يرفعنا الله إلى الحياة السماوية الملائكية يشتهي البعض الحياة البتولية ليس احتقارًا للزواج ولا نهيًا عنه، ولكن تفرغًا للعبادة أو الخدمة لحساب ملكوت الله، كقول الرسول بولس: “لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا… أريد أن تكونوا بلا هم. غير المتزوج يهتم ما في للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم ما في للعالم كيف يرضي امرأته” (1 كو 7: 33). في هذا لا يحقر الرسول من الزواج إنما يرفع من شأن البتولية، كما يقول القديس جيروم: [بينما نحن نسمح بالزواج نفضل البتولية النابعة عنه… هل تعتبر إهانة للشجرة إن فُضل تفاحها عن جذورها وأوراقها؟! [61]].
[1] On Ps. 102.
[2] Hom. 1.
[3] Hexaemeron 1: 6.
[4] Ibid 1: 3.
[5] Ibid.
[6] راجع د. فوزي إلياس: ستة أيام الخليقة ص ١١: ١٤.
[7] Pl 46: 821.
[8] In Gen. hom 1: 1.
[9] In Gen. hom 1.
[10] التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس، ص ٨ – ١٩.
[11] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، ١٩٨١، ص ٢٧.
[12] Hexaem. 2: 1.
[13] De Baptismo 2.
[14] Ecol Proph 7.
[15] Cat. Lect. 3: 5.
[16] On Ps. hom 10.
[17] Hexaem. 2: 6.
[18] Of the Holy Spirit 2: 5.
[19] د. فوزي إلياس، ص ١٨، ١٩.
[20] City of God 11: 7.
[21] Ibid.
[22] On Ps. 10.
[23] In Gen. 1: 6.
[24] Of the Holy Spirit 2: 148.
[25] Hexaem. 2: 6.
[26] Ibid 3: 10.
[27] In 1 Tim. hom 12.
[28] On Ps. 71.
[29] City of God 11: 23.
[30] راجع دراسات في سفر التكوين للدكتور راغب عبد النور (مجلة مدارس الأحد سنة ١، ٢).
[31] In Gen. hom 1: 2.
[32] City of God 11: 23.
[33] التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس، ص ٢١، ٢٢.
[34] In Gen. hom 1: 3.
[35] In Gen. hom 1: 3.
[36] On Belief of Resur. 2: 74.
[37] In Gen 1: 5.
[38] In Gen 1: 7.
[39] In Gen 1: 7.
[40] To Autolycus 2: 15.
[41] On Ps. 81.
[42] Ibid.
[43] In Gen. hom 1: 8.
[44] Ibid. 1: 10.
[45] To Autolycus 2: 16, 17.
[46] Ibid.
[47] الإله الإلحاد المعاصر، بيروت ١٩٨٦.
[48] المرجع السابق، ص ١٩.
[49] المرجع السابق، ص ٥١.
[50] In Gen. hom 1: 13.
[51] On Ps. 67.
[52] Ibid.
[53] Ibid 103.
[54] In Gen. hom 1: 16.
[55] On Ps. 93.
[56] In Gen. hom 1: 14.
[57] City of God 14: 22.
[58] In Gen. hom 1: 14.
[59] City of God 14: 21.
[60] In Gen. hom 1: 14.
[61] Ep. 48: 2.