الأصحاح الرابع
اللبنة المرسومة ونومه.
بدأ الحديث الإلهي مع حزقيال النبي بطلب التنبؤ وإنذار الشعب من خلال الرموز واستخدام ما نسميه “وسائل إيضاح”، الأسلوب المتبع في رياض الأطفال. ذلك لعجز اللغة البشرية عن التعبير، أو بقصد لفت انتباههم بسلسلة من الدروس العِيانّية.
1. اللَّبِنة المرسومة [1 – 3].
2. النوم على جنب واحد [4 – 8].
3. الأكل بالوزن والغم [9 – 17].
الأعداد 1-3
1. اللبنة المرسومة:
أمره الرب أن يرسم على لَبِن (طوبة من الطين) مدينة محاصرة بالجيوش، يقيم ضدها برجًا ومترسة ومجانق (آلات حربية لهدم الأسوار)، معلنًا أن حصار أورشليم قادم بسماح إلهي للتأديب، إذ أن الهيكل المقدس قد مضى عليه سنوات طويلة وهو منجَّس بإقامة أنصاب لآلهة وإلآهات وثنية داخل الأماكن المقدسة.
إذ شعرت صهيون أن الرب قد تركها، وسيدها نساها، أكد لها: “هوذا على كفّي نقشتك” (إش 49: 16). لقد نقشتك في ابني يسوع المسيح بكونك جسده المقدس وهو الرأس، أراك فيه مقدسة ومبررة، ترتفعين به وفيه إلى أحضاني وتتمتعين بشركة أمجادي. أما هنا فإذ تصر صهيون على الخطيئة وترتبط بالزمنيات ولا تريد أن تسمو عن الأرضيات لهذا طلب الله من حزقيال أن يرسمها على لبنة من الطين، بدلاً من أن تُرسم على كف الرب؛ إنه يعطيها سؤل قلبها. لهذا كثيرًا ما يردد مثل هذه العبارة: “أجلب عليك طرقك” (7: 4). اشتهت الأرض، فجعلها منقوشة على الطين!! بعد أن كانت أسماء أسباط إسرائيل منقوشة على الحجارة الكريمة توضع على صدر رئيس الكهنة ليدخل بها إلى قدس الأقداس في ظل السمويات هوذا مدينة أورشليم تنقش على الطين الذي أرادت أن تتثقل به!
في سفر النشيد يعتز الله بأولاده فيشبههم بالفرس العاملة معًا بروح واحد في مركبته الإلهية للخلاص (نش 1: 9)، يراهم كترصة حسنة مرهبة كجيش بألوية (نش 6: 4)… لكنهم إذ يُصرّون على اعتزاله والارتباط بالرجاسات يقيم ضدهم من الأمم برجًا ومترسة ومجانق لتحطيم كل قوة فيهم! بل ويأمر بإقامة سور من حديد حول المدينة [3] لا ليحميها وإنما لكي لا يهرب أحد مما يحل بها من تأديبات!
والعجيب أن الله في وسط هذا المُرّ يطلب من النبي أكثر من مرة أن يثبت وجهه على المدينة (3: 7) وأن يجعل ذراعه مكشوفة حين يتنبأ عليها [7]. أما تأكيد تثبيت وجهه على المدينة المحاصرة مرتين فعلامة رعاية الله لشعبه من اليهود كما من الأمم، إن الكنيسة بكل أجناسها هي موضوع رعايته وعنايته واهتمامه حتى في أمرّ لحظات التأديب. إنه يسمح لأولاده بالضيقات بكل مرارتها ومعها الخلاص. لهذا يسمى القديس يوحنا الذهبي الفم الألم “مدرسة الفلسفة” [80]، كما يقول: [إذا أخطانا يُنهض الله علينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا لا أن نحاربهم، بل نحاسب أنفسنا ونثقفها. لنتقبل الآلآم كقبول الأدوية من الطبيب لأجل خلاصنا، وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد. لهذا يقول الحكيم ابن سيراخ: يا بني إذا تقدمت لخدمة ربك فتأهب للتجارب واصبر[81]].
أما الذراع المكشوفة فتشير إلى التجسد الإلهي، إذ يرى الآباء في “ذراع الرب” إشارة إلى الابن، و “أصبع الرب” إشارة إلى الروح القدس. وكأن أورشليم تبقى تحت الحصار في قبضة الخطيئة وتحت سلطانها حتى تنكشف ذراع الرب كقول القديس يوحنا: “فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1 يو 1: 2). هذا الذي هو غير منظور صار بالتجسد مكشوفًا، إذ “حل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا” (يو 1: 14). لقد حوصر قلبنا – أورشليم الداخلية – وتدنس هيكلنا وصرنا في حالة موت حتى شمر الآب ذراعه، أي أرسل ابنه الوحيد ليحررنا ويردنا إلى الخلاص. هذا ما رآه إشعياء النبي بروح النبوة إذ بشَّر أورشليم المسبية بالخطية، هذه التي نامت نوم الموت ودفنت في التراب وتحطمت تمامًا، قائلاً:
“استيقظي، استيقظي، إلبسي عزك يا صهيون.
إلبسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة.
انتفضي من التراب،.
قومي اجلسي يا أورشليم،.
انحلّي من رُبط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون.
ما أجمل على الجبال قَدَمَي المبشر المخبر بالسلام،.
المبشر بالخير المخبر بالخلاص،.
القائل لصهيون: قد ملك إلهك…
أشيدي، ترنمي معًا يا خِرب أورشليم،.
لأن الرب قد عَّزى شعبه، فدى أورشليم،.
قد شَّمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم،.
فيرى كل أطرف الأرض خلاص إلهنا “(إش 52).
واضح أن سر يقظة صهيون، ولبسها عزها، وانتقاضها من التراب، وتحررها من عنق العبودية، وتمتعها بالسلام هو تشمير ذراع الرب أمام عيون الأمم، أي تجسد السيد ليضم في جسده جماعات متمتعة بالخلاص.
هذا وتشمير الذراع يشير إلى الاستعداد للضرب، وعلى ما اعتقد لا يقصد ضرب شعبه إنما ضرب الخطيئة التي حطمت هذا الشعب، فقد جاء السيد المسيح لا ليدين الإنسان بل ليخلصه… لقد دان الخطيئة التي سقطنا نحن فيها في جسده!
قلب الله نحو شعبه لم يتغير، لكن قداسته تقتضي تحطيم الخطية ومعاقبة الأشرار المُصريّن على شرهم لعلهم يرجعون إليه بالتوبة.
الأعداد 4-8
2. النوم على جنب واحد:
إذا أعلن الرب حصار أورشليم وسبيها مع تلميحه عن اهتمامه بها وتشمير ذراع قدسه لخلاصها، بدأ يوضح فاعلية الخطيئة في حياة الإنسان، إنها تحطمه تمامًا، تلقيه إلى حالة نوم دائم بلا حيوية ولا عمل، ينام الإنسان على جنب واحد كمن هو مصاب بالفالج (الشلل).
لقد طلب منه أن ينام على جنبه الشمال 390 يوما ( وبحسب الترجمة السبعينية 190 يومًا)، ثم يعود فينام على جنبه اليمين لمدة أربعين يومًا، بالنوم الأول يشير إلى إثم بيت إسرائيل والثاني إلى بيت يهوذا. العمل الأول يشير إلى سقوط الإنسان تحت سلطان الضربة الشمالية أي الخطايا الظاهرة كالزنا والقتل والسرقة والكذب الخ، أما الضربة اليمينية فهي الخطايا الخفية التي يتعرض لها المؤمنون والذين يخدمون الرب مثل خطايا البر الذاتي وحب الكرامة والمديح، الأمور التي ليس لها مظهر الخطيئة أمام الناس لكنها تفسد حياة المؤمنين والخدام. النوم على الجانب الأيسر يبقى زمانًا أطول من النوم على الجانب الأيمن، لأن شعب يهوذا وإن كان قد تأخر في شره عن مملكة إسرائيل الشمالية لكنه في زمن قصير كمل شره. هكذا بالضربات اليمينية يسقط المؤمنون بسرعة خطيرة، ويكمل شرهم في وقت قصير، الأمر الذي جعل القديس يوحنا الذهبي الفم يعلن: [عجبي من أسقف (رئيس) يخلص!]، كما كان آباء البرية يحذرون أبناءهم الرهبان من الضربات اليمينية أكثر من اليسارية، لأن الأخيرة واضحة ويسهل التوبة عنها، أما الأولى فغالبًا ما تكون خفية تتسلل إلى القلب وتحطم توبته!
لماذا نسب الجنب الأيسر لإسرائيل والأيمن ليهوذا؟ لأنه إذ يتطلع الإنسان نحو شروق الشمس يكون الشمال عن يساره والجنوب عن يمينه، هكذا إسرائيل مملكة الشمال يمثلها جنبه الأيسر ويهوذا مملكة الجنوب يمثلها جنبه الأيمن.
أما بالنسبة للأرقام فلا أريد الدخول في تفاصيل كثيرة، إذ وجدت لها تفاسير متنوعة، مكتفيًا هنا بإبراز النقاط التالية:
أ. يرى البعض بإضافة الرقمين معًا (390 + 40) يكون الناتج 430 يومًا رمزًا إلى سني العبودية التي عاشتها الأمة اليهودية في مصر تحت العبودية. وكأن هذه الأرقام ليست إلا رمزًا عن فعل الخطيئة في حياة المؤمنين، إذ تدخل بهم إلى العبودية المُرّة.
ب. يرى البعض أن رقم 390 يشير إلى السنوات التي عاشتها إسرائيل منذ ارتداد يربعام حتى خراب أورشليم، بينما رقم 40 يشير إلى السنوات التي انحط فيها يهوذا قبل السبي.
ج. يفسر البعض رقم 390 هكذا؛ إن حصار أورشليم قد بقى 18 شهرًا (إر 52: 4 – 6) فإذا حذف منها خمسة شهور انسحب فيها المحاصرون عندما اقترب جيش فرعون (إر 37: 5 – 8) فيكون الباقي 13 شهرًا أي 390 يومًا.
د. الرقمان 390، 40 يرمزان إلى الخطيئة التي شملت كل إنسان، وشملت كل الحياة الزمنية، فحطمت كل البشرية بفالجها، وحطمت كل واحد كل أيام زمانه. فرقم 390 إنما هو حصيلة ضرب رقم 39 في 10، لأن عدد أسباط مملكة إسرائيل (10)، وأجرة الشر 39 جلدة، كأن كل الأسباط قد استحقوا الجلد. أما رقم 40 فيشير للحياة الزمنية كلها، لهذا صام السيد المسيح أربعين يومًا وأيضًا موسى وإيليا علامة ضرورة زهدنا كل أيام غربتنا. فالرقم الأول يعني شمول الخطيئة لحياة كل الناس، والرقم الثاني أنها تشمل كل أيام زماننا.
يرى البعض أن ما ورد هنا عن اتكائه 390 يومًا على جنبه الأيسر و40 يومًا على جنبه الأيمن يتعارض مع ما ورد في (حز 8: 1) حيث نجد النبي جالسًا وسط كبار قومه أثناء المدة المذكورة، فضلاً عن تعارض أمر الله له هذا مع إمكانية البشر، فلا يُعقل أن حزقيال تمَّكن من تنفيذه.
يرد على ذلك[82]: يتضمن النص السابق عادة شرقية قديمة، وهى عادة “اتكاء” الرجال أثناء جلوسهم على الأرض، متوسدين وسادة توضع تحت اليّد اليمنى أو اليسرى، حسب رغبة الشخص.
ولا يشترط النص المذكور عدم حركة النبي أثناء تنفيذه أمر الرب، لكن يشترط عليه ضرورة الالتزام بالاتكاء على جنبه الأيسر خلال الـ 390 يومًا والجنب الأيمن خلال الـ 40 يومًا كلما رغب في الجلوس فقط، واشترط أيضًا ضرورة كشف الذراع كله الذي يتكئ عليه [7]. وهذا الأمر لا يتعارض مع مباشرة النبي كل ما يريده من تحركات وأعمال متفاوتة أثناء المدة الزمنية المذكورة، ولا نجد صعوبة ما على النبي أو على غيره في ممارسة هذا الأمر. كما لا نجد أي تعارض مع النص الوارد في (حز 8: 1) الخاص بجلوس حزقيال النبي وسط كبار قومه. فالنص الأول لا يحرم على النبي الجلوس مع غيره، وفي نفس الوقت يؤكد أنه كان في بيته جالسًا، أي متكئًا، وبلا شك في أنه كان يلتزم بالوضع الذي حدده له الإعلان الإلهي، فلا خلاف بين النصين.
الأعداد 9-17
3. الأكل بالوزن والغم:
الأكل بالوزن والغم، والشرب بالكيل والحيرة، علامة المجاعة التي تحل بالشعب للتأديب. إنه رمز لعمل الخطيئة في حياة الإنسان، إذ تصيب نفسه بحالة جوع مع غم وعطش مع حيرة… هذا كله بجوار الفالج (الشلل) الذي أصابها.
لقد حدد له عشرة شواقل (حوالي 8 أوقيات) من الخبز كل يوم، وسدس الهين (حوالي نصف بنت أو 16 / 1 من الجالون) ماء. أما الخبز فمن أردأ الأصناف، التي تقدم للخيل والخنازير، وهو خليط من القمح والشعير والفول والعدس والدخن (ذرة رفيعة) والكرسنة (بذار برية مثل القمح)، يأكله أثناء نومه على جنب واحد. كما طلب منه أن يخبره مستخدمًا براز الإنسان عوض الحطب علامة ما بلغه الشعب من دنس ونجاسة (تث 23: 13 – 14)، لكن إذ توسل إليه أن يعفيه من هذا الأمر سمح له أن يخبره على روث الحيوانات. هذه العادة التي لا تزال توجد في بعض قرى الصعيد حيث تستخدم (الجلة) كوقود عوض الحطب. على أي الأحوال هذا التصرف يرمز إلى ما يصل إليه الشعب من تعب!
من وحي حزقيال 4.
بحبك نقشتني على كفيك.
- بحبك نقشتني على كفك يا إلهي،.
حسبتني أورشليم المحبوبة، وصهيون المقدسة.
لكنني بخطاياي ونجاسات قلبي.
صرت منقوشًا على لبنة من الطين.
صرت محتقرًا، أتمرغ في الوحل.
بتهاوني أحاط بي العدو وحطم أسواري،.
يا من تريد أن تقيم روحك الناري سورًا لحياتي!
- مددت أيها الآب ذراعك الإلهي،.
إذ أرسلت لي ابنك متجسدًا،.
يغسلني من التراب،.
ويهبني روحك الناري،.
ويحملني إلى أحضانك!
- خطيتي نزعت عنى حيويتي،.
صرتُ مريضًا بالفالج،.
تارة أتكئ على جنبي الشمال مضروبًا بالشرور،.
وأخرى أتكئ على اليمين مضروبًا بالبر الذاتي،.
- حرمتني خطيتي من الشبع،.
حولت جنتي الداخلية إلى قفر مدقع.
من ينقذني من هذه المجاعة إلا أنت يا شبع نفسي؟!
[80] In Acts, PG 60: 378.
[81] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1981، ص 322.
[82] الدكتور وهيب جورجي: مقدمات العهد القديم، 1985، ص 276.