الأصحاح السابع والثلاثون
إلتجاء حزقيا إلى الرب.
إذ سمع حزقيا الملك تعييرات سنحاريب وجد في الرب وحده ملجأ له؛ مزق ثيابه ولبس المسوح ودخل بيت الرب وبعث رسلاً إلى إشعياء النبي يطلب الصلاة من أجله ومن أجل تمجيد اسم الرب. تدخل الله في المعركة بذراعه الرفيعة، فضرب ملاك الرب جيش آشور ومات 185 ألفًا، كما مات سنحاريب وابنه شرآصر ليملك ابنه آسرحدون.
1. التجاء حزقيا إلى الله وإلى نبيه [1 – 4].
2. إشعياء يطمئن حزقيا [5 – 7].
3. ملك آشور يُعيرّ الرب [8 – 13].
4. صلاة حزقيا [14 – 20].
5. إشعياء يعود فيطمئن حزقيا [21 – 35].
6. ضرب جيش آشور [36].
7. موت سنحاريب وابنه شرآصر [37 – 38].
الأعداد 1-4
1. التجاء حزقيا إلى الله وإلى نبيه:
اختلفت الآراء حول تقدير سلوك حزقيا، فالبعض رأى فيه الإنسان الورع التقي والمتواضع لذا اغتصب مراحم الله وإن كان فيما بعد سقط في الكبرياء فهلك، ويرى البعض أن ما فعله حزقيا ليس عن تقوى ولا عن إيمان لأنه بعد قليل قدم خزائن الهيكل لسنحاريب (2 مل 18: 14 – 16) وقال له: “أخطأت”. هذا وقد لحق الملك رعبًا وخوفًا، وعند حديثه كرر العبارة “الرب إلهك” [4]، وليس “الرب إلهنا” أو “إلهي”.
نعود إلى الملك لنراه عند سماعه كلمات ربشاقي “مزق ثيابه وتغطى بمسح ودخل بيت الرب” [1]. كان ذلك علامة حزنه مع اتضاعه أمام الله.
أرسل حزقيا الياقيم وشبْنا وشيوخ الكهنة متغطين بمسوح إلى إشعياء النبي [2]. لقد تغير الحال، فبعد أن كانت القيادات المدنية والدينية تسخر بإشعياء حين كان يسير حافيًا وعريانًا منذرًا إياهم أن فرعون ورجاله لن يستطيعوا إنقاذهم (إش 21)، الآن ها هم يأتون إليه لابسين المسوح في مرارة يعلنون حاجتهم إلى صلواته ومشورته. ادركوا أنه “يوم شدة وتأديب وإهانة” [3]، فليكن يوم توبة وصلاة. شعروا “أن الأجِّنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة” [3]، من يستطيع أن يعين إلاَّ الله خلال الصلاة؟! لا يقدر فرعون بكل إمكانياته أن يهب المرأة الحامل قدرة على الولادة حتى متى حان وقت الطلق… الصلاة هي “المولِّدة” للرحمة التي تحقق الولادة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يُعادل الصلاة! إنها تجعل المستحيل ممكنًا، والصعب سهلاً. لا يمكن للإنسان الذي يُصلي أن يسقط في خطية[372]]. ويقول الأب ثيوفان الناسك: [الصلاة هي كل شيء؛ هي موجز كل شيء: الإيمان، الحياة حسب الإيمان، الخلاص الخ[373]…] كما يقول أن الصلاة هي [نسمة الروح[374]]، هي [مقياس الحياة الروحية[375]]، الكنيسة كلها [تتنسم خلال الصلاة [376]].
لقد تشامخ ربشاقي وعيرّ الإله الحيّ، لذا يحتاج الأمر إلى تدخل هذا الإله لإعلان مجده وقدرته، ولأجل خلاص البقية الأمينة له. يقول المرتل: “حتى متى يا الله يُعيّر المقاوم؟!” (مز 74: 10).
الأعداد 5-7
2. إشعياء يطمئن حزقيا:
سخر إشعياء بملك آشور ورجاله، إذ حسب رجال حربه وقواده غلمانًا، ليس لهم فهم ولا قدرة؛ فلا يليق بحزقيا أن يخافهم [6].
ما فعله سنحاريب خلال رجاله يُفعل به؛ فقد حاول رجاله أن يملأوا آذان الشعب بكلمات تجديف كما هددوا بالقتل، لهذا امتلأت آذان ملك آشور بخبر يزعجه [7] ويسقط بالسيف في أرضه. نطق بكلمات قاسية وهدد بالقتل، فارتدت الكلمات عليه وقُتل. أما قوله: “هانذا اجعل فيه روحًا” [7]، فيعني أن الله يتركه لروح الشر الذي قبله بمحض اختياره، يسلمه له، فيمارس شره الذي يرتد عليه.
الأعداد 8-13
3. ملك آشور يُعيرّ الرب:
رجع ربشاقي إلى سنحاريب ليجده قد ترك لخيش وذهب إلى لبنة ليُحاربها.
“لبنة” اسم معناه “بياض”، وهي مدينة بين لخيش ومقيدة (يش 10: 39؛ 12: 15)، في نصيب يهوذا خصصت لبنى هرون (يش 21: 13). يُرجَّح أنها في المكان المسمى تل بورناط على مسافة ميلين شمال غربي من بيت جبرين، يُظن أنها تل الصافي أو الصافية.
سمع الملك أن ترهاقة ملك مصر وكوش [9] قد خرج ليحاربه فأرسل إلى حزقيا مرة أخرى يُهدده طالبًا خضوع أورشليم واستسلامها له، مجدفًا على الله الذي يتكل حزقيا عليه.
يتساءل البعض لماذا كرر سنحاريب تهديده؟ ربما لأنه كان محاطًا بأمم معادية وقد خشى من ترهاقة ملك مصر وكوش القوي، لهذا أراد الاستيلاء على أورشليم دون سفك دماء لتكون سندًا له.
مع ما حملته الرسالة من تجديف على الله لكنها مختصرة عن الأولى وأخف بكثير في لهجتها ربما لأنه أراد أن يكسب حزقيا ويستميله دون إثاره. لقد أظهر له أن لا يوجد عداء شخصي ضده، إنما هي معركة بين إله سنحاريب الغالب لكل آلهة الأمم الأخرى وإله حزقيا…
معركتنا الروحية في حقيقتها معركة بين الله وإبليس؛ نحن لسنا طرفًا فيها، ولا نقدر أن نكون طرفًا. إن اختفينا في الله نلنا النصرة به وفيه، مهما حاول العدو أن يُعيرنا! هذا ما أدركه داود النبي حينما رأى جليات الجبار يقاوم شعبه إذ قال: “لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يُعيّر صفوف الله الحيّ؟! (1 صم 17: 26)،” أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتيّ إليك باسم رب الجنود… “(1 صم 17: 45).
الأعداد 14-20
4. صلاة حزقيا:
أخذ حزقيا رسالة سنحاريب المكتوبة من يد الرسل وقرأها ثم صعد إلى بيت الرب ونشرها أمام الرب ثم صلى [14 – 15].
إن كان سنحاريب حسب أنه لا يحمل عداوة شخصية مع حزقيا إنما هي معركة بين الآلهة، فقد أنطلق حزقيا إلى إلهه يعرض عليه الأمر في بيته المقدس. ولعل من أجمل سمات حزقيا أنه رجل صلاة، ففي خمس مناسبات نسمع عنه أنه يتمتع بقوة خلال الصلاة.
يلاحظ في صلاته الآتي:
أ. انفتاح قلبه في الصلاة مع خشوعه واتضاعه… لم يبرر نفسه في شيء بل اختفي تمامًا عارضًا في صراحة كاملة الأمر بين يديّ الله.
ب. يدعو الله “رب الجنود“، بكونه قائد المعركة القدير، جنوده علويون قادرون على النصرة والغلبة ضد العدو.
يروي لنا القديس جيروم عن راهب مصري يُدعى أبا آبان [إن أحد العاملين في الحقول التي بحوار النهر سأله أن يطرد عنهم “بهيموت” (أحد أنواع التماسيح المصرية) كان يؤذيهم بعنفه، فإذا به بصوت رقيق يأمر الحيوان: “أُناشدك باسم يسوع المسيح أن ترحل”، فأخذ الحيوان ينسحب كما بواسطة ملاك، ولم يعد يظهر بعد في هذه المنطقة[377]].
بالمسيح يسوع ربنا ننعم بالنصرة الأكيدة. لقد سأل العلامة أوريجانوس: [إن كان بالحق قد تحطم الشيطان وقواته معه، فكيف نعتقد أنه لا يزال هكذا صاحب سلطان ضد خدام الله؟ ويجيب قائلاً: إن نشاط الشيطان العنيف له أثره على الأشرار وحدهم، لكنه لم يعد ذا سلطان على من هم في المسيح[378].
ج. دعوة الله بالجالس على الكاروبيم، إذ هو غير محتاج إلى عرش زمني، بل عرشه سماوي… لذا ففي عمله لا يطلب ما لذاته إنما ما لبنيان شعبه ومؤمنيه.
د. دعوة الله “إله كل ممالك الأرض” وليس إله إسرائيل؛ في يده كل الأمم، يُحرك العالم كله بإرادته المقدسة.
هـ. حقا لقد غلب سنحاريب الأمم المجاورة وألقى بآلهتها في النار لتحترق وتبيد… لكنه ماذا يقدر أن يفعل بالخالق؟!
و. قدم ختامًا رائعًا للصلاة: “والآن أيها الرب إلهنا خلصنا من يده فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك” [20]. كأن ما تقدمه لنا من نصرة إنما هو شهادة في العالم على صدق إيماننا بك وأنت أنت الإله وحدك ولا آخر غيرك.
الأعداد 21-35
5. إشعياء يعود فيطمئن حزقيا:
صلى حزقيا إلى الله فجاءت الإجابة سريعة عن طريق إشعياء النبي، مضمونها الآتي:
أ. إن كان سنحاريب قد جدف على الله وسخر به، فقد وجه الرب حديثه إلى سنحاريب يسخر به قائلاً: “احتقرتك، استهزأت بك إبنة صهيون، نحوك انغضت ابنة أورشليم رأسها…” [22] الخ…. وكأنه يقول له: إن كنت قد هجت عليّ كحيوان مفترس فإنني أعرف أن اضبطك وأسخر بك خلال العذراء ابنة صهيون إبنة أورشليم… أو كأنه يقول له: أنت تأتيني بجيشك الضخم وأنا أُحطمك بفتاة عذراء تحتقرك. أنت تفتخر بكثرة مركباتك، إذ صعدت إلى الجبال العالية وقطعت أرز لبنان وسروه وتعمقت إلى وعر الكرمل ولم تدرك قدرتي، فإنني إذ أحفر في الجبال بيدي أبعث ماءً للشرب وإذ أطأ الأنهار بقدميّ اُجففها، في يدي مفاتيح الطبيعة… أذكر ما فعلته بفرعون أيام موسى النبي [24 – 26]. أذكر ما فعلته بالأمم حين وهبت أرض الموعد لشعبي! تعلَّم من التاريخ خلال وقائع عملية حتى لا تتحطم!
يعلن الله لسنحاريب أنه ضابط الكل والعارف بالسرائر، ليس محتاجًا أن يبعث إليه رسائل للتجديف عليه، فأنه يعرف جلوسه وخروجه ودخوله وهيجانه عليه… ويستطيع أن يشكمه كالحيوانات فيضع خزامة في أنفه وشكيمة (لجامًا) في شفتيه، ويديره كحيوان مُقاد ليعود من حيث جاء.
بمعنى آخر سخر الله به من جوانب عدة: يستطيع أن يهينه خلال فتاة عذراء تحتقره؛ يُثير الطبيعة ضده، يضبط تحركاته ويقوده إلى حيث لا يشاء! بمعنى آخر الله يذل عدو الخير خلال كنيسته العذراء البتول، مسخرًا الطبيعة لحساب ملكته، ومحطمًا كل إمكانيات وخطط عدو الخير.
جاء في سيرة القديسة ميلانية أن عدو الخير قد أدرك أن كل صراعاته ضدها قد باءت بالفشل، شعر بالهزيمة واستسلم ولم يعد قادرًا على مقاومتها. ويرى العلامة أوريجانوس أنه يليق بنا أن نلوم أنفسنا عندما نخطىء ولا نحسب أن الشيطان هو علة خطأنا كما يظن العامة البسطاء[379]. لقد أعطينا بالمسيح يسوع قدرة على تحطيم العدو إن أردنا.
ب. أعطى الله لحزقيا علامة مجيدة لينزع عنه الرعب من المصاعب التي تحل عليه بسبب غزو سنحاريب [30 – 32]. إن كان العدو قد استولى على الحصاد حتى لم تبق بذار للزرع الأمر الذي يقود إلى حدوث مجاعة أو على الأقل إلى عجز في الطعام، فإن الزرع يخرج في تلك السنة دون حاجة إلى بذار (ربما من البواقي التي سقطت عفوًا)؛ وهكذا في السنة التالية، وأما في السنة الثالثة حيث يسترد الشعب طاقته فتعود الحياة طبيعية. كأن الله يعمل معهم عجبًا ماداموا عاجزين وإمكانياتهم معدمة، حتى متى صاروا في وضعهم الطبيعي يعمل بهم خلال الحياة الطبيعية وخلال قوانين الطبيعة.
كانت هذه العلامة رمزًا للبقية الناجية من يهوذا فإن نجاتهم هي عطية من الله بالرغم من مقاومة الأعداء وعنفهم، إذ يقول: “يتأصلون إلى أسفل ويصنعون ثمرًا إلى ما فوق” [31]، كأن العدو قد استأصلهم تمامًا، فصاروا كمن هم بلا جذور، كلن الله يُقيمهم ويهبهم ثمرًا كما فعل بالزرع في السنتين الأولى والثانية من غزو سنحاريب… “غيرة رب الجنود تصنع هذا” [32]. أي أن هذا الخلاص لا يتحقق عن استحقاق بشري إنما عن حب الله لشعبه وغيرته عليه بكونه العريس السماوي الغيور على عروسه لتصير مقدسة له لا يغتصبها آخر.
“هكذا قال رب الجنود: غرت إلى أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة” (زك 1: 14).
“لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو” (خر 34: 14).
خلال هذه العلامة يعلن الله بركات نحو شعبه، وهي:
أولاً: خلاص الشعب من الدينونة فلا يحل بهم القحط بل يتمتعون بثمر وفير [30].
ثانيًا: تُزرع البقية من جديد في أورشليم [32] إشارة إلى تجديد الطبيعة البشرية ورعاية الله لكنيسته.
ثالثًا: يصنعون ثمرًا إلى فوق [31]، أي يحملون طبيعة سماوية علوية.
رابعًا: انتشار الكرازة من أورشليم [32].
خامسًا: سّر هذا العمل الخلاصي هو نار محبة الله وغيرته المتقدة [32].
ج. تأكيد الله أن سنحاريب لن يدخل أورشليم [33 – 35]؛ لن يصّوِب نحوها سهمًا واحدًا ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسة… إنما يعود في خزي من حيث جاء. هكذا يستخدم الله – في محبته لأولاده – كل وسيلة لينزع عنهم القلق، مؤكدًا لهم حمايته ورعايته ومحبته العملية نحوهم.
د. سرّ حمايته لشعبه ليس بَّرهم الذاتي وإنما غيرته على مجده وعهوده مع أولاده المحبوبين مثل داود. فإنه ليس من أجل يهوذا ولا من أجل صلوات حزقيا المثيرة يتدخل الله وإنما كما قال: “وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي” [35].
لقد مات داود لكن حياته مستمرة خلال صلواته المرفوعة التي من أجلها يحامي الله عن مدينة أورشليم.
العدد 36
6. ضرب جيش آشور:
“فخرج ملاك الرب وضرب من جيش آشور مئة وخمسة وثمانين ألفًا، فلما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة” [36].
غالبًا ما يقصد بملاك الرب كلمة الله قبل التجسد، وقد تحقق ذلك في ذات الليلة التي تلت حديث النبي إشعياء مع حزقيا (2 مل 19: 35).
لقد هُزم سنحاريب في المرة مع أنه سبق أن حاصر حزقيا وأذله، فقد جاء في إحدى الحفريات التي وجدت في خرائب نينوى[380] كلمات على لسان سنحاريب أنه هاجم حزقيا وأخذ 46 حصانًا ومدنًا صغيرة كما سبى 150 و200 شخصًا من كبار والصغار، من الذكور والإناث، وعدد كبير من الحيوانات؛ كما أغلق على حزقيا في أورشليم كعصفور في قفص ووضع سدودًا أمام مدينته وفرض عليه جزية مضاعفة الخ…
الأعداد 37-38
7. موت سنحاريب وابنه شرآصَّر:
قُتل سنحاريب وابنه وهو ساجد في بيت نسروخ إلهه، الذي كان يظن أنه قادر على حمايته وأنه سرّ غلبته على كل الأمم وآلهتهم…
[372] De Anno Sermo 4; PG. 54: 666.
[373] Cf. Tomas’ Spidlik: The Spirituality of the Christian East, 1986, P. 307. Nacertanye christianskago nravoucenija (Christian Moral Teaching) , 1895, p. 122.
[374] Ibid. 406.
[375] Cf. Spidlik: Theophane la Recluse, p. 240.
[376] Ibid 241.
[377] The histories of the Monks who lived in the.للمؤلف: قاموس آباء الكنيسة وقديسيها، العهد الجديد 1 1986، ص40.
[378] In Librum Jesu Neve, hom. 8: 4.
[379] De Principiis 3: 21.
[380] Bultema, p. 344 / 5.