وهذا يأتي آخر الأمر إلى موقف المسيح من الأعمى، وقد لا نستطيع فهم الموقف على الوجه الصحيح مالم نربطه بما جاء في الأصحاح السابق في إنجيل يوحنا حيث قال المسيح: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يو 8 : 12). وقد أراد المسيح أن يكشف بصورة نموذجية هذه الحقيقة أمام الجميع. فاختار المولود من بطن أمه أعمى ليبين الفرق بين من يعيش معه، ومن يبتعد عنه.. قيل عن محام من أقدر المحامين الأمريكيين في نيويورك أنه قضى صيفًا بأكمله في الجبال البيضاء المرتفعة في عزلة كاملة، وعندما قالت له سيدة: يبدو أنك أطلت أجازتك الصيفية أكثر من المعتاد.. أجاب: نعم لأن الطبيب أخبرني بأني سأفقد البصر بعد ثلاثة شهور، ولذلك جئت إلى الطبيعة العظيمة أتملى من مناظرها التي سأفقدها بعد أن تخيم الظلمة على عيني!! أجل! ولا يعرف جمال البصر على حقيقته إلا من يفقده، فإذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية الأخرى، فإننا نرى إنساناً خرج إلى الدنيا. وهو لا يراها سوى ظلام في ظلام، والمسيح بالنسبة لدنيانا هو النور الذي بدونه يغرق الإنسان في الظلام.. تحدث المسيح عن نفسه بأنه «نور العالم» في عيد المظال، وقد كان يوجد في الهيكل المنارة الذهبية ذات السبعة الشعب لتضيء القدس، كما كانت هناك أعداد كبيرة من المصابيح تنير المدينة كلها، وتحولها إلى شعلة من نور، وكان اليهود في ذلك العيد يذكرون عمود النور الذي كان يقودهم في الصحراء، وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يبدو الفقير الأعمى رمزًا للعالم كله في حاجته إلى يسوع المسيح، وفي الحقيقة إن أي إنسان لم يتعرف على المسيح بعد، هو أعمى عن حقائق الله العظمى المعلنة في المسيح.
كانت آلام الرجل فرصة أمام يسوع المسيح، وكان هو النور الذي يضيء في الظلمة لم يجلس ليتفلسف حول آلام الأعمى، كما فعل التلاميذ، أو ليتسلى بمنظره كما تسلى الجيران. أو ليخاف مما يحدث كما خاف الأبوان ولم ينتقد كما انتقد اليهود بل قال: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار ويأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل، مادمت في العالم فأنا نور العالم» (يو 9 : 4 و 5) أو بعبارة أخرى إن الحياة هي فرصتنا الكبرى فى الخدمة والأنقاذ.. والفرصة كالشعرة على حد قول شكسبير إن لم تمسك بها ضاعت وطارت، وأضاف السيد ما ينبغي أن نتحذر منه بالتمام،عن الليل الذي سيأتي حين لا يملك الإنسان أن يعمل، والعبارة الأخيرة كما يقول بروفسور جيكي: هي العبارة التي حفرها دكتور جونسون على ساعته، والتي دونها كابتن سكوت على المزولة في ابتسفورد، وجعلها كارليل شعاره فيما كان يكتب من مؤلفات، وويل للإنسان الذي لا يغتنمنهاره قبل أن يأتي ليل القبر عندما تنتهي خدمته في هذه الحياة!!
وقد كان المسيح عجيبًا في الطريقة التي فتح بها عيني الرجل، لقد تفل على الأرض وصنع من التفل طينًا، وطلي بالطين عيني الأعمى، وأرسله ليغتسل في بركة سلوام.. وهناك اعتقاد عند الكثيرين من المفسرين، بأن الرجل كان مفقود المقلتين وأن المسيح الذي صنع الإنسان من التراب، كان لابد أن يكمل المقلتين من نفس المادة التي صنع منها الإنسان، وقال آخرون إن الأمر يمكن أن نراه من جانب آخر، إذ أن الطين في العادة يؤذي البصر ويضره، ولا يمكن أن تفتح عينا إنسان بحفنة من التراب أو الطين توضع في عينيه، كما أن الاغتسال لو أننا أخذناه بقياسه المادي سيذيب الطين ويسقط من العينين دون أن يلصق بهما!! لكن المسيح ترك الرجل يسير في الطريق متأملاً ليمتحن إيمانه ويذكيه ويقويه، وهو يفعل هكذا على الدوام، ومن واجبنا أن نطيع ونسلم حتى ولو بدا الأمر خارجًا عن المتعارف عليه، أو المألوف أو المدرك بين الناس.
ونلاحظ أن هذا كان الفرق بين الفريسيين وبين الرجل بعد أن أبصر، أما هم فقد كانوا غير مستعدين لقبول روايته أو لتفسير المعاني المستخلصة منها، أما هو فقد تزايد إيمانه حتى بلغ الكمال آخر الأمر.
منذ سنوات عديدة تجدد رجل في أوروبا، وأحب الإنجيل لدرجة جعلته يفكر أنه يجب أن يذهب ويكرز به، وفعلا قام، واجتمعت حوله جماهير غفيرة لتسمعه من باب الفضول، غير أنها لم تلبث أن قل عددها مع الأيام حتى لم يعد يرى أحدًا. وفعل الرجل شيئًا غريبًا إذ أذاع نشرة في المدينة بأنه على استعداد في يوم معين وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا أن يسدد ديون أي إنسان يتقدم إليه في هذه الأثناء، وانتشرت الأخبار في المدينة بأنه على استعداد في يوم معين وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا أن يسدد ديون أي إنسان يتقدم إليه في هذه الأثناء، وانتشرت الأخبار في المدينة، ولم يصدقها الناس، وقال البعض إنها نكتة لا أكثر ولا أقل، وفي الموعد المحدد لم يأت أحد، سوى رجل جاء في الساعة العاشرة وكان يتمشى أمام المكتب ناظرًا هنا وهناك حتى لا يراه أحد، ولما لم يجد أحدًا دخل، وعرض على صاحب المكتب دينه ومستنداته، ودفع له الرجل كل الدين، وجاء ثان وثالث، والرجل يستبقي الثلاثة، حتى مرت الساعة الثانية عشر، فخرجوا ليجدوا آخرين يسألونهم هل صدق الرجل فيما قال.. وأسرعوا بالدخول عندما تبينوا أن الأمر حقيقي، ولكن الموعد كان قد أنتهى!! لقد طلب المسيح من الرجل شيئًا غريبًا، وفي الوقت نفسه لم يكن عسيرًا، وأطاع وعاد مبصرًا، ولست أعلم بأي صورة كانت عودته، وهو يرى الطبيعة والحياة والناس لأول مرة منذ ولادته، هل تطلع إلى الشمس وغني، هل قبل الأشجار والزهور في الطريق، هل ضحك مع الطفل، وغنى مع الشاب، وانهال على أبيه وأمه تقبيلاً ولثما!! على أن القصة كانت – بلا شك – ستكون مبتورة ناقصة لو انتهت عند هذا الحد، لقد أعاد المسيح إليه البصر، ولكن هناك البصيرة التي هي أهم وأعظم، لقد أرسل الله إليه النور يبزغ في وجدانه، كما يبزغ نور الشمس ويتلألأ، لقد رأى المسيح أولا انسانًا، ثم نبيًا، فالسيد الذي ينبغي الإيمان به والسجود له.. وقد حرم من المجمع من أجل المسيح دون أن يبالي، وخرج طريدًا ويعمى الذين يبصرون» (يو 9 : 39).. والمسيح إلى اليوم مازال يفعل هكذا.. ومازال يفتح عيون الناس بوسائل مختلفة وأساليب مختلفة لكي ترى الحق وتتبعه قبل أن يحتويها الظلام إلى الأبد، إذا أهملته ورفضته كما فعل قدامي اليهود والفريسيين .. هناك رجل كان من أشهر الطيارين الأمريكيين اسمه چون فين وكان يعمل تحت قيادة الچنرال ماك آرثر في الحرب العالمية الأخيرة، وكان هذا الطيار بطبيعته شريرًا مستبيحًا، وحدث أنه كان مريضًا وكان يذهب إلى إحدىالمستشفيات في عام 1946 للعلاج وفي الطريق إلى المستشفى كان يرى على جانبي الطريق كلمات دينية مكتوبة كالقول: «إنه وقت لطلب الرب» .. الأبدية أين تقضيها»!!؟ «بعد ذلك الدينونة»!. وعندما وقفت عيناه على أول عبارة من هذه العبارات استاء وزمجر ضد من كتبوها!! ولما رأى غيرها وغيرها ازداد ضيقًا وغيظًا، لكن هذه الكلمات كانت تطالعه في ذهابه إلى المستشفى وفي عودته منها، وفي مساء أحد أيام السبت أحس الرجل لدهشته أن الكلمات صادقة، وأنه هالك وضائع إذ هو بعيد عن الرب، واستولى عليه رعب مخيف فركع على ركبتيه وصاح قائلاً: ««أيها الرب إلهي إذا غفرت لي ووهبتني السلام، وأعطيتني يقين الخلاص، فأفعل كل ما تطلبه منى» واستجاب الله صلاته البسيطة هذه، وسارع الرجل إلى دعوة أخيه بالتليفون طالبًا منه أن يلتقيا وكانت أمهما تعلمها عن الإيمان بالله والثقة بيسوع المسيح… وفي اليوم التالي كان كلاهماراكعًا أمام الله، يستعيد ذكرى الأيام الحلوة، أيام الطفولة الجميلة البريئة، وتحول الطيار بعد ذلك إلى خادم يشهد للناس كيف أنار المسيح حياته وخلصها!! ليت كل إنسان غارق في الظلام يغني له قائلاً: «اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك» (مز 119: 18).. آمين آمين.