الأَصْحَاحُ العَاشِرُ
مثل الراعى الصالح علاقة الابن بالآب اتهام المسيح بالتجديف.
(1) أنا هو باب الخراف (ع 1 – 10):
1 – “الحق الحق أقول لكم، إن الذى لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يطلع من موضع آخر، فذاك سارق ولص. 2 – وأما الذى يدخل من الباب فهو راعى الخراف. 3 – لهذا، يفتح البواب، والخراف تسمع صوته، فيدعو خرافه الخاصة بأسماء، ويخرجها. 4 – ومتى أخرج خرافه الخاصة، يذهب أمامها، والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته. 5 – وأما الغريب فلا تتبعه، بل تهرب منه، لأنها لا تعرف صوت الغرباء.” 6 – هذا المثل قاله لهم يسوع. وأما هم، فلم يفهموا ما هو الذى كان يكلمهم به. 7 – فقال لهم يسوع أيضا: “الحق الحق أقول لكم، إنى أنا باب الخراف. 8 – جميع الذين أتوْا قبلى هم سراق ولصوص، ولكن الخراف لم تسمع لهم. 9 – أنا هو الباب، إن دخل بى أحد فيخلص، ويدخل ويخرج ويجد مرعًى. 10 – السارق لا يأتى إلا ليسرق ويذبح ويهلك، وأما أنا، فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل.”.
مقدمة:
فى هذا الأصحاح، يقدم المسيح نفسه لليهود والبشرية، بإحدى الصفات التى تعبر عن مهمته الخلاصية فى حياة أبنائه. وقد استخدم السيد المسيح صفة الراعى، وهى المهنة الأولى للمجتمع اليهودى، وتأتى قبل الزراعة والصيد والنجارة، ولقربها من قلوبهم، إذ كان كل آبائهم الكبار رعاة مثل: إبراهيم وإسحق وداود وموسى النبى… وكذلك تكلم الله عن نفسه كراع أمين لأولاده فى (مز 23) و (إش 40: 11).
الأعداد 1-2
ع1 – 2:
يؤكد السيد المسيح هنا على أنه المالك الشرعى، والراعى الوحيد لشعبه. فالحظيرة هنا هى الكنيسة، والخراف هم شعبه، والباب هو المسيح المهتم بتوبة وخلاص نفوس شعبه؛ فى مقارنة بينه وبين كهنة اليهود والفريسين، الذين اعتبرهم المسيح لصوصا لم يشفقوا على الشعب، بل أضروه بالأكثر، ملتفتين إلى مصالحهم (راجع حز34).
وكذلك ينطبق القول على كل خادم غير أمين فى كنيسة الله، يسرق من شعب المسيح لحساب ذاته، أو يسرق بتعليم غريب، سالبا المسيح قطيعه.
العدد 3
ع3:
“البواب”: إشارة إلى الروح القدس، الذى يفتح القلوب أمام كلمة وصوت الراعى؛ وهو عمل مستمر للروح القدس. وكذلك يمكن القول بأن البواب هو الخادم الأمين، الذى لا يدّعى نفسه راعيا، بل بوابا، كل عمله إنه يفتح الباب للراعى، بمعنى أنه يسعى جاهدا لتوصيل المسيح للناس، دون أن يدّعى لنفسه دورا أكبر من هذا. أما الخراف، فإذ تسمع صوت راعيها الأمين، والذى تميزه جيدا من خلال العشرة والصداقة اليومية، وتثق فى قيادته لحياتها، إذ ينادى كل منها باسمه الخاص، كدليل على الحب والاهتمام والرعاية الخاصة… تخرج فى إثره لتتمتع بشمس المعرفة الروحية، وهواء حرية مجد أبناء الله.
فهل لك أيها الحبيب هذا التمييز لصوت المسيح فى حياتك؟ فهو دائم المناداة لك، والحديث معك، مشتاقا أن تنطلق معه فى مراعيه الروحية، ليكون لك الشبع والتمتع. فلا تدع شيئا يشغل أذناك من أصوات هذا العالم ومشاغله، عن الاستماع لصوت راعيك الصالح.
الأعداد 4-5
ع4 – 5:
إذ اطمأنت الخراف إلى صوت راعيها الذى تميزه جيدا، فإنها تسير وراءه فى تسليم كامل وثقة مطلقة، فهو الوحيد الذى يعلم أين هى المراعى الجيدة لرعيته، ورعيته تنظر لقدميه، وتتبع خطواته التى تقودها إلى مياه الراحة الأبدية، متمثلة بقائدها فى اتضاعه ووداعته وجهاده وآلامه، مأسورة بحب رعايته لها. أما الغريب فهو المعلم الخادع، مثله مثل السارق واللص، فإن الرعية الواعية والمتعلمة داخل الكنيسة، تميز التعليم الغريب عن روح كنيستها ومسيحها، فتنفر من هذا التعليم المضل.
ولهذا أيها الحبيب، فإن التواجد داخل المناخ الكنسى، يوفر لنا جميعا الغذاء الروحى العديم الغش، ويحمينا من المعلمين الغرباء الذين يدخلون البيوت باسم المسيح، وهم سراق ولصوص لا يبغون سوى تمزيق جسده، أى كنيسته، فلا تسمع لهم… بل اهرب منهم.
العدد 6
ع6:
لم يفهم اليهود قصد المسيح، وخاصة المقارنة الأخيرة بين الراعى الحقيقى وبين الغريب. ولهذا، يبدأ السيد المسيح فى الأعداد القادمة فى إعادة التوضيح والشرح، مطيلا أناته عليهم.
الأعداد 7-8
ع7 – 8:
“باب الخراف”: أى أنا المدخل الوحيد لطريق الخلاص، ولا يوجد خلاص خارج جسدى ودمى. وكذلك أنا المخرج الوحيد، من الضيقة والألم، إلى التمتع بحرية العشرة الفسيحة مع الله.
“جميع الذين أتوْا”: بالطبع لم يقصد الأنبياء أو الآباء، وهم المرسلين بحسب اختياره ودعوته، بل يقصد كل من أتى قبله وادعى إنه هو الراعى والمعلم. وكذلك يمكن تطبيق القول على الكتبة والفريسيين، ولكن رعية الله لم تستجب لضلالهم. ويوضح القديس مرقس الفرق بين صوت الراعى الحقيقى واللصوص، فإنه: “كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة” (مر1: 22). والمسيح نفسه وصف الكتبة والفريسيين باللصوص، عندما قال عنهم: “تأكلون بيوت الأرامل” (مت 23: 14)، أى أخذوا شكل الرعاة، ولكنهم كانوا لصوصا. ولهذا، فإن شعب الله الحقيقى لم يستجب لزيفهم. فكما أن الطفل يستطيع تمييز صوت أبيه، كذلك شعب المسيح مع راعيه الأعظم.
الأعداد 9-10
ع9 – 10:
“إن دخل بى أحد”: فالدعوة قائمة، ولكن الله يحترم حرية الإنسان. فالخلاص مقدم لكل الناس، ولكن للإنسان أن يقبل عطية المسيح، أو يرفضها بعناده وكبريائه. فالخلاص المجانى مشروط بالإيمان بالراعى، واتباعه، والجهاد معه.
“يدخل ويخرج ويجد مرعى”: الحديث عن الحظيرة، وهى الكنيسة، التى توفر لأولادها:
أولا: الاتحاد بالمسيح من خلال التناول المقدس.
ثانيا: الشبع الروحى من خلال التعليم السليم.
ثالثا: الطمأنينة من خلال إرشاد الآباء.
رابعا: حرية الانطلاق فى النمو ومعرفة الله الحقيقية.
ومعنى هذا أن الحياة خارج المسيح وكنيسته هى موت.
صديقى العزيز، إن المسيح وهب لنا الحياة واشتراها لنا بموته عنا جميعا على الصليب، وقدمها لنا ودعانا إليها مجانا، وهو لا يبغى سوى أن نتمتع نحن بهذا كله، ويكون لنا الأفضل “لأن الناموس بموسى أعطى، أما النعمة والحق، فبيسوع المسيح صارا” (ص 1: 17). فكل إعلانات وأنبياء وظهورات العهد القديم، لا تغدو شيئا مقارنة بما أُعلِن لنا فى شخص المسيح بتجسده وتقديم الخلاص لنا. بل الأعظم والأفضل يا صديقى، هو سكنى روح الله القدوس الحقيقى بداخلنا. فيوم مسحك بالميرون المقدس، سكن الله بداخلك وصرت له هيكلا… فهل أنت تُقدّر هذه الحياة وهذا الوضع الأفضل، أم أن الحياة الزائلة والمزيفة هى التى لا زالت تستهويك وتشغلك عن مسيحك؟
(2) أنا هو الراعى الصالح (ع 11 – 16):
11 – “أنا هو الراعى الصالح، والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف. 12 – أما الذى هو أجير وليس راعيا، الذى ليست الخراف له، فيرى الذئب مقبلا ويترك الخراف ويهرب، فيخطف الذئب الخراف ويبددها. 13 – والأجير يهرب، لأنه أجير ولا يبالى بالخراف. 14 – أما أنا، فإنى الراعى الصالح، وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى. 15 – كما أن الآب يعرفنى وأنا أعرف الآب، وأنا أضع نفسى عن الخراف. 16 – ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغى أن آتى بتلك أيضا فتسمع صوتى، وتكون رعية واحدة وراع واحد.
العدد 11
ع11:
“الراعى الصالح”: فى (ع1)، وضحنا أهمية صفة الراعى. أما هنا، فما هو صلاح المسيح مقارنة بالرعاة مثل موسى وداود وغيرهم؟ كان هؤلاء الرعاة بدورهم أيضا خرافا لله يرعاهم؛ أما صلاح المسيح:
أولا: أنه راعى الرعاة الأوحد، ضابط الكل، ولا ترتقى رعاية أى إنسان محدود إلى رعاية المسيح لخليقته.
ثانيا: إن الراعى الأمين قد يدافع عن رعيته ويقاتل عنها، ولكنه لا يجازف بحياته الأغلى من قطيعه… أما المسيح، فقد بذل ذاته من أجل خلاص كل قطيعه، وهو عمل الفداء الكفارى الذى لا يستطيع أحد القيام به سوى مسيحنا وراعينا الصالح…
ثالثا: بجانب عمل الفداء، فإن تعبير “الراعى الصالح” يحمل معانى روحية عميقة…
إن المسيح هو المعتنى بإعداد كل ما تحتاج إليه، وهو الحنون عليك فى كل ضيقاتك، وهو المدافع عنك ضد الشر والخطر… فإذا كان هذا راعينا، فلماذا نقلق إذن وتربكنا اهتمامتنا اليومية العالمية؟
ثق أيها الحبيب فى راعيك المحب، الباذل نفسه لأجلك.
الأعداد 12-13
ع12 – 13:
مقارنة يقدمها السيد المسيح، الغرض منها إظهار مدى الحب فى رعايته لرعيته، التى يمتلكها ويفديها. فمهما كانت أمانة الأجير، لن ترقى أبدا إلى محبة صاحب القطيع لرعيته. فالأجـير حياته أهم بكثـير من الخـراف، فإنه يهـرب إذا اسـتشعر الخطـر المهدد لحياته. أما صاحب الرعية الحقيقى، فيحمـل صليبه ويصعـد عليه بإرادته وحـده، ليموت هو ويهب الحياة لشعبه.
والكلام هنا، يمكن توجيهه للخدام فى كنيسة المسيح. فالخادم الأجير لا يربطه بمخدوميه سوى الأجرة، أى ما يحصل عليه من مديح أو إشباع للذات. أما الخادم الأمين، فهو من أجل المسيح، وخوفا على رعية المسيح، يبذل كل جهد… حتى حياته كلها رخيصة من أجل رعية السيد التى اؤتمن عليها. والكنيسة ذاخرة بسير هؤلاء الرعاة الأمناء الذين بذلوا أيضا حياتهم من أجل شعبهم، مثال القديس البطريرك بطرس خاتم الشهداء الذى قدم حياته راضيا، طالبا من المسيح أن يكون دمه نهاية لعصر الاستشهاد الذى عانى منه الشعب القبطى على يد الرومان.
العدد 14
ع14:
بعد أن عرض السيد المسيح الفرق بين الأجير وصاحب الرعية، يعود ليؤكد أهمية عمله الرعوى المميز فى أنه الراعى الصالح؛ ويضيف صفة جديدة تشملها هذه الرعاية، وهى معرفته لخاصته. فكما أن الراعى يعرف قطيعه جملة وعددا، فإنه يعرف كل واحد أيضا باسمه (ع3)، وباحتياجاته وضيقاته، بل أيضا يتألم لألمه.
وهذه ميزة يتمتع بها كل أبنائه، بخلاف من يرفضون وجودهم داخل الكنيسة – حظيرته – فيقول لهم الراعى: “لم أعرفكم قط” (مت7: 23).
“وخاصتى تعرفنى”: معرفة الحب والعرفان والشكر من الخراف إلى راعيها الحنّان، ومعرفة الاختبار لذراعه القوية وعمل نعمته فى حياتنا. فالمسيح ليس له نظير أو بديل لكل نفس تمتعت بصداقته ورعايته، فهو الوحيد المشبع، ولهذا تتبعه النفس أينما ذهب، وهو مصدر شبعها وارتوائها.
طوباك أيها القديس بولس، عندما تعلن عن عمق هذه المعرفة، وتقول: “لأننى عالم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتى” (2 تى 1: 12).
العدد 15
ع15:
يقابل المسيح هنا معرفته بخاصته، بالمعرفة الكائنة بينه وبين الآب. فكما أن الآب والابن فى انفتاح واتصال دائم، هكذا لا يفصل المسيح عن رعيته شئ. وبقدر ما تستطيع الرعية أيضا، فهى فى اتصال مع سيدها وراعيها، مصدر كل خيرها… وكلما زاد الإنسان فى حبه للمسيح، زاد اتصاله به، أى زادت معرفته به…
إذن أيها الحبيب، فإن معرفة الله متاحة للجميع، لأن هذه هى شهوة قلبه وإرادته الصالحة. ولكن، هناك دور علينا جميعا لننمو فى معرفة الله المشبعة لكل نفس؛ وهذا الدور هو أن نقدم من وقتنا المزيد لنقضيه مع الله، فمهما كانت المشاغل والالتزامات، فهى ليست أعذارا مقبولة أمام الله. والوقت الذى نقضيه مع الله فى الصلاة والقراءة، هو استثمار لحياتنا وراحتنا وسلامنا الحقيقى.
“اضع ذاتى”: إذ بلغ الحب منتهاه من الراعى نحو رعيته، يأتى البذل والفداء نتيجة طبيعية لهذه الرعاية الأمينة، والإشارة هنا للفداء، وهو الغاية التى تجسد من أجلها المسيح، فليس هناك برهانا أقوى من الموت يقدمه المسيح فى حبه لشعبه (ص 13: 1؛ ص 15: 13).
العدد 16
ع16:
إذ يعلن السيد المسيح سر الفداء للرعية، يوضح هنا أن هذا الفداء ليس عن شعب بنى إسرائيل فقط، فالرعية الحقيقية للمسيح، هى كل من يقبله فى العالم كله؛ فهو ليس محدودا بحظيرة إسرائيل، لأن الفداء والصليب قدم للجميع، وهذا ما تنبأ عنه رئيس الكهنة فى (ص11: 52) بأن المسيح سيموت ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.
“ينبغى أن آتى بتلك أيضا”:
تلقى هذه العبارة علينا جميعا التزاما فى البحث عن كل نفس بعيدة عن المسيح. فالخادم والإنسان المسيحى الحق، لا ترتاح نفسه وهو يعلم أن هناك كثيرين لا زالوا بعيدين عن كنيسة المسيح، فهو يشعر بالمسئولية تجاه هؤلاء، مثال مسيحه تماما، الراعى الأعظم. فإذا تعرفت الخراف الضالة على صوت الراعى الأعظم، صارت هى أيضا من قطيعه، تتبعه أينما ذهب.
(3) سلطان المسيح على حياتنا (ع 17 – 21):
17 – لهذا، يحبنى الآب، لأنى أضع نفسى لآخذها أيضا. 18 – ليس أحد يأخذها منى، بل أضعـها أنا من ذاتى، لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضا؛ هذه الوصية قبلتها من أبى. “19 – فحدث أيضا انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام. 20 – فقال كثيرون منهم:” به شيطان، وهو يهذى، لماذا تستمعون له؟ “21 – آخرون قالوا:” ليس هذا كلام من به شيطان، ألعل شيطانا يقدر أن يفتح أعين العميان؟! “.
الأعداد 17-18
ع17 – 18:
ولئلا يُظَن أن طاعة الابن للآب تنقص من قدره، أو فى مساواته للآب، يستكمل المسيح حديثه موضحا سلطانه وإرادته المطلقة فى عملية الموت والفداء؛ فإرادة الآب والابن واحدة ومتساوية فى فداء الإنسان، فالآب بالتدبير والابن بالتنفيذ. ولهذا، يركز المسيح هنا على سلطانه، أنه هو الذى يضع بإرادته نفسه ليأخذها، أى هو الذاهب إلى الموت ليسحقه، وليس للموت سلطانا عليه. وكلمة “آخذها” معناها القيامة، أى يسترد روحه التى ذاقت الموت بالجسد، وليس للشيطان سلطان فى القبض على روح السيد المسيح الإنسانية والخاضعة لمشيئة الابن وحده.
“هذه الوصية قبلتها من أبى”: الوصية هنا تشير إلى تدبير الآب فى خلاص الإنسان، فالمسيح قبل بإرادته هذا التدبير، وليس قسرا أو إجبارا.
أيها الحبيب… ألا يلفت نظرك اتضاع الابن المساوى للآب فى الجوهر، مخليا ذاته، ومقدما – بكل الحب – نفسه ليشتريك بدمه المقدس الكريم؟ فلماذا إذن لا زالت الذات العالية وكبرياء النفس تطاردنا، وننخدع بمظاهرها الباطلة؟ ألا نتعلم بعد من إلهنا؟!
“لهذا، يحبنى الآب“: الحب بين الآب والابن حب أزلى لا يتوقف على شئ، ولكن المسيح يلفت النظر هنا لبذل ذاته ذبيحة فداء للعالم كله، وهذه الذبيحة يقبلها الآب بسرور وحب.
الأعداد 19-21
ع19 – 21:
كالمعتاد (ص 7: 43، ص 9: 16)، يحدث الانشقاق فى الرأى بين اليهود لسببين:
الأول: عدم فهمهم لما قاله، غير مدركين الأبعاد الروحية لكلامه.
الثانى: عداوتهم للمسيح نتيجة تأثير كلامه فى الآخرين، فكان الأسهل عليهم اتهامه بالتجديف وتبعيته للشيطان.
ولكن، بقى قوم لم يوافقوا الأولين على رأيهم… فهم لم ينسوا بعد معجزة المولود أعمى، وساقوها هنا كدليل ينفى عن المسيح أية علاقة بمملكة الظلمة.
(4) العلاقة مع الآب (ع 22 – 30):
22 – وكان عيد التجديد فى أورشليم، وكان شتاء. 23 – وكان يسوع يتمشى فى الهيكل فى رواق سليمان. 24 – فاحتاط به اليهود، وقالوا له: “إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح، فقل لنا جهرا.” 25 – أجابهم يسوع: “إنى قلت لكم ولستم تؤمنون، الأعمال التى أنا أعملها باسم أبى هى تشهد لى. 26 – ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافى كما قلت لكم. 27 – خرافى تسمع صوتى، وأنا أعرفها فتتبعنى. 28 – وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدى. 29 – أبى الذى أعطانى إياها، هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبى. 30 – أنا والآب واحد.”.
الأعداد 22-23
ع22 – 23:
يقطع القديس يوحنا هنا حديث السيد المسيح عن الرعية والراعى الصالح، ليضيف لنا البعد الزمنى والمكانى لهذا الحديث، فعيد التجديد هذا هو عيد قومى روحى، أضافه يهوذا المكابى تذكارا لتطهير الهيكل من الاحتلال اليونانى، الذى نجس الهيكل، وقتل أكثر من أربعين ألف من اليهود. والزمن كان شتاءً، حوالى منتصف ديسمبر. ولما كان رواق سليمان هو الرواق الوحيد المسقف، احتمى فيه السيد المسيح من البرد والمطر.
الأعداد 24-25
ع24 – 25:
أجمع كل الآباء والمفسرون أن الغرض من السؤال، ليس الإيمان بالمسيح وتبعيته، بل محاولة جديدة لاصطياده بكلمة، فيتهموه بالتجديف، وخاصة ما طلبوه منه أن يعلن هذا جهرا، أى أمام كل الجموع، فتكون لهم شكاية عليه أمام مجمع رؤساء اليهود من جهة، وأمام الدولة الرومانية من جهة أخرى، لأن إعلان إنه المسيح، يشتمل ضمنا على أنه ملك اليهود، محررهم من الرومان. ولهذا، جاءت إجابة المسيح غير مباشرة، ولكنه لم ينكر حقيقة نفسه، بل أشار إلى الأعمال الإعجازية التى قام بها، ولا يستطيع أحد سواه أن يقوم بها.
وقد اسـتخدم السيد نفس الرد فى أن أعماله تشهد له (ص 5: 36؛ ص 9: 4؛ ص 10: 37، 38؛ ص 14: 10).
العدد 26
ع26:
يقدم المسيح هنا سبب عدم إيمان اليهود به، سواء لكلامه أو أعماله. وهذا السبب هو أنهم ليسوا من خرافه، أو من الله؛ فكبرياء الإنسان يمنعه من الاستماع لصوت الله، وهذا ما كان يعانيه الكتبة والفريسيين. أما الشعب البسيط والمتضع، فكان يقبل كلام المسيح ويسر به. وعبارة: “كما قلت لكم”، هى تذكير من المسيح لما قاله فى (ع4، 14) وكذلك (ص 8: 47).
العدد 27
ع27:
تكرار لما جاء بالأعداد (4، 14)، والغرض هو تأكيد لنفس المعانى الروحية فى معرفة الله لخاصته، وتميبزها لصوته.
العدد 28
ع28:
“وأنا أعطيها حياة أبدية”: عطية خاصة جدا تتمتع بها رعية المسيح وحدها، وهى عطية ميراث الحياة الأبدية. ولكن، كيف يعطيها هذه الحياة الأبدية؟ والإجابة من خلال ما سبق وتكلم عنه أيضا:
(1) الميلاد من المعمودية والروح القدس، فى حديثه مع نيقوديموس (ص3: 5).
(2) الإيمان بالابن الوحيد (ص 3: 16، 36؛ ص 6: 47).
(3) التناول من جسده الاقدس ودمه الكريم (ص 6: 54).
(4) تبعية المسيح المستمرة والجهاد وقبول الضيقات (ص 12: 25).
“لن تهلك… لا يخطفها أحد”:
ما أحلى هذه الكلمات التى تشيع فى النفس اطمئنانا، وتبعد شكوكنا فى خلاص نفوسنا… نعم أيها الإله الحبيب، نحن نؤمن أن لنا حياة أبدية فيك وحدك، وأنت حافظنا وحامينا. وكيف لا نخلص، وقد وهبتنا الخلاص المجانى فى المعمودية، وغفران الخطايا فى سر التناول الاقدس، وسر التوبة والاعتراف؟ نحن مطمئنين يا سيدى. ولكن، هب لنا روح الجهاد ضد الخطايا حتى نكمل خلاص نفوسنا…
الأعداد 29-30
ع29 – 30:
فى (ع28)، يقول السيد: “لا يخطفها أحد من يدى”، وهنا يقول: “لا يقدر أحد أن يخطف من يد أبى”، وهذا إثبات ودليل على أن يد الآب والابن هما واحد فى المقدرة، والقوة، والإرادة أيضا. ولهذا، جاء الإعلان الهام فى (ع30) “أنا والآب واحد”، وهى من أقوى الآيات التى تثبت لاهوت المسيح ومساواة الابن للآب. أما تعبير “أبى الذى أعطانى إياها”، فمعناه إنه منذ الأزل، وقبل تأسيس العالم، مُنحت الخليقة كلها للابن، فهو خالقها (ص 1: 3)، وهو فاديهـا (ص 10: 15)، وهو حاميها ومدبرها (ص 10: 28).
“هو أعظم من الكل”: مهما كانت محاولات الشيطان لخطف وتبديد رعية الله، فإن الله أقوى، وحمايته غير محدودة.
فهل نثق يا أحبائى فى يد الله القوية، وحمايته لكنيسته، أم لا زلنا نقلق من هذا وذاك؟
أيها الحبيب… أنت بين يدى أببك السمائى، تتمتع بحماية فائقة، تستطيع من خلالها الانتصار على قوة المعاند الشرير. فلا تستهن بيد الله القوية التى تسحق كل الشرور، بل تعالى نرنّم مع سليمان الحكيم قائلين: “اسم الرب برج حصين يركض إليه الصّدّيق ويتمنّع” (أم 18: 10).
(5) اتهام المسيح بالتجديف (ع 31 – 42):
31 – فتناول اليهود أيضا حجارة ليرجموه. 32 – أجابهم يسوع: “أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبى، بسبب أى عمل ترجموننى؟” 33 – أجابه اليهود قائلين: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف. فإنك – وأنت إنسان – تجعل نفسك إلها.” 34 – أجابهم يسوع: “أليس مكتوبا فى ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة. 35 – إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن يُنقض المكتوب. 36 – فالذى قدّسـه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف، لأنى قلت إنى ابن الله؟ 37 – إن كنت لست أعمل أعمال أبى، فلا تؤمنون بى. 38 – ولكن، إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بى، فآمنوا بالأعمال، لكى تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فىّ وأنا فيه.” 39 – فطلبوا أيضا أن يمسكوه، فخرج من أيديهم. 40 – ومضى أيضا إلى عبر الأردن، إلى المكان الذى كان يوحنا يعمد فيه أولا، ومكث هناك. 41 – فأتى إليه كثيرون، وقالوا: “إن يوحنا لم يفعل آية واحدة. ولكن، كل ما قاله يوحنا عن هذا، كان حقا.” 42 – فآمن كثيرون به هناك.
الأعداد 31-33
ع31 – 33:
الإعلان القوى، الذى قاله السيد المسيح عن وحدانيته مع الآب، أغاظ اليهود، بسبب عدم إدراكهم لكل الأقوال والعجائب السابقة، والتى لا يأتى بها بشر. فحاولوا رجمه بالحجارة، معتبرين كل ما قاله فى علاقته بالآب تجديفا. وبدلا من أن يستمعوا ويفهموا ويستوعبوا الأعمال الحسنة التى عملها المسيح، انغلقت عيونهم وقلوبهم عنها، ولم يتبق سوى الرغبة فى قتله.
أيها الحبيب، ألا ننسى نحن أيضا فى كثير من الأحيان، وخاصة فى وقت الضيق والتجربة، كل ما فعله الله معنا من خير ومعجزات خلال سنوات عمرنا، ولا نستمع إلا لصوت عدو الخير، المشكك فى رعاية الله لأولاده؟!
ألا نظلم الله معنا حينئذ؟
يا إلهى الحبيب… سامحنا على تجاسرنا وظلمنا لك، ولا تجعلنا نشبه من أُعمِيَت عيونهم عنك وعن خيراتك.
الأعداد 34-36
ع34 – 36:
قد يحتمل الإنسان ظلما من أجل الله، ولا يدافع عن نفسه. أما تهمة التجديف، فهى الوحيدة التى لا يقبلها المسيحى عن نفسه، لأن قبولها معناه إنكار الله. وهنا، يدافع المسيح عن نفسه ضد هذه التهمة الباطلة، مستخدما الناموس نفسه. فالناموس لقّب موسى إلها لأخيه هارون (خر 4: 16)، وفى (مز 82: 6) يقول: “أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم”، والناموس صادق ولا يمكن نقضه. فإذا كان الناموس قد أطلق على أناس إنهم آلهة، ولم يعتبر هذا تجديفا. فحتى وإن كنت فقط إنسانا… فأنا لم أجدف عندما استخدمت نفس الصفة لنفسى، أى إنها صفة لها مرجع لديكم… والاحتجاج الثانى الذى قدمه السيد هو أقوى، لأنه يعلن عن نفسه إنه ليس إنسانا عاديا (ع36)، فهو قدوس الله، أى المعيّن منذ الأزل مسيحا لخلاص البشر، والمرسل بتجسده إلى العالم. فكل من سبقوه أُطلق عليهم آلهة، لأن كلمة الله صارت إليهم (ع35). أما هو، فهو كلمة الله ذاته (ص 1: 1)، فكيف لا يكون إلها بالطبيعة؟ ولهذا، فهو ابن الله، وهو أيضا الله، وهو والآب واحد.
الأعداد 37-38
ع37 – 38:
أما الإثبات الثالث الذى يقدمه المسيح ضد اتهام التجديف، فهو الأعمال نفسها، والتى سـبق الإشارة إليها فى (ص 5: 36؛ ص 9: 3 – 5؛ ص 10: 35، 38؛ ص 14: 10 – 12). وهى أن الأعمال التى يعملها كلها أعمال إلهية، لم يسبق لإنسان عملها؛ من إشباع الجموع، وإقامة مريض بيت حسدا، إلى شفاء المولود أعمى. وهذه الأعمال وحدها، حتى دون أن تسمعوا لكلامى، كافية لأن تؤمنوا عندما قلت لكم: “أنا والآب واحد”، لأنى أنا فى الآب والآب فىّ.
العدد 39
ع39:
تنتهى الأحداث بأن كل ما قاله السيد لم يقنع اليهود، بل طلبوا أن يمسكوه غيظا، إما بغرض رجمه خارجا، أو تقديمه إلى الرؤساء للمحاكمة. ولكن المسيح، إذ لم تأت ساعته بعد، “لم يلق أحد عليه الأيادى” (ص 7: 44)، ومضى فى وسطهم دون أن يمسكوه (ص 8: 59).
الأعداد 40-42
ع40 – 42:
أى إلى شرق الأردن، حيث تعمد الرب يسوع من المعمدان، وهذا الجزء معروف ببلاد بِيرٍيّة (مت 19: 1)، قضى فيه السيد المسيح آخر 4 أشهر من تجسده، أى من ديسمبر حتى عيد الفصح الذى قبل صلبه. ووجود المسيح فى ذلك المكان، جذب إليه الكثير من الجموع الذين قبلوا الإيمان ببساطتهم؛ والمقارنة التى عقدها هؤلاء البسطاء بين الرب ويوحنا المعمدان، الذى لم يفعل معجزة واحدة، نستدل منها أن المسيح صنع آيات ومعجزات خلال فترة إقامته هناك. وهذه المعجزات، بالإضافة إلى شهادة يوحنا له، كانت سببا فى إيمان كثيرين.