الصلاة في البستان

آ36. حينئذٍ جاء يسوعُ معهم إلى مُوضِعٍ يُسمّى الجسمانيَّة. قال مار إيرونيموس* في الأماكن العبرانيَّة: الجسمانيَّة عند سفح جبل الزيتون. وتأويل هذا الاسم وادي الزيت أو معصرته. وقال لتلاميذِه: اجلِسوا هنا ريثما أمضي فأُصلّي. “ريثما” بمعنى مقدار ما. وقرأت اللاتينيَّة: أمضي إلى هناك فأصلّي، أي إلى البستان كما روى يو 18: 1. وهذا البستان كان بعيدًا عن الجسمانيَّة مرمى حجر، كما يظهر من لو 21: 41. وصلّى المسيح وعرق دمًا في البستان ليمحو خطيئة آدم التي حدثت في بستان الفردوس، ومضى يصلّي منفردًا ليعلِّمنا أن نصلّي لله سرًّا.

آ37. وأخذَ بطرسَ وابنَي زبدى، يعقوب ويوحنّا، ولم يأخذ الثمانية الباقين (يهوذا كان تركهم) لأنَّهم أكثر ضعفًا من الثلاثة، فلم يشأ أن يشاهدوا حزنه وضعفه الطبيعيّ، بل اختار هؤلاء الثلاثة وحدهم لأنَّهم كانوا أوفر ثباتًا ولأنَّهم رأوا تجلّيَه، فلزم أن ينظروا حزنه وأن يعلموا أنَّ طريق المجد هو الحزن والآلام. وبدأ يَحزنُ ويَكتئِبُ. وهذا الحزن كان اختياريًّا ومطلقًا لا جبريًّا واضطراريًّا، وإن كان حزنًا حقيقيًّا كما سيجيء.

آ38. وقال لهم: إنَّ نفسي حزينةٌ حتّى الموت. يعني أنَّها تتألَّم وتتوجَّع كأنَّها ناهزت الانفصال من الجسد. وهذا الحزن لم يكن في القوَّة الحسّاسة فقط، بل في النطقيَّة أيضًا أي في الإرادة النطقيَّة، على الأقلّ في الجزء الأدني***، الذي يحبّ طبعًا خير الطبيعة كالحياة والصحَّة وينفر من الآلام والموت. وهذا يظهر من قوله النابع*** “ولكن لا كإرادتي بل حسب إرادتك”. غير أنَّ هذا الحزن كان دائمًا خاضعًا للعقل ومطلقًا وتحمَّله المخلِّص بإرادته، كما يتلخَّص من قوله “بدأ يحزن”، أي حينما وبمقدار ما أراد، لأنَّ الانفعالات بالمسيح لم تكن حقيقيَّة، بل يسمِّيها اللاهوتيّون عوض الانفعالات، فلم تكن تثب في المسيح جبرًا عليه أو تسبق العقل أو تشوِّشه، أي تحمل الإرادة على شيء غير جائز كما تفعل فينا، بل كانت توثِّر في المخلِّص بحسب اختياره. وقد سمح وقتئذٍ أن يستحوذ عليه الحزن ليُوضِح أنَّه إنسان حقيقيّ قابل الآلام. فلا شيء طبيعيّ للإنسان أكثر من ارتعاده من العقاب والموت، ثمَّ ليفي عنّا بكلِّ مكنته. ولمّا كانت الخطيئة صدرت عن لذَّة النفس المحرَّمة، فأراد أن تكون بدايةُ آلامه بالحزن. وأسباب هذا الحزن معرفته السابقة بجميع آلامه وكلٍّ منها وموته، وخطايا البشر وكفران أكثرهم بالجميل، وحزن والدته وعذابات الشهداء وآلامهم. تسأل كيف يمكن نفس المسيح أن تحزن وهي متنعِّمة دائمًا بفرح سامٍ لمشاهدتها الله؟ فالجواب: إنَّ للعلماء في ذلك قولين: الأوَّل أنَّ الله بقوَّته الفائقة الطبيعة مدَّ أهليَّة نفس المسيح بمساعدة خاصَّة، حتّى كانت حاصلة على الفرح السامي لمشاهدتها الله والتنعُّم به، وعلى الحزن الشديد لمفاجأة الآلام والموت. وكان موضوع الفرح وسببه مخالفًا لموضوع الحزن وسببه، فلا تناقض. والثاني أنَّ الله وقف**** نوع غير معتاد فاعليَّة الفرح الطوباويّ لكي لا تنفي الحزن عن المسيح، ولولا هذا التوقيف لكانت هذه الفاعليَّة تنفي عنه كلَّ حزن ضرورة. وطبعًا فكما أنَّه أمسك فاعليَّة هذه الحال الطوباويَّة ليمكنه أن يتألَّم، وإلاّ لما أمكنه أن يتألَّم، هكذا أمسكها ليستحوذ عليه الحزن الذي هو نوع من الآلام. اثبُتوا هنا واسْهروا معي، أي امكثوا هنا منتظرين ومتبصِّرين بي، لتشهدوا لحزني وتتعلَّموا منّي الالتجاء إلى الصلاة في كلِّ ضيق.

هل تبحث عن  الأم تُنقَذْ من الموت بمعونة والدة الإله بعد ولادة مضطربة

آ39. ثمَّ ابتعد قليلاً. أي مقدار رمية حجر كما روى لو 22، وانفصل عن التلاميذ الثلاثة بنوع أن يمكنهم*** أن يرَوه. وخرَّ أوَّلاً على ركبتيه كما روى لوقا، ثم على وجهه لاصقًا بالأرض، وذلك لضيقة نفسه واحترامًا للعزَّة الإلهيَّة التي كان يتوسَّل إليها بما أنَّه إنسان، وليشير إلى حَمْلِه ثِقَل خطايانا. يصلّي. فتعلَّمْ أنت أن تلتجئ إلى الله بالصلاة في كلِّ حزن يُحيق بك قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنّي هذه الكأس. فعبور هذه الكأس بالإطلاق كان ممكنًا، إلاَّ أنَّه مع رسم الله بفداء الناس بموت المسيح، كان ذلك غير ممكن، والمسيح كان يعلم هذا، ولذا لم يُرِدْ هنا إرادة مطلقة ولم يصلِّ خلافًا لإرادة أبيه وإرادته الإلهيَّة، إذ لم يكن مرتابًا بإرادة الآب ولا بحدوث الآلام، بل أوضح رغبته الطبيعيَّة فقط وإرادته الغير الفعّالة والشرطيَّة، التي كانت مرتعدة طبعًا من الموت وراغبة في النجاة منه، لكنَّها كانت مُخضِعة ذاتها بمقتضى النطق للآب المريد موت ابنه. ولكن لا كإرادتي بل حسبَ إرادتِك. يتَّضح من هنا ضدَّ المونوتيليّين* أنَّ في المسيح مشيئتين إحداهما بشريَّة والأخرى إلهيَّة، لأنَّه أخضع هنا إرادته البشريَّة للإلهيَّة. فإذًا لم تكن في المسيح الإرادة الإلهيَّة وحدها، ونابَتْ عن البشريَّة كما زعم الأراطقة المذكورون، فإنَّ له إرادة إلهيَّة بما أنَّه إله، وإرادة بشريَّة بما أنَّه إنسان كامل. بل إنَّ إرادة المسيح البشريَّة وإن كانت بنفسها واحدة، فهي بالقوَّة وبالفعل مضاعفة، أي الإرادة الطبيعيَّة التي بها كان ينفر من الموت، والإرادة المنطقيَّة والسامية التي بها كان يرغب في الموت ليفتدي الناس.

آ40. وأتى إلى تلاميذِه فوجدَهم نيامًا، من الكآبة والحزن كما روى لوقا، وخاصَّة لأنَّ الوقت كان ليلاً. فقال للصفا: هكذا ما استطعتُم أن تَسهروا معي ساعة واحدة. خصَّ بطرس بالمقال لأنَّه رأس الباقين ولأنَّه وعد بالأمانة له حتّى الموت. وتفطّنَ هنا بهذا التوبيخ المملوء لطفًا ووداعة، فلم يقل: إنَّكم كسالى أو متوانون بل قال: أهكذا ما استطعتم إلخ؟

هل تبحث عن  الأواشي الخمسة الصغار

آ41. تيقَّظوا وصلُّوا لئلاّ تَدخُلوا التجارب، أي لئلاّ تقعوا في التجربة المفاجئة لإنكاري عند رؤيتكم آلامي. فكأنَّه يقول: إذا لم يحرِّكْكم مصابي فليحرِّكْكم الخطر المفاجئ لكم المستلزم اليقظة والصلاة. ولم يقل “لئلاّ تتجرَّبوا”، لأنَّ التجارب تثب علينا دون إرادتنا، بل “لئلاّ تدخلوا التجارب”، أي لئلاّ تتوغَّلوا في التجربة وتستحوذ عليكم. الروحُ مستعدَّةٌ وأمّا الجسدُ فضعيف. إنَّ كلام المسيح هنا ليس في روحه وجسده كما زعم بعضهم، بل في روح الرسل وجسدهم كما فسَّر القدِّيس إيلاريوس*. فكأنَّه يقول: وإن كانت روحكم أيُّها الرسل مستعدَّة للتمسُّك بي، ولو مهما حلَّ بكم من جور اليهود، إلاَّ أنَّ جسدكم أي رغبتكم الحسّاسة ضعيفة. فإذًا لا يكفي استعداد الروح بل يلزم تأييدها بالصلاة واستمداد العون الإلهيّ، لتستحوذ على الجسد لئلاّ يفشل.

آ42. ثمَّ مضى مرَّةً ثانية يُصلّي قائلاً: يا أبتاهُ، إن كانَ لا يُمكنُ أن تَفوتَني هذه الكأسُ ولا بدَّ لي أنْ أشربَها فلتكُنْ مشيئتُك. إنَّ المخلِّص صلّى في هذه الدفعة كما صلّى في الدفعة السابقة، كما يظهر من بشارة مرقس. إلاّ أنَّ متّى أهمل قوله: “ولكن ليس كما أشاء أنا”، وذكر ما يدلُّ على إرادة المسيح الفعّالة بقوله: “لتكن مشيئتك”.

آ43. وجاء أيضًا فوجدَهم نائمين وقد ثقُلَتْ عيونُهم من جرّاء الحزن والسهر.

آ44. فتركَهم ومضى أيضًا يُصلّي وقال كلامَه الأوَّل، مقدِّمًا نفسه لتكميل أمر الآب. وصلّى ثالثًا ليبيِّن شدَّة حزنه، حتّى عرق دمًا، كما روى لوقا، وليعلِّمنا المثابرة على الصلاة إذا لم نُغَث حالاً. وكان مفعول صلاته إزالة الغمّ وتقوية نفسه وإرسال الملائكة لتعزيته في الدفعة الثالثة.

آ45. حينئذٍ جاء إلى تلاميذِه وقال لهم: نامُوا الآن واستَريحوا. ذهب فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس* أنَّ هذا تهكُّم من المسيح، كأنَّه يقول: إذا كان العدوُّ على الأبواب، هل يكون وقت النوم؟ وذهب مار أغوسطينوس* وبيدا* أنَّ هذا القول جدِّيّ. فكأنَّ المسيح أشفق على الرسل فيقول لهم: ناموا قليلاً إلى أن يصل المسلِّم. ولذا قرأت النسخة اليونانيَّة: ناموا في ما بقي، فقد حضرتِ الساعة، أي الساعة المحتوم بها منذ الأزل لموتي، الساعة التي أنذرت بها. وابنُ الإنسان يُسلَّم بأيدي الخطأة، أي بيد يهوذا واليهود المتعطِّشين إلى قتلي.

هل تبحث عن  _ الدينونة فى الأبدية لا تكون على الذين حاولوا و فشلوا

آ46. قوموا نَنطلقْ فقد وصلَ الذي يُسلِّمني. كأنَّه يقول: قوموا ننطلق لملاقاة الخائن وأتباعه الجنود وخدّام رؤساء اليهود، ونعلن بملاقاتنا الطوعيَّة أنَّنا لا نجهل مجيئهم، بل إنَّنا ساهرون ومستعدُّون وإنّي أسلِّم نفسي بمعرفتي وحرِّيَّتي المطلقة.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي