آ16. متّى صمتم فلا تكونوا معبِّسين كالمرائين الذين يُفسدون وجوههم ليُظهروا للناس صيامَهم. الحقَّ أقول لكم إنَّهم قبلوا أجرهم. علَّم المخلِّص آنفًا كيفيَّة الصلاة، وهنا يعلِّم كيفيَّة الصوم، لأنَّ الصلاة دون الصوم ضعيفة كما قال فم الذهب*. ويؤنِّب المرائين من الكتبة والفرّيسيّين على أنَّهم يغيِّرون عند صومهم لون وجوههم، إمّا بإبدائهم الحزن والعبوسة، وإمّا باستعمالهم ضماخًا ما تَظهر به وجوههم معبِّسة مقبضة ليعلم الناس أنَّهم صيام، ويقول إنَّ هذا كلُّ أجرهم لإفسادهم استحقاق الصوم بالرغبة في المجد العالميّ.
آ17. أمّا أنت فإذا صمتَ فاغسِلْ وجهَكَ وادهَنْ رأسَك لئلاّ يظهرَ للناس صيامُك،
آ18. ولكن لأبيك سرًّا، وأبوك الذي يرى السرَّ يجازيك. قد كانت عادة عند سكّان فلسطين وحميع الشرقيّين أن يغسلوا وجوههم ويدهنوا رؤوسهم بدهن طيِّب خاصَّة في الأعياد وأيّام الأفراح، وذلك حبًّا بالنظافة والصحَّة والانشراح واللذة،ورغبة في إزالة آثار العرق والرائحة الكريهة. وأمّا الفرّيسيّون فرغبة في إظهار صومهم، كانوا يهملون الأمرين أيّام الصوم ويقطِّبون وجوههم ويُبدون العبوسة والحزن. فلهذا أمر المسيح هنا من يصومون بالغسل والدهن لا المادِّيَّين* بل الاستعاريّين*، أي بإظهار الفرح وطلاقة الوجه ليُخفى صومُهم على الناس ويَظهر لله الذي يجازيهم عليهم، لاسيَّما لعدم طلبهم به المجد الباطل. كذا فسَّر إيرونيموس* وفم الذهب* وملدوناتوس* وغيرهم. وقد تكلَّم المسيح حتّى الآن ضدَّ المجد الباطل ويليه كلامه ضدَّ البخل.
الكنز في السماء
آ19. لا تكنزوا لكم في الأرض كنوزًا حيث الآكلةُ والسوسُ تُفسِدُ وحيثُ السارقون ينقبون فيسرقون. إنَّ المسيح يحذِّر هنا من البخل والطمع بالأموال الأرضيَّة، لأنَّ الكتبة والفرّيسيّين كانوا مصابين بهذا الداء، ولأنَّ أكثر الناس يُلهيهم حبُّ المال عن خدمة الله. فيبيِّن أنَّ خير الأرض عابر وسريع الزوال وكثير الخطر، وخير السماء دائم وثابت ولا خطر في أن يُفقَد. وقد استخدم لمقصده ثلاثة برهانات: الأوَّل هنا، بأنَّ أموال الأرض زائلة وقابلة الفساد. والثاني في آ22 بأنَّها تغشى العقل وتعميه. والثالث في آ24 بأنَّها تخطف القلب عن محبَّة الله فلا يمكنه أن يعبد ربَّين.
آ20. لكن اكنزوا لكم كنزًا في السماء، موجِّهين أموالكم وأتعابكم بسخاء إلى مجد الله واحتياجات القريب، فذلك يكون كنزًا حقيقيًّا لكم، لا للأولاد أو الورثة الناكري الإحسان، بل لأنفسكم. وهذا الكنز يبقى لكم منزَّهًا عن كلِّ خطر في السماء.، حيث لا سوس ولا آكلة تُفسِد ولا السارقون ينقبون فيسرقون.
آ21. فحيثما يكُنْ كنزُكم.، أي ما ترغبون فيه وتهتمُّون به أكثر من كلِّ شيء، يكُنْ هناك قلبُكم، أي انعطاف قلبكم وأفكاركم واهتمامكم كلُّه. أتريد إذًا أن تعرف ما هو كنزك وأين قلبك؟ فلاحظ ما تفتكر به بتواتر، فإن كان سماويًّا فقلبك وكنزك في السماء، وإن كان أرضيًّا فكنزك في الأرض، وقد دفنت قلبك في التراب كالنار.