الفصل الثالث: الخطيئة تحديدها وأنواعها



الفصل الثالث: الخطيئة تحديدها وأنواعها

الفصل
الثالث: الخطيئة تحديدها وأنواعها

ما
هو تحديد الخطيئة؟

سنبدأ
باستعراض مفاهيم عن الخطيئة تبدو لنا ناقصة ومجترأة، علّ ذلك يكون بمثابة تمهيد
لتحديد الخطيئة لأقرب إلى الأصالة والشمول
.

أولاً:
مفاهيم ناقصة عن الخطيئة:

هناك
مفاهيم عن الخطيئة شائعة بين الناس، ولكن يبدو لنا أن هذه المفاهيم تخفق فى
الإحاطة بجوهر الخطيئة لأنها تتناولها بشكل ناقص ومجتزأ
..

ومن
هذه المفاهيم:

1-
تحديد الخطيئة كمخالفة للشريعة:

صحيح
أن مخالفة الشريعة الإلهية مؤشر للخطيئة
.

كون
هذه الخالفة، إذا وقعت، تشير إلى إنقطاع حاصل بين الإنسان وصاحب الشريعة
.

يبقى
أن هذه المخالفة لا تكفى على الاطلاق لتحديد جوهر الخطيئة
.

وذلك
للاعتبارات التالية:

أ
– لأن علاقة الله بالإنسان أبعد وأعمق بكثير من علاقة سيد يحاسب عبيده على قوانين
فَرَضَ عليهم تنفيذها
.

إنها
علاقة صميمة تفترض تحولاً كيانيًا فى ذات الإنسان واتصالاً حميمًا بينه وبين ربه
.

فلا
بدّ بالتالى من تحديد للخطيئة يأخذ بعين الاعتبار تلك العلاقة الصميمة التى يفترض
أن تقوم بين الله والإنسان، ومقتضياته، وموقع الإنسان منها
.

لقد
قال الله على لسان النبى هوشع الذى عاش فى القرن الثامن قبل الميلاد:
(إِنِّي أُرِيدُ
رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً وَمَعْرِفَةَ اَلْلَّهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ
) (هوشع 6: 6].

والمقصود
أن الأهم بنظر الله من التقيد بأوامره من حيث تقديم الذبائح والمحرقات، إنما هو
تحول الإنسان إلى ” معرفة الله”، أى، بلغة هوشع النبى، إلى علاقة المحبة
والألفة معه، بحيث يتجلى هذا التحوّل فى سلوك الإنسان، ” رحمة لأخيه”
.

وقد
أكد الرب يسوع هذا التعليم الذى ورد فى نبوءة هوشع واستشهد به مرتين كما ورد فى
إنجيل متى:

(فَاذْهَبُوا
وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لأَنِّي لَمْ آتِ
لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى اَلتَّوْبَةِ
) (متى 9: 13) و(فَلَوْ
عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لَمَا حَكَمْتُمْ
عَلَى اَلأَبْرِيَاءِ!
) (متى 12: 7).

ب
– لأن الخطيئة قد تتواجد مع تتميم دقيق للشرائع الإلهية
.

ذلك
أن الإنسان قد يتوهم أنه استنفد البرّ من جراء تتميمه ظاهر الشريعة بحذافيره،
فيكتفى بذاته وينطوى على برّه المزعوم ويصبح من حيث لا يدرى عابدًا لنفسه،
مستغنيصا عن الله، بينما هو يتصور أنه شديد الغيرة على الدين، بالغ الحرص على
إطاعة شرائعه
.

وينعكس
هذا الانقطاع الفعلى عن الله، المتستر وراء نقيضه الظاهرىّ، فى علاقات هذا الإنسان
بالآخرين التى تصبح خير مؤشر لزيف موقفه الروحى
.

ذلك
أنه يستعلى على الناس ويحتقرهم وينبذهم عوض أن يرى فيهم أبناء لله مثله جديرين،
بهذه الصفة، بكل اهتمام واحترام ورعاية رغم كل ما يشوب سلوكهم من مساوئ
.

تلك
هى ” خطية البار” التى تعتبر بحق ذروة الخطيئة لأنها تتخذ من الله نفسه
ذريعة للانغلاق الفعلى دونه
.

وهى
التى أدّت إلى الصراع المرير بين يسوع المسيح وبين الذين كانوا فى عهده غلاة
المحافظة على الشريعة، ألا وهم الفريسيون
.

2-
تحديد الخطيئة كتدنيس الإنسان لنفسه بارتكاب المحرمات:

مفهوم
ناقص آخر للخطيئة
. شبيه بالأول ومرتبط به. هو تحديد
الخطيئة على أنها تدنيس الإنسان لنفسه من جراء ارتكاب المحرمات
.

صحيح
أن الخطيئة هى، بمعنى من المعانى، دنس يلحق بالإنسان
. لأنها
تشويه لنقاوته
. خاصة إذا
أخذنا ” النقاوة” بمعنى ” الأصالة”
.

ولكن
المفهوم الذى نحن بصدده لا يكفى، مع ذلك، للإحاطة بطبيعة الخطيئة، وذلك للاعتبارات
التالية:

أ
– لأننا تعلمنا من الرب يسوع المسيح أن بعض ما كان محرمًا فى العهد القديم
.

والمرتبط
بتصنيف الأشياء (كالأطعمة والوظائف الجسدية وغير ذلك) إلى طاهرة ونجسة، لا علاقة
له بجوهر علاقة الإنسان بربه، وبالتالى بجوهر الخطيئة، وأن ما يدنس الإنسان فعلاً
ليس ما يحصل فى جسده وما يتصل به من أشياء، بل إرادته الشريرة النابعة من قلبه أى
من صميم كيانه:

(لَيْسَ
شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ اَلإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ
لَكِنَّ اَلأَشْيَاءَ اَلَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ اَلَّتِي تُنَجِّسُ
اَلإِنْسَانَ
. لأَنَّهُ
مِنَ اَلدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ اَلنَّاسِ تَخْرُجُ اَلأَفْكَارُ اَلشِّرِّيرَةُ:
زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ
كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ. جَمِيعُ هَذِهِ اَلشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ اَلدَّاخِلِ
وَتُنَجِّسُ اَلإِنْسَانَ
) (مرقس 7: 15،
21
).

ب
– لأن تحديد الخطيءة كدنس يركّز على طهارة الإنسان الذاتية
.

وبالتالى
على فرديته
.

بينما
الأهم هو نوعية علاقته بالآخر
.

فقد
يهمل افنسان سواه بداعى تجنب المحرمات، وهو ما وبخ عليه الرب يسوع الكتبة
والفريسيين عندما عارضوا شفاء الرجل ذى اليد اليابسة يوم السبت:

(ثُمَّ
دَخَلَ أَيْضاً إِلَى اَلْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ.
فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي اَلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا
عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ اَلَّذِي لَهُ اَلْيَدُ اَلْيَابِسَةُ: { قُمْ فِي
اَلْوَسَطِ! } ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: { هَلْ يَحِلُّ فِي اَلسَّبْتِ فِعْلُ
اَلْخَيْرِ وفِعْلُ اَلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ وقَتْلٌ؟ }.فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ
حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ
لِلرَّجُلِ: { مُدَّ يَدَكَ }. فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً
كَالأُخْرَى. فَخَرَجَ اَلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ اَلْهِيرُودُسِيِّينَ
وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ
) (مرقس 3: 1
6] و..

[وَفِي
سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ اَلْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ
يَدُهُ اَلْيُمْنَى يَابِسَةٌ وَكَانَ اَلْكَتَبَةُ وَاَلْفَرِّيسِيُّونَ
يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي اَلسَّبْتِ لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً.
أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ اَلَّذِي يَدُهُ
يَابِسَةٌ: { قُمْ وَقِفْ فِي اَلْوَسَطِ }. فَقَامَ وَوَقَفَ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ
يَسُوعُ: { أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي اَلسَّبْتِ فِعْلُ اَلْخَيْرِ
وفِعْلُ اَلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ وإِهْلاَكُهَا؟ }.ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ
إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: { مُدَّ يَدَكَ }. فَفَعَلَ هَكَذَا.
فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَامْتَلأُوا حُمْقاً وَصَارُوا
يَتَكَلَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟
) (لوقا 6: 6
11]
.

وقد
يرتكب الإنسان مظالم فادحة وهو متوهم بأنه طاهر لمجرد تقيده بظاهر التحريمات
الشرعية
.

على
شاكلة الكتبة والفريسيين الذين شبههم الرب يسوع بالقبور المبيضة المكلسة:
(وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ
تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ
دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.
) (متى 23: 27).

وأخذ
عليهم أنهم:
(وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ
خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً
وَدَعَارَةً!
) (متى 23: 25).

هؤلاء
الذين، إذ كانوا فى طريق اقترافهم جريمة نكراء بتسليمهم الرب يسوع للموت ظلمً،
كانوا إلى ذلك متشبثين بالطهارة الناموسية ولذا:

[. َلَمْ يَدْخُلُوا
هُمْ إِلَى دَارِ اَلْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا فَيَأْكُلُونَ
اَلْفِصْحَ
) (يوحنا 18:
28
).

من
هنا يتضح أن الرب يسوع قد قسا على خطايا تحكم شهوة المال وشهوة التسلط بالإنسان
.

لأن
هاتين الشهوتين تغلقان قلب الإنسان دون سواه وتنتزعان الرحمة من نفسه
.

أما
خطيئة الجنس، فتكمن فى نظر الرب يسوع، لا فى اللذة الجسدية، كما لو كانت هذه اللذة
دنسة بحدّ ذاته، بل فى غعتبار الآخر مجرد أداة للمتعة، وبالتالى فى تشييئه
.

من
هنا أن جوهر خطيئة الجنس فى نظر الرب يسوع، إنما هو كامن فى نظرة إلى الآخر تجرّده
من إنسانيته لتختزله مجرد موضوع شهوة وذرية للذة، أنه بعبارة أخرى، يكمن فى نظرة
استعبادية إلى الآخر
.

هذا
هو معنى العبارة الإنجيلية:

(إِنَّ كُلَّ
مَنْ يَنْظُرُ إِلَى إمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ
) (متى 5: 28).

ثانيًا:
تحديد الخطيئة من منظار إنجيلى:

1-
الخطيئة مرتبطة بخبرة العلاقة بالله:

جوهر
الخطيئة هى فى كونها اضطراب فى علاقة الإنسان بالله
.

من
هنا أن لا معنى للخطيئة إذا لم تُختبر فى سياق تلك العلاقة
.

قد
يخالف المرء شرائع وقوانين، وقد يعصى أوامر من لهم حق السلطة عليه
.

وقد
يشعر بأنه من جراء ذلك مذنب
.

ولكن
الشعور بالذنب يختلف نوعيًا عن الشعور بالخطيئة
.

فالذنب
لا يتحول إلى خطيئة إلا إذا شعر المرء أنه مذنب حيال الله وأنه ارتكب الشر أمامه
.

أى
أن ذنبه ليس مجرد مخالفة لقاعدة يراها واجبة، ولسُلطة يعتبرها مشروعة، وحتى لقيمة
يؤمن بها (كالعدالة والصدق وما شابه ذلك)، إنما هو أبعد من ذلك، إساءة إلى العلاقة
التى تربطه بكائن هو أصل وجوده ومرجع هذا الوجود
.

ومن
جهة أخرى، فقد يخالف المرء سلطة العائلة والعشيرة والحكام وحتى المؤسسة الدينية
عينه، إذا أمره هؤلاء بما هو مناف لإرادة الله، وقد يعتريه، من جراء ذلك، شعور
بالذنب بفعل ما انطبع فى نفسيته من تشريط تربوى واجتماعى، لكنه، مع ذلك لا يعتريه
شعور بالخطيئة، لأنه مقتنع بأنه حافظ على علاقته بالله سليمة عبر ما أقدم عليه من
مخالفة، إذ:

(يَنْبَغِي
أَنْ يُطَاعَ اَللهُ أَكْثَرَ مِنَ اَلنَّاسِ
) (اعمال الرسل
5: 29
).

يتضح
مما سبق أن الخطيئة مفهوم دينى فى الأساس،

يتعدى
المفهوم الأخلاقى والاجتماعى الذى يرتبط به مجرد الذنب..

2-
الخطيئة تغرّب عن حضور الله:

ولا
يكتمل معنى الخطيئة – على الأقل فى منظار الإيمان المسيحى – إلا إذا شعر المرء أنه
مخطئ لا لمجرد كونه قد عصى إرادة الله، وكأنه لمجرد هذا العصيان قد أسخط إلهًا
متسلطًا لا يحتمل أية مخالفة لأوامره ونواهيه ويطالب الإنسان بالخضوع كغاية بحد
ذاته وكشرط لا بدّ منه للحصول على رضاه، وكأن الاستقلال من حيث هو، إجرام بحق هذا
الإله يستوجب مرتكبه العقاب
.

خلافًا
لهذه الصورة التى تعكس وتخلد فى التدين موقف الطفل الصغير من والديه، فالخطيئة
بمفهومها الإنجيلى، جوهرها لا العصيان بحد ذاته، إنما ما يعبّر عنه هذا العصيان من
تغرّب المرء عن حضور الله، من نبذ للألفة التى أرادها الله بينه وبين الناس لكى
يحيوا به ويفرحوا ولكى يفرح بفرحهم وحياتهم والتعامل معهم
.

الخطيئة
هى إذًا فى الأساس أن يتوارى الإنسان عن الله كما توارى آدم عن خالقه بين أشجار
الفردوس فيما كان الله يناديه قائلاً:

(وَسَمِعَا
صَوْتَ اَلرَّبِّ اَلإِلَهِ مَاشِياً فِي اَلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ
اَلنَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَاِمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ اَلرَّبِّ اَلإِلَهِ
فِي وَسَطِ شَجَرِ اَلْجَنَّةِ. فَنَادَى اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ
أَنْتَ؟»
) (تكوين 3: 8،
9
).

هى
أن يرفض أن يكون محبوبا من الله كما رفض الابن ” الشاطر” أن ينعم بحب
أبيه ” فشطر” مصيره عن مصير ذاك
.

من
هنا تأكيد الأب ” بول فرغيز” وهو لاهوتى من الكنيسة السريانية
الأورثوذكسية فى الهند، بأن:


الخطيئة هى ما يحول دون الولوج إلى حضرة الله
..

من
هنا أيضا قول اللاهوتى الأورثوذكسى ” بول أفدوكيموف” أن:


خطيئة الإنسان لا تكمن فى وجهها السلبىّ الذى هو المخالفة والعصيان،

بقدر
ما تكمن فى وجهها الإيجابى ألا وهو

إمتناع
الإنسان عن الاغتناء بقرب الله منه”
.

3-
الخطيئة تقوقع على الذات:

هنا
لا بدّ أن يتبادر إلى الذهن هذا السؤال:

لماذا
يتغرّب الإنسان عن الله ويتوارى عن حبه؟
.

الجواب
هو:

أن
الإنسان يرفض بأن يكون محبوبًا لأنه يتوهم أنه إذا رضى بأن يتلقى حب الله وأن
يتفاعل مع هذا الحب، فقد استقلاله
.

ذلك
أن كل من يتقبل أن يدخل فى علاقة حبية، على اختلاف أنواعه، لا بدّ له من اعتبار
الآخر الذى تربطه به هذه العلاقة، مرجعا له وقطبًا لوجوده
.

لذا
فقد يهرب الإنسان من الحب كى يتسنى له أن يبقى المرجع الوحيد لنفسه والقطب الأوحد
لوجوده، وبالأحرى إذا كان الأمر يتعلق بكائن لا بدّ لن، إذا تجاوبنا مع حبه، أن
نعتبره ألِفنا وياءنا وأن نسلم إليه ذواتنا فى أعمق أعماقها
.

تلك
هى قصة الإنسان مع ربه عندما يحتمى من حبه ليتشبث لا بوجوده – فالله لا ينتزع منه
الوجود – بل بملكيته هذا الوجود
.

فاخطيئة،
كما يحددها الفيلسوف الوجودى المسيحى ” غبريال مارسيل”، إنما:


هى فى الأساس فعل الانغلاق على الذات أى اتخاذ الذات مركزًا”
.

الخطيئة
تتخذ من الذات

(سواء
أكانت الذات الفردية والذات الحماعية: العشيرة، الطائفة، الأمة.. إلخ)

مرجعا
مطلقا دون الله
.

إنها
بهذا المعنى، تعبد للذات عوض التعبد لله،

ولذا
فقد نعتها الكتاب المقدس تكرارًا بالصنمية
.

الخطيئة
إكتفاء بالذات دون الله،

إنها
انعزال فى حدود الذات ورفض تجاوزها إلى رحاب الله اللامتناهية
.

إنها
إلحاد عملى، أى رفض وجودىّ بأن يكون الله إلهى أى مرجعى المطلق، وإن كنت أعترف
بالله نظريا وذهنيا
.

ولأن
الخطيئة انغلاق على الذات وأهوائه، فقد شبهها الكتاب المقدس بالخيانة الزوجية
ووصفها بأنها زنى وبغاء
.

ذلك
أن كتاب الله، بدءًا من نبوة هوشع، ومرورًا بأرميا وحزقيال وأشعياء ونشيد الأنشاد،
ووصولاً إلى أمثال الرب يسوع ورسائل بولس ورؤيا يوحن، قد شبّه علاقة الله بالإنسان
بحب زوجى وغيور طالما بادله الإنسان، فردًا وجماعة، بالجحود والخيانة، جانحا
بالخطيئة إلى الاسترسال فى أهوائه والتعبّد له
.

من
هنا نداء الأنبياء المُلِحّ إلى العودة بالتوبة إلى الحب الإلهى وتجديد عهد الوفاء
له
.

4-
الخطيئة انقطاع عن الآخرين:

ومن
حيث هى انقطاع عن الله، فالخطيئة انقطاع عن الآخرين أيضا
.

ذلك
أن تغرّب الإنسان عن الله يعطّل التجانس القائم بينه وبين ربّه، تلك الصورة افلهية
التى بموجبها خُلق الإنسان كما يقول الكتاب المقدس:

(فَخَلَقَ
اَللهُ اَلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اَللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً
وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ
) (التكوين 1: 27).

فالله
بطبيعته، كما تكشّف لنا فى يسوع المسيح، [مَحَبَّة
) (1 يوحنا 4:
8] تقترن فيها الوحدة الكاملة بالتمايز الكامل
.

إنه
بطبيعته مَحَبَّة لأنه ثاَلُوث، ولذا فهو يُوجد الكون من العدم ويرعاه بفيض من حبه
.

فمن
تغرّب عن الله ليغرق فى ذاته

يتغرّب
عن المحبة والمشاركة

اللتين
توقظهما وتفجرهما فى القلب البشرى معاشرة الإله المحبة
.

إنه
يتنكر للنموذج الإلهى الثالوثى المطبوع فى كيانه، فيتغرب عن الآخرين معتبرًا إياهم
مجرد أدوات ومطايا لأهوائه
.

وقد
أوضح الفيلسوف المسيحى ” عمانوئيل مونييه” أن فى منطلق الفكر الآبائى
برمته: ” أن الخطيئة ليست فى الأساس تدنيسا للفرد بل قبل كل شئ تمزيقا للوحدة
البشرية ناتجا عن انفصالها عن الله”
.

وقد
يكون هذا التغريب عن الآخر المؤشر الأول للتغرّب عن الله
.

تلك
هى حال من إعتقد نفسه بارًا لمجرد تتميمه حرف الشريعة،

وإتخذ
من برّه المزعوم حجة للاستعلاء على الآخرين ونبذهم واحتقارهم،

شأن
الفريسى الذى احتقر العشار فى صلاته، فقال عنه يسوع أن صلاته هذه لم تبرره أمام
الله:

(وَقَالَ
لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ
الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ
. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ
إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ
يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ
) (لوقا 18:
9،14
).

تلك
هى أيضأ حال الذين يمارسون أعمال التقوى، ولكنهم يتجاهلون بؤس إخوتهم لا بل قد
يستفيدون منه لمصالحهم، فإن:

[وَمَنْ
يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ
) (1 يوحنا 4:
16
)،

أما
[
. الَّذِي يَمْلِكُ
مَالاً يُمَكِّنُهُ مِنَ الْعَيْشِ فِي بُحْبُوحَةٍ، وَيُقَسِّي قَلْبَهُ عَلَى
أَحَدِ الإِخْوَةِ الْمُحْتَاجِينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ مَحَبَّةُ اللهِ
مُتَأَصِّلَةً فِيهِ؟
) (1 يوحنا 3: 17).

5
– الخطيئة تغرّ عن الذات الحقيقية:

ولكن
انقطاع الإنسان عن الله ينشئ عنده لا إنفصامًا عن الآخرين، وحسب، بل تغربًا عن
ذاته الحقيقية أيضا
.

تلك
هى المفارقة: أن الإنسان ينغلق على ذاته معتقدًا أنه هكذا يجد ذاته، فإذا به
يخسره، لأن ذاته لا تتحقق فعلاً إلا إذا تجاوزت حدودها فى سعى دائب لا ينتهى إلى
الله الذى يشير إليه عطشها اللامتناهى العاجزة عن إروائه كل خيرات الأرض
.


فالإنسان يتجاوز الإنسان” كما قال باسكال
. لذا فإنه
إذا إنطوى على ذاته، خسر ذاته بمسخه إياها وتقزيمه له، كما علّم الرب يسوع منذرًا
بأن:
(مَنْ طَلَبَ
أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا
) (لوقا 17: 33).

الخطيئة
هى:

أن
اتشبث بحدودى وارتاح نهائيا إليه،

هى
بأن أكون أكثر من ذاتى،

هى
أن أرفض النمو والاتساع،

هى
قصر ونقص فى الطموح
.

يقول
اللاهوتى الارثوذكسى الأب الكسندر شميمان:

. نعرف أن
الخطيئة هى بالدرجة الأولى رفض الحياة كتقدمة،

كذبيحة
لله، وبكلمة أخرى كاتجاه إلهى
.

والخطيئة
إذًا هى بالأصل انحراف حبنا عن غايته الأخيرة وهى الله”
.

فالإنسان
فى جوهره، امتداد إلى الله
.

فإن
تقوقع على ذاته عطل طبيعته الأصلية وأخفق فى بلوغ ملء تَوْقه الإنسانى
.

ويتجلى
هذا الاخفاق على صعيدين:

أ
– على صعيد علاقته بنفسه:

يركز
الإنسان المنقطع عن الله اهتمامه على رغائبه الجزئية (كشهوة السلطة والتملّك
واللذة والمعرفة وما إليها
.)، عازلاً إياها عن مُجمل مسار شخصيته
ومُتجاهلاً بقية أبعاد كيانه
.

هكذا
تتضخم هذه الرغائب الجزئية بشكل مُفرط، عشوائى، سرطانى – إذا صح التعبير – فتحجب
وتُعطل الرغبة المحورية العميقة التى هى وحدها قادرة على جمع الرغائب كله،
والمؤالفة فيما بينه، وتعبئتها فى مسعى موحد إلى تحقيق كامل للذات عبر الألفة مع
الله ومشاركة الناس
.

هكذا
يفقد الإنسان حريته إذ تتحكم به رغبة من رغائبه على حساب توقه المحورى العميق
.

إنه،
خلافا لما قد يعتقد، لا يفعل عند ذاك ما يريد، بل ما تريده عنه وتفرضه عليه رغبة
استطاعت أن تصادر لحسابها الخاص مُجمل طاقاته فحرمته من إمكانية توظيفها بصورة
متوازنة ومنسجمة، لصالح كيانه الشامل بمختلف أبعاده
.

هكذا
فالخطيئة استعباد للإنسان واستلال له، كما علّم الرب يسوع:

(ألْحَقَّ
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ
لِلْخَطِيَّةِ
) (يوحنا 8: 34).

هذا
وقد اكتشف علم نفس الأعماق الحديث، فى خط مدرسة كارل جوستاف يونج، بطريقته الخاصة،
وعلى الصعيد السيكولوجى، فداحة الانفصام الذى يحصل فى الإنسان عندما ينعزل أحد
ميوله ويتضخم بشكل مفرط على حساب كيانه الجوهرى المتكامل
.

ب
– على صعيد علاقته بالكون:

أما
على صعيد العلاقة بالكون، فالخطيئة تجعل الإنسان يتوقف عند عطايا الله التى يتألف
منها عالمن، فينظر إليها كمجرد مواضيع لشهوته وحوافز لرغبته فى التمتع والتملك،
فيغيب عنه معناها العميق ولا يرى فيها تعابير حب يخاطب بها المعطى قلبه ويدعوه من
خلالها إلى مؤالفته
.

هكذا
تتحول الخلائق إلى مرايا تعكس له ذاته وتأسره فى عزلته، عوض أن تكون نوافذ يطل
منها على رحاب الله ويتمرس من خلالها على العيش بمعيته
.

هكذا
فالخطيئة ليست، كما قد نتوهم، محبة مفرطة للحياة تثور على كل ما يعوقه،

إنها
بالعكس انتقاص للحياة وتكبيل لنموها وتجميد لانطلاقه،

تلك
الانطلاقة التى لا تتحقق

إلا
فى تجاوز يسمح وحده للإنسان بأن يتخطى حدوده ويشارك لا نهائيًا فى غنى الله
.

6-
الخطيئة لاتكتشف إلا بفعل الاحتكاك بالله:

إذا
كانت الخطيئة فى جوهره، كما رأين، انقطاعا عن الله وتصدعا للعلاقة التى تربطنا به،
فإنها بالتالى لا تُكشف فعلاً إلا إذا استطاع صاحبها أن يحسّ بحضور الله، وأن يعى
فى نور هذا الحضور الإلهى كم هو مُظلم وشقىّ وفارغ من جراء تغرّبه عنه
.

هكذ،
فالابن الشاطر لم يُدرك عمق سقطته إلا عندما تذكر بيت والده وما كتان ينعم فيه من
هناء وكرامة، مقارنًا ذاك الوضع بذلّه وشقائه الحاضرين:

(فَرَجَعَ
إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ اَلْخُبْزُ
وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!
) (لوقا 15: 17).

هذا
الحضور الإلهى الكاشف للخطيئة قد تجلى لن، ولا يزال، بملئه فى يسوع المسيح
.

لذا
نرى بطرس الرسول، بعد أن شاهد الصيد العجيب الحاصل استجابة لأمر الرب يسوع فى
بحيرة طبرية:

(فَلَمَّا
رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذَلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً:
اُخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ
) (لوقا 5: 8).

لذا
أيضا نرى أن الرب يسوع المسيج كان يعاشر خطأة عصره دون أن يشترط توبتهم المسبقة،
متحديًا بذلك معارضة الأتقياء من كتبة وفريسيين الذين كانتوا يتذمرون عليه قائلين:

[وَكَانَ
جَمِيعُ اَلْعَشَّارِينَ وَاَلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ
لِيَسْمَعُوهُ.فَتَذَمَّرَ اَلْفَرِّيسِيُّونَ وَاَلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هَذَا
يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ
) (لوقا 15: 1،
2
).

ذلك
انه كان يريد أن يحمل إليهم، عبر معليشته لهم، ذلك الحضور الإلهى الذى تغربوا عنه،
بحيث يتسنى لهم أن يتلمسوه فيكتشفوا على هديه ضياعهم علّهم يُشفَون منه ويعودون
.

بهذا
المعنى قال:

(فَأَجَابَ
يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ اَلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ اَلْمَرْضَى. لَمْ آتِ
لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى اَلتَّوْبَةِ
) (لوقا 5: 31،
32
).

العشارون
والبغايا كانوا ولا شك يشعرون أنهم يخالفون الشرائع والاعراف، وأنهم بسبب ذلك
أصبحوا على هامش الدين والمجتمع ومنبوذين من ” الأتقياء”
.

ولكن
هذا الشعور بالذنب لم يكن لديهم بعد شعورًا حقيقيا بالخطيئة
.

لأن
الخطيئة تُختبر، كما قلن، أمام الله
.

أما
هم فلم يكن قد تسنّى لهم قبل لقائهم بالرب يسوع أن يواجهوا الله مواجهتة حقيقية
حية وليس فقط من خلال كلمات ونصوص
.

أما
اتصالهم بالرب يسوع فقد أعطاهم فرصة فريدة ليكتشفوا الله لا كمجرد كلمة وشريعة
.

بل
كحضور يُشعّ بالقداسة والرحمة والحنان، كينبوع حياة وتجدد وسلام، وكدعوة حية نافذة
إلى تحقيق الذات بتجاوزها
.

فإذا
هم يكتشفون، ولأول مرة، خطيئتهم، إذ يحسّون ملْ الإحساس كم هم منفيون عن ملكوت
المحبة والخير والحياة، هذا الذى تراءى لهم، وكم بذروا المواهب التى مُنحت لهم
وأحبطوا دعوتهم إلى الاكتمال والفرح
.

فإذا
بالمرأة الزانية، وقد شعرت، كما تقول طقوس الأسبوع العظيم ” باللاهوت ”
المستقر فى المعلّم والمشعّ منه، تكتشف بآن معا وبالمقابل مرارة غربته، فتبلل
أقدام السيد بدموعها
.

وباتصالها
بينبوع المحبة تُدرك كم كانت تعيسة بهدر طاقات الحب الكامنة فيها وتبديدها فى
علاقات سطحية، زائفة، فتتفجر فى كيانها نقاوة كانت تظن أنها أُقصيت عنها إلى الأبد
.

وإذا
بزكا رئيس العشارين، يشعر تحت وقع نظرة الرب يسوع إليه ثم زيارته له فى منزله، كم
ابتعد عن ينبوع الحياة عندما توغل فى دروب الجشع والظلم، فإذا به يأخذ عهدًا على
نفسه أمام الملأ بأن يعطى المساكين نصف أمواله وأن يعوض أربعة أضعاف على الذين
ظلمهم
.

أما
الكتبة والفريسيون، المعتدون ببرّهم، فقد أغلقوا على أنفسهم، بسبب ذلك، دون النور
الإلهى الذى كان يفتقدهم بيسوع المسيح، لذا فإنهم فوّتوا على أنفسهم فرصة اكتشاف
خطيئتهم وبالتالى فرصة الشفاء منه، تلك الفرصة التى عرف كيف يستفيد منها هؤلاء
” الخطأة” المحتقرون منهم
.

لذا
حذرهم المعلم قائلاً:

(الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى
مَلَكُوتِ اللَّهِ. لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ
تُؤْمِنُوا بِهِ وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ.
وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ ‏لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ ‏
) (متى 21: 31).

من
هنا أن حضور الرب يسوع كان – ولا يزال – دينونة للناس بالمعنى الأصلى للكلمة
اليونانية
KRISIS الواردة بهذا المعنى فى الإنجيل والتى تفيد الفرز والتمييز.

إنه
يضع الناس أمام النور، فيتضح من جراء تلك المواجهة الفارق بين الذين بفتحون قلوبهم
للنور فيعوا خطيئتهم ويتوبو، وبين الذين يتعامون عنه، ربما بسبب اعتدادهم ببرّهم،
فلا يشعرون بخطيئتهم ويبقوت فيها مقيمين:

(فَقَالَ
يَسُوعُ: { لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا اَلْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ
اَلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى اَلَّذِينَ يُبْصِرُونَ }. فَسَمِعَ هَذَا
اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ اَلْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُ: {
أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟ } قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: { لَوْ كُنْتُمْ
عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ اَلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا
نُبْصِرُ فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ }]
(يوحنا 9: 39 41).

يتضح
مما سبق هذا القول للأب ” ليف جيلله” أحد كبار الروحيين الأرثوذكسيين فى
هذا العصر:

المرء
لا ينتقل من وعى الخطيئة إلى حضور الرب يسوع، بل، بالعكس، من حضور الرب يسوع إلى
وعى الخطيئة..

7
– الشعور بالخطيئة يقترن بالشعور بقرب الخلاص:

إذا
كان الإنسان، كما أشرن، لا يختبر فعلاً خطيئته على أنها خطيئة إلا إذا واجه الله،
فإن هذا يعنى أنه، وبآن مع، يختبر، إلى جانب ابتعاده المرير عن الله، رحمة الله له
واستعداده لمنحه الغفران والمصالحة ولتجديد عهد الحب معه
.

وهكذا
يتضح أن الإنسان الذى يكتشف نفسه خاطئا يكتشف بحكم الحال أنه يتألم لانفصاله عن
الإله المحبة، وأنه يعود أليه بالتالى أن يقدم على قفزة الإيمان التى تحقق اللقاء
بينه وبين الله فتزول بهذا اللقاء خطيئته
.

من
هنا أن الإنسان الذى يشعر بخطيئته أمام الله، لا يجد نفسه مضطرًا إلى أحد أمرين
.

إما
أن ينوء تحت عبء شعور ساحق بالذنب
. وأن يستميت فى إنكار هذا الذنب وتبرير
مواقفه كما لو كانت القضية بالنسبة إليه قضية حياة وموت، وجود وعدم وجود
.

ذلك
أن ذنبه ليس لاصقا به، ملازما له، بل أنه قادر أن يتحرر منه عندما يشاء، وأنه
يكفيه لذلك أن يعود إلى الله ويرتمى فى أحضان حنوّه، كما فعل الابن الشاطر عندما:

[فَقَامَ
وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ
فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ
) (لوقا 15: 1،
2
).

أن
من يختبر نفسه خاطئا أمام الله يعى بآن معا أن تلك الخطيئة ليست صفة نهائية له، بل
أن إمكانية التحوّل والتجدّد مقدمة له الآن وأنها رهن إرادتته
.

هذا
ما لم يدركه ” فرويد” بسبب إلحاده المبدئى
.

فقد
اعتقد أن المرء كلما توغل فى الفضيلة والقتداسة، كلما أطبق عليه شعور خانق بالإثم
.

وقد
غاب عن باله أن القديسين هم أُناس منتصبون فى كل حين أمام الله، وان هذه المواجهة
الدائمة لربهم تعطيهم بآن معا شعورًا حادًا بخطيئتهم، وشعورًا لا يقل حدة عن
الأول، برحمة الله لهم وبقدرته المحرّرة لهم والمجدّدة لحياتهم
.

فالرسول
بولس، الذى كان يعتبر نفسه أول الخطأة، كان يشعر بآن معا أن قوة الله تسطع بأجلى
بيان فى اقتدارها على إنقاذه من ضعفه وأن كل شئ يغدو مستطاعا له بفعلها
.

هذا
ترديدًا لأقوال الرب يسوع:

[غَيْرُ
اَلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ اَلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اَللهِ
) (لوقا 17:
28، مرقس 10: 27، متى 19: 26]
.

هكذا
فإن القلق الذى ينتاب المرء عندما يُدرك خطيئته يتغلب عليه سلام نابع من ثقته
برحمة الله
.

من
هن، كما يوضح الطبيب النفسانى الدكتور ” مارسيل إيك” أن قلق الشعور
بالخطيئة ليس قلقا كليا لأنه يحمل فى ذاته عنصرًا يخفف من وطأته
.

فمن
استطاع أن يعى خطيئته فعلاً أمام الله، هذا لا ينحصر فى متاهات عقدة الذنب ولا يقع
فريسة لعوارضها المرضيّة
.

إنه،
حتى ولو انتابه شعور مستعص بالذنب نابع مما ترسب فى نفسه متن عقَد نتيجة ظروف
حياته وطبيعة حبرات طفولته، يجد ملاذًا له فى ثقته العميقة بالله، تلك التى يعبّر
عنها الرسول يوحنا بقوله:

[عِنْدَئِذٍ
نَتَأَكَّدُ أَنَّنَا نَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ الْحَقِّ، وَتَطْمَئِنُّ نُفُوسُنَا
فِي حَضْرَةِ اللهِ، وَلَوْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا؛ فَإِنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنْ
قُلُوبِنَا، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ.
) (1 يوحنا 3:
19، 20
).

من
هنا أن الشعور الأصيل بالخطيئة، كما كشفه لنا الرب يسوع، لا يكبّل المرء بل يحرره
.

إلى
الناس الذين كثيرًلا ما يرفضون الله لأنهم يعتقدون أن مواجهة الله تقتضى منهم أن
يروا أنفسهم مذنبين، يأتى الرب يسوع ليقول أن الأمر إنما هو على نقيض ذلك: فأما
البشر لا بد أن يشعر كل إنسان أنه مذنب، لكن أمام الله، الذى هتو صالح وحق، فكل
إنسان يستطع أن يحسّ بأنه محبوب ومغسول ومسامَح وحرّ
.

لا
بل قد قيل أن الشعور بالخطيئة لا يتختذ كل ابعاده إلا إذا اختبر الإنسان الغفران،
لأنه إذ ذاك، على ضوء علاقته المستعادة بالله، يدرك حقّ الإدراك كل غنى الحيتاة التى
كتان قد عزل نفسته عنهتا وكل فداحة الحرمان الذى كان يعانى منه من جراء ذلك
.

حيث
يقول مارك أوريزون:

إنما
فى الغفران تُعرف الخطيئة..

هل
الخطايا جميعها متساوية في ما بينها؟ كيف ذلك؟

عرض
مختصر

1
– الخطيئة تباعد:

الخطيئة،
تحديدً، هى التباعد بينى وبين الله، هى تصدّع العلاقة التى يقيمها حبه بيننا
.

هذا
ما يشير إليه مثل ” الابن الضال” الذى تسميه لغتنا الطقسية ” الابن
الشاطر”، لأنه شَطَرَ، أى فَصَلَ، مصيره عن حياة أبيه (الذى يمثل الله فى هذا
المثل) وقطع بإرادته رباط المشاركة القائمة بينهما وعبر عن ذلك الانقطاع بابتعاد
جغرافى عن بيت أبيه:

(إِنْسَانٌ
كَانَ لَهُ اِبْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي
اَلْقِسْمَ اَلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ اَلْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ.
وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ اَلاِبْنُ اَلأَصْغَرُ كُلَّ
شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ
مُسْرِفٍ
) (لوقا 15: 11
– 13
).

هذا
ولا بدّ من الإشارة إلى أن علاقتى بالله تمرّ بعلاقتى بالبشر إخوتى وأعضاء عائلة
الله، بحيث أننى،

إذا
تنكّرتُ لهم تنكّرت له وتباعدت عنه..

2-
لهذا التباعد درجات:

وغذا
كانت الخطيئة، كما رأين، تباعد فى جوهره، فإن لهذا التباعد درجات تختلف مع اختلاف
درجات تنكرى للإله المحبة:

1-
درجة التباعد مرتبطة بخطورة العمل الذى أسئ به إلى المحبة:

فإننى
أخطئ إلى الآخر (وبالتالى إلى الله) على قدر الأذى الذى أرتضى أن ألحقه به..

وقد
يكون مقدار الأذى أفدح بكثير مما يظهر لأول وهلة
.

فهناك
عدة وجوه لقتل إنسان
. وشعب.

2-
درجة التباعد مرتبطة أيضا بموقفى الداخلى
.

فقد
ألحق بالغير أذى عن غير قصد منى (وإن كنت أحيان، فى هذه الحال، مطالبا باستهتارى،
الذى قد يكون على درجات)
.

ولكننى
قد أؤذى الأخر عن سابق تصوّر وتصميم
. وقد أضمر له الأذى دون
أن يتاح لى، لسبب م، تحقيق ذلك، قتكون خطيئتى على قدر فداحة سوء نيتى:

(وَكُلُّ
مَنْ يُبْغِضُ أَخاً لَهُ، فَهُوَ قَاتِلٌ. وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ
الْقَاتِلَ لاَ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيه
) (1 يوحنا 3:
15
).

3-
درجة التباعد مرتبطة بدرجة اللامبالاة بالآخر:

وهناك
خطيئة تقوم لا على عمل أُقدم عليه، إنما على إحجامى عن القيام بعمل كانت المحبة
تفرضه علىّ
.

إن
بعض التشريعات تعاقب إنسانا إذا لم يمدّ يد المعونة لإنسان آخر كان فى حالة الخطر
.

كذلك
فهناك خطيئة اللامبتلاة بمن حولى وهى خظيئة ” الأوادم” الذين ”
لايؤذون أحدًا”، ولكنهم يتركون الأذى يفتك بسواهم دون أن يحركوا ساكن، ولسان
حالهم:

(فَقَالَ
اَلرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ
أَنَا لأَخِي؟»
) (تكوين 4: 9].

فداحة
هذه الخطيئة مرتبطة بفداحة اللامبلاة التى وراءها وبدرجة تعمّدها
.

هذا
صحيح ليس فقط على الصعيد الفردى بل على الصعيد الحماعى أيضًا
.

فقد
يتهرب المرء من إتخاذ موقف فى القضأيا العامة التى تحدّد مصائر الناس، وكان الأمر
لا يعنيه
.

4-
درجة التباعد مرتبطة بدرجة الإصرار عليه:

أخيرً،
فإن فداحة الخطيئة مرتبطة بدرجة إصرارى عليها
.

فقد
ألحِق أذى كبيرًا بالآخرين ولكن بتأثير فترة ضعف – قد تقصر وتطول – أنقاد فيها إلى
أهوائى ثم أعود عن غيى وأحاول قدر الإمكان التعويض عما فعلت
.

وقد
أصر بالعكس على لامبالاة بالآخرين قد لا تتجلى باعتداء مباشر عليهم إنما بتغرّب
مقصود ودائم عن حاجاتهم من شأنه أن يشلّ المحبة فىّ دون رجعة
.

هذا
الموقف الأخير أشد خطورة من الأول
.

فزكا
رئيس العشارين ارتكب الظلم والنهب على قدم وساق، ولكنه ترك نظرة المسيح تلمس قلبه
وتذيب جليد هذا القلب، وإذا به يعطى المساكين نصف أمواله ويرد أربعة أضعاف لمن
غبنهم
.

أما
غنىّ المثل الإنجيلى فلا يبدو أنه ارتكب الكبائر، ولكنه كان كل يوم يتنعّم بترفه
وموائده مُتجاهلاً لعازر المسكين المطروح عند باب بيته يتضوّر جوعا وألما
.

لذا
نراه فى الجحيم شأن الذين لا يتوبون
.

إن
عد التوبة هذ، أى الإصرار النهائى على التوغّل فى الخطيئة هو ما سُمّى بالتجديف
على الروح القدس:

[. وَأَمَّا
مَنْ قَالَ عَلَى اَلرُّوحِ اَلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا
اَلْعَالَمِ وَلاَ فِي اَلآتِي
) (متى 12: 32].

وبالخطيئة
التى تقود إلى الموت:

[.فَهُنَالِكَ
خَطِيئَةٌ لاَبُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْمَوْتِ
..) (1 يوحنا 5:
16]
.

وقد
قيل أن هذه الخطيئة لا تُغْتَفَر، لَيْس لأن لغفران الله حدودً، بل لأنها تُمثل
إِصْرَارًا نِهائيا على الاغْتِرَابِ عن يَنْبُوع المحبة والغفران


تم نسخ الرابط

هل تبحث عن  عن الرسالة التاسعة والعشرون

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي