الفصل
الثَّاني
الآباء
المُدافِعُون Apologists
(القرن الثَّاني
الميلادي)
الآباء
المُدافِعُون
كان
الآباء المسيحيون المُدافِعُون هم أوَّل من وظَّف اللفظة اليونانية ” ثيولوچيا “
في المضمون المسيحي، أمَّا الرُّسُل والآباء الرسوليين، فلم يستخدِموا هذا
المُصطلح إلاَّ بقدر ضئيل للغاية. ربما بسبب ارتباطه بالمفاهيم اليونانية وغيابه
من العهد القديم، بالإضافة إلى أنَّ المُدافعين أنفُسهم لم يسهبوا في استخدامه.
فظهر
اللفظ مرَّة في أعمال تاتيان (160م) ومرتين في كِتابات القديس والفيلسوف يوستين
الشهيد (100 – 165م)، وسبع مرَّات في كِتابات أثيناغُوراس الأثيني (القرن الثاني
الميلادي)، ويُرى هذا التنوع كدليل على محدوديِة استخدام الآباء المُدافعين لهذا
المُصطلح لأوَّل مرَّة استخداماً شامِلاً وإلى أقصى حد، بسبب دلالاته في
الميثولوچيات الوثنية (قِصَص الأساطير الوثنية)، ويربُط أثيناغُوراس اللفظ
” ثيولوچيا “ ربطاً واضِحاً وصريحاً بالميثولوچيا عند الشُّعراء القُدامى،
ويذكُر أسماء هومر (القرن التَّاسِع ق. م) وأورفيوس (القرن الثَّاني عشر ق. م)
وهيسيود (750 – 700 ق. م) كأكثر من يُمثِّل هذا التقليد.
ويُركِّز
بوجه خاص على اسهامات أورفيوس الذي يقول عنه إنه كان مسئولاً عن أسماء الآلهة
الإغريق وعن أصلِهِم وعن تطوير علاقِة الثيولوچيا بالثيوچونيا *.
وينتقِد
أثيناغُوراس بشدَّة ثيولوچيا الشُّعراء الإغريق ويُحاجِج إنها لا يمكن أن تكون
حقيقية لأنها ذات منشأ وليست أبدية (1).
ولكي
يُعزِّز من مُحاججته، يُورِد أثيناغُوراس تمييز أفلاطون بين العقلاني Noetic والحِسِّي Sensible (2) Νοητόν
/ Φαινόμενον والمُرتبِط بتطابُق كبير بذلك التمييز بين ” ذي المنشأ – المخلوق
“ ” واللامخلوق “ (3) (άγενητόν
/ γενητόν) و” الكيان الأبدي “ و” اللا كيان “ (4) (άεί όύ / ούκ
όύ)، ولمَّا كان الآلهة
بالنسبة للشُّعراء الإغريق مخلوقين (ذَوِي منشأ) فلا يمكن أن يكونوا آلهة أبدية،
لأنه ما كان مخلوق هو أيضاً قابِل للفناء (5)!!
إذن
الثيولوچيا التي ترتبِط بالضرورة بالكيانات والثيوچونيا (تزاوُج وعائِلات الآلهة)
هي ثيولوچيا عقيمة وسخيفة فهي تفشل في إدراك المبدأ المركزي للميتافزيقا
الأفلاطونية، والتمييز الأونطولوچي ” الوجودي “ المُطلق بين الأبدي والزمني،
العقلي والحِسِّي، وبالنسبة للفِكْر الأفلاطوني فإنَّ الثيولوچيا ترتبِط فقط
بالمجموعة الأولى (الأبدي والعقلي) ومن ثمَّ لا تظهر عليها ملامِح المجموعة
الثانية (الزمني والحِسِّي).
واللاهوت
الميثولوچي لا يمكنه إدراك أو استيعاب ذلك التمييز المُطلق، ومن ثمَّ يخلِط بين
الأبدي والزمني، وبين الثيولوچيا والكوزمولوچيا، وتكون النتيجة كوزموچونيا
ميثولوچية (أصل الكون من الوجهة الأُسطورية)، وهنا يصير من المهم للغاية، لا أن
نُشير إلى ” أفلاطونِيِة “ أثيناغُوراس بل أن نُقَيِّمها تقييماً حقاً، وفي
التحليل الأخير لم يكن أثيناغُوراس يُفلسِف المسيحية فلسفة أفلاطونية بقدر ما كان
راغِباً في قبول صحة التقليد ” الثيولوچي “ الأفلاطوني في مضمون دِفاعياته
واستخدامها ضد الثيولوچيا الأُسطورية المشكوك في صِحِتها للديانة الإغريقية
القديمة.
والدليل
القاطِع على أنَّ أثيناغُوراس لم يكن لاهوتياً مُتأثِراً بالفلسفة الأفلاطونية
نراه في تعليمه عن اللوغوس، وخصوصاً دِفاعه وجهاً لوجه ضد ميتافيزيقية أفلاطون
الثيولوچية عن الميلاد والاستعلان التجسُّدي لهذا اللوغوس وِفقاً لإيمان الكنيسة.
وكان
على أثيناغُوراس أن يقهر الثيولوچيا الأفلاطونية حينما كان مُضطراً أن يدافِع عن
تعليم الكنيسة عن ابن الله، وميَّزها تماماً عن ميثولوچيا الإغريق وعقلانية
الفلسفة الإغريقية، كما يُعبِّر عنها بقوله:
”
نُؤمن بإله واحد، غير مخلوق، أبدي غير منظور، لا يتألَّم غير مُدرك، ولا محدود،
يُدرك فقط بالفَهْم والعقل، مُوشَّح بالنور والجمال والروح والقُوَّة الغير محدودة
ولا المُدركة، خُلِق الكون بكلمته اللوغوس، ورَّتبه في نظام ونسَّق وحَفَظُه في
كيان وحركة، هكذا قد عرضت الأمر في وضوح كافِ. “
وأقول
كلِمته (لوغوسه) لأننا أيضاً نُؤمِن ونعترِف بابن الله. لئلاَّ يعتقِد أحد أنه من
السخف أن يكون لله ولد (ابن)، فإن كان الشُّعراء في خيالاتِهِم الشِعرية يُمثِّلون
الآلهة وكأنهم بَشَرْ، فإنَّ طريقتنا في التفكير ليست مِثلهُم، لا بخصوص الله الآب
أو الابن لكن ابن الله هو اللوغوس (الكلمة)، كلمة الآب في الفِكْر والعمل لأنه
بحسبه وبه كل الأشياء قد خُلِقَت، والآب والابن واحد، والابن في الآب والآب في
الابن، في وِحدانية القُدرة أي فِكْر وكلمة الآب هو ابن الله (6).
ويتحدَّث
الآباء المُدافِعُون الآخرون بنفس الاُسلوب، فنرى تاتيان مثلاً يتعرَّض لنفس
المبدأ في دِفاعياته إلى الإغريق:
”
نحن لا نسلُك مسلك الأغبياء، أيها الإغريق، ولا ننطِق بروايات سخيفة تافهة حينما
نُعلِن أنَّ الله وُلِد في هيئِة إنسان، وإني أدعوكم يا من تسخرون منَّا أن
تُقارِنوا رواياتِكُم الأُسطورية مع روايَاتِنا… “ (7).
ويعرِض
القديس يوستين الفيلسوف المسيحي والشهيد نفس الفِكرة:
”
ونحن نقول إنَّ ” الكلمة ” وحيد الله قد وُلِدَ دون زرع بشر وإنَّ يسوع
المسيح مُعلِّمنا قد صُلِب ومات وقام وصعد إلى السموات، ونحن لا ننطِق بشئ يختلِف
عمَّا تعتقِدون فيه بخصوص أُولِئِك الذينَ يُكرِمون أبناء چوبيتر لأنكم تعلمون كم
ابناً ينسِبهُ كُتَّابكُم لچوبيتر: مركوري، إسكلابيوس، باكوس، هرقلس، ديسقوري،
يرسوس وبيلليروفون!! (8) “.
وأخيراً
نجد ثيوفيلُوس الأنطاكي (القرن الثَّاني الميلادي) وقد عَرَض نفس التعليم:
”
كلِمة الله الذي هو أيضاً ابنه، ليس كما يتحدَّث كُتَّاب الأحاديث الأُسطورية
والشُّعراء عن أبناء الآلهة الذينَ يُولدون بزرع بَشَرْ (مع نِساء) لكن كما
يُقرِّر الحق الإلهي فإنَّ الله الكلِمة هو الأزلي الموجود والكائِن دوماً في
حِضْن (قلب) الله الآب…. “ (9).
وسبق
ثيوفيلُوس الأنطاكي غيره في استعمال اللفظ اللاهوتي Trias
للتعبير عن الثَّالوث القدوس، وجعل الأيام الثَّلاثة الأولى التي سبقت صُنع الشمس
والقمر تُمثِّل الثَّالوث. وتركزت رُؤيته للثيولوچيا في أنَّ الله أباً للكل لا
يسعه مكان.
وكل
هذه المقولات للآباء المُدافعين تُوضِح تماماً أنَّ لا شئ بينها يتفِق مع مبدأ
الأنثروبومورفيزم (اطلاق الصِفات البشرية على الله). ولا الميتامورفيزم (تحوُّلات
الصِفات البشرية بالنسبة لله). والذي ساد كل الثيولوچيا الأُسطورية لقُدماء
الإغريق، والفارِق بينهما (الثيولوچيا الأُسطورية والمسيحية) واضِح في إيجاز دقيق
من نص آخر لأثيناغُوراس الذي يُؤكِد على أنَّ اللاهوتيين الإغريق يُؤلِّهون
الأساطير.
وقد
فشلوا في السمو لمِلء الله عن طريق ما يُسمونه عندهم بالعقل (لوغوس) (Λόγοσ)، لأنه لوغوس مادِّي ذو عِلاقة بجنس أو نوعية المادَّة، ومن ثمَّ
فهم يُؤلِّهون ” تحوُّرات وتغيُّرات “ العناصِر!! (10). وانحصرت مُشكلتهُم في
اخفاقِهِم فيما يختص بمِلء الله!
وهذا
يعني أنَّ في لاهوت أثيناغُوراس يُظهِر الله مُختلِفاً بالكلية عن الأشياء
المادية، كما يقول هو في موضِعٍ آخر أنَّ الإغريق فشلوا في إدراك ” اللوغوس الطبيعي
والثيولوچي “، ومن ثمَّ يقيسون التقوى بنواميس وشرائِع الذَّبائِح (11)، والتي
يُلاحِظونها في كل مكان، وأثيناغُوراس يرفُض فكرِة أنَّ الله في حاجة إلى
الذَّبائِح، كما يقول: ” خالِق وأب الجميع لا يحتاج إلى الدم أو رائِحة الذَّبيحة
المُحترِقة أو روائِح الزهور والبخور، لأنه هو العِطر والطِيب الخالِص الكامِل
الذي لا يُعوِزه شئ “ (12)، فما هو إذن ذلك اللاهوت الذي يُدافِع عنه أثيناغُوراس؟
يُخبِرنا
أنه ذلك اللاهوت الذي يتمركز حول الله الواحِد الغير مخلوق الأزلي الغير منظور
اللا مُتحوِل والغير مُدرك ولا مُحتوى. الذي لا علاقة له بآلهة الوثنيين (13).
فإن
كانَ هذا هو كل ما شدَّد عليه أثيناغُوراس في مُحاججته عن الثيولوچيا لقُلنا أنه
لا يختلِف كثيراً عن تعريف أفلاطون للاَّهوت!! لكن أثيناغُوراس يتحدَّث عن تميُّز
اللاهوت المسيحي في إسهاماته: والذي يختص مباشرةً وأساساً بالثَّالوث (14).
ويُكمِل
الفيلسوف أثيناغُوراس قائِلاً ” من لا يدهش حين يسمع أنَّ الناس الذينَ يتحدَّثون
عن الله الآب وعن الله الابن وعن الله الروح القدس ويُعلِنون وِحدانِيتهُم في
القُوَّه وتميُّزهُم في الحالة Order (النِظام) يُدعون مُلحدين!! “ (15).
ثم
يستمِر أثيناغُوراس في إيضاحاته عن تعريف اللاهوت، فاللاهوت لا يختص فقط بالله
الواحِد الأزلي، وإيمان الكنيسة بثالوث الآب والابن والروح القدس، بل يختص أيضاً
بجموع الملائِكة والقُّوات السماوية التي يُرسِلها خالِق العالم بكلِمته اللوغوس
لتسود على العناصِر والسموات ونِظام الكون كله (16).
وفي
ضوء هذه الاقتباسات يُصبِح من الجلي أنَّ أثيناغُوراس قد استعار لفظِة ” ثيولوچيا
“ وتعريفها الأوَّل من الفلسفة الأفلاطونية اليونانية، لكنه عمَّق من معناها
بوضعها في التقليد الثيولوچي الثَّالوثي للكنيسة المسيحية.
وحقاً
يمكننا أن نقول عن أثيناغُوراس، وعن الآباء المُدافعين الآخرين، أنه قد عمَّد
(مسحن) الثيولوچيا الفلسفية اليونانية في مياه الاستعلان المسيحي.
أمَّا
العلاَّمة لكتانتيوس (260 – 330م) فقد شدَّد على أنَّ رجاء الإنسان الوحيد
هو اتباع العقيدة الحقة والحكمة التي في المسيح وكل من هو جاهِل به فهو دائِماً
مُتغرِب عن الحق وعن الله ” فلندع اليهود أو الفلاسِفة يتملقون أنفُسهُم ويخدعونها
بظنِهِم أنهم يُوقِرون الله الأعظم. فكل من لم يعرِف الابن لا يستطيع أن يعرِف
الآب “.
ولم
يتفِق الآباء المُدافِعُون في اتقان مسحنِة اللاهوت الأفلاطوني لكنهم مهَّدوا
الطريق أمام تطوير ثيولوچيا مسيحية ذات طابِع إغريقي – وكان إدماج الأنجيلولوچيا
(عِلْم الملائِكة) في الثيولوچيا تقليد مسيحي مأخوذ عن اليهودية، وكان
المُدافِعُون يُقرونه لكنهم لم يُتقِنوا التعمُق فيه.
والشهيد
يوستين المُدافِع المسيحي (110 – 165م) وظَّف لفظِة ” ثيولوچيا “ في حواره
مع Trypho تريڤو اليهودي، أو بالحري فِعْل (يلهوت) (يتأمَّل لاهوتياً)
(Θεολογείν) بمفهوم كِتابي تفسيري، وجد أصوله في التقاليد الرابينية للتلمود،
ةهو يُخبِرنا أنَّ تريڤو يتحدَّث بلغة لاهوتية في تفسيره للحرفين الزائِدين
(a)، (r) في اسمي Abraam وسارة Sarrah (17).
وكان
رد يوستين نوعاً مُشابِهاً ” للحديث بالإلهيات “، فهو يُفسِر المغزى اللاهوتي
الكريستولوچي بتغيير اسم Auses إلى Jesus بواسطة موسى النبي (18).
وهناك
آيات أخرى في العهد القديم، يُعمِّقها يوستين بنفس الاُسلوب في (تك 19: 24 ؛ مز
109: 1 ؛ 44: 7 – 8) (19).
والنمط
التلمودي اليهودي للاهوته قد استُخدِم بشكل أعمق وأشمل على أيدي المسيحيين
الأوائِل في حواراتِهِم وجَدَلِهِم مع اليهود، فمثلاً حالِة يشوع أو يسوع ابن نون
نجدها أيضاً في برنابا، والقديس إكليمنضُس السكندري (20)، ويوسابيوس القيصري
الكاتِب الكَنَسِي الشهير (21)، وكانت الغاية هي توضيح وإبراز اللاهوت الثَّالوثي
المسيحي (22).
ولأنَّ
أثيناغُوراس كان مُعاصِراً للمُدافِع تاتيان تلميذ يوستين الشهيد، لذا نُحِب أن
نُشير إلى أنَّ دِفاعياته تختلِف عن دِفاعيات الاثنين، فقد فرَّق بين الفلاسِفة
باعتبار أنهم يستنبطون حِججهم بالبحث بذواتِهِم، وبين الأنبياء الذينَ إذ يدفعهم
روح الله يستطيعون أن يُقدِّموا شهادة جماعية غير مُتضارِبة للحق الإلهي.
تحدَّث
أثيناغُوراس عن المسيحية وكأنها على قدم المُساواة مع الفلسفة، ولكنه يرى أنَّ
المسيحية ليست عقلانية كما أراد يوستين، إنما هي اعلان إلهي فريد من نوعه.
وكان
للفيلسوف أثيناغُوراس منهجه عندما احتج على الاتهامات الموجهة ضد المسيحيين، فقد
علَّق قائِلاً:
”
المسيحيون لا يعبدون آلهة كثيرة، ولا يعبدون العالم بل خالِق العالم، يُؤمِنون
بالله السَّرمدي الذي هو الآب والابن والروح القدس “.
ويُعتبر
أثيناغُوراس أوَّل مُفكِر مسيحي حاول أن يُبرهِن على وِحدانية الله بطريقة فلسفية
عِلمية مسيحية (23)، فتحدَّث عن الله كخالِق للعالم يُديره، ووصف الله أنه سرمدي
وكامِل في كل شئ وقادِر على كل شئ.
وفي
بُرهان آخر تحدَّث أثيناغُوراس عن الله الواحِد وعن الثَّالوث القدوس كجوهر واحِد،
الآب هو العقل والابن هو اللوغوس (الكلمة غير المخلوق)، واحِد مع الآب منذ الأزل
والروح القدس… واستفاض في إدراك كامِل لوحدِة الثَّالوث وتمايُزه (24).
حذَّر
أثيناغُوراس من فهم الآب والابن، بطريقة عقلانية فلسفية مُؤكِداً أنَّ كلمة ”
الابن “ لا تعني خروجه عن الآب في وقتٍ ما. وإنما هو كائِن معه أزلياً. الله
الواحِد الحقيقي المصدر الوحيد لكل جمال (25).
وهكذا
فإنَّ الآباء المُدافعين هم اللاهوتيون الأوَّلون لأنهم سبقوا غيرهم إلى البحث في
عِلْم الله ” الثيولوچيا “. ويوستينوس المُدافِع، كما سبق وذكرنا، كرَّس جهوده
ليُؤكِد أنَّ النُّبوات تُثبِت أنَّ يسوع المسيح هو ابن الله… ووجَّه أنظارنا
إلى أنَّ الفلاسِفة كأفلاطون قد استعاروا من العهد القديم، ولهذا السبب فإننا لا
نستغرب من وروُد أفكار مسيحية في الفلسفة الأفلاطونية.
ونظرة
مُدقِقَة للاهوت يوستينوس تُرينا أنه وُضِع لاقناع أوساط غير مسيحية فجاء مبنياً
على العقل مُستنِداً إلى الفلسفة اليونانية مُوضِحاً التشابُه بين المسيحية
والفلسفة ليُثبِت أنَّ المسيحية هي وحدها الفلسفة الحقيقية وهذا لا يعني أنه بنى
لاهوته على الفلسفة، لكنه صرَّح في محاورة مع تريڤو، أنَّ الفلسفة هي أثمن
الهِبات الإلهية التي رسم الله بها أن يقود الإنسان إليه.
ويُشبِّه
يوستينوس انبثاق الكلمة بامتداد لهيب النار ويرى أنَّ المسيح كلمة الله يُنير
العقول البشرية منذ البدء فأخصبت بذوراً Sperma منه واهتدت إلى
الحقيقة.
ويُركِز
القديس يوستين على أنَّ المسيح هو الكلمة أو هو العقل فهو المُتكلِم بالحق على
أفواه جميع السابقين من فلاسِفة وأنبياء عبرانيين ابتداءً من آدم إلى موسى وبقية
الأنبياء، فالأمور التي كانت تبدو غير معقولة ومُستحيلة، أعلن الله عنها بروح النُّبوة.
ولم
يُفرِّق يوستين تفرِقة قاطِعة بين الثيولوچيا وبين الفلسفة بالمعنى الدقيق، لكنه
يقول أنَّ هناك حكمة واحدة وفلسفة واحدة، وهي التي أُعلِنت في المسيح وبالمسيح…
حاول
القديس يوستين أن يُبرهِن على أنَّ الفلاسِفة الإغريق استطاعوا أن يروا الحقيقة
ولكن في غُموض من خلال بذور العقل (النابِعة من الكلمة الإلهي) المُنغرِزة فيهم
بزيادة (26).
وتميَّز
منهج أثيناغُوراس اللاهوتي بكونِهِ عقلي، أمَّ منهج المُدافِع يوستين بكونِهِ
نقلي، الأوَّل يُكلِّم الوثنيين بلغِة الشُّعراء والفلاسِفة والثَّاني يستخدِم
أقوال الأنبياء العبرانيين..
ويكتفي
أثيناغُوراس بالحديث عن التثليث المسيحي بنوع من التفصيل لكنه لا يتكلَّم عن
المسيح بوصفِهِ الابن الأزلي، أمَّا القديس يوستين فيتكلَّم عن وجودين للمسيح وجود
زمني بميلاده من العذراء، ووجود حقيقي سابِق على الزمان ويتحدَّث عن ظُهوراته قبل
التجسُّد في العُلِّيقة وأشخاص الملائِكة.
وبينما
يُورِد أثيناغُوراس شواهِد من أقوال الفلاسِفة والشُّعراء ليُبيِن التوافُق بين
المسيحية والفلسفة اليونانية، يرى يوستين أنَّ أفلاطون اقتبس من موسى النبي
الكثير..
وعن
وجود الله ” الثيولوچيا “ يقول أثيناغُوراس: ” أنَّ الله هو الصَّانِع والخزَّاف
بالنسبة للكون والخليقة “. ويرى أنه هو الذي يُنظِم العالم كله ويحكمه، فلكل معلول
عِلَّة.
وطبيعِة
الله في لاهوت أثيناغُوراس يصِفها ” الله روح بسيط، أزلي، أبدي سرمدي، كامِل في كل
شئ، قادِر على كل شئ، هو الخير والنور والقُوَّة والجمال والحق والعقل، صانِع
الكون، ضابِط الكل، مُعتني بالكائِنات، غير المخلوق، الثابِت العادِل الرحيم الذي
لا ينفعِل ولا يشتهي ولا يحتد ولا يحزن “.
ويُعتبر
أثيناغُوراس أوِّل لاهوتي مسيحي يُحاوِل أن يُبرهِن على وحدانية الله برهنة عقلية،
ولم يعتبِر أنَّ وحدانية الله تطعن في الثَّالوث القدوس. لذلك يقول:
الله |
العقل |
الله |
الكلمة |
الله |
|
ودافع
لاهوت أثيناغُوراس عن إيمان المسيحيين بإله واحِد، وأنهم ليسوا ملاحِدة، واستخدِم
شهادِة الشُّعراء والفلاسِفة ليُبرهِن على وحدانِيِة الله، مُؤكِداً على سمو
التعليم المسيحي فيما يختص بالثيولوچيا.
تكلَّم
أثيناغُوراس عن الثيولوچيا التريادلوچية (الثَّالوثية) ببراهين كافية داحِضاً
تُهمِة عبادِة المسيحيين للكون، مُستفيضاً في اللاهوت العملي المسيحي في زواياه
الإيمانية والأخلاقية والروحية.
ومن
بين المُدافعين في القرن الثَّاني الميلادي، العلاَّمة الأفريقي ترتليان
(160م)، الذي يُقرِّر أنَّنا نعرِف الله معرِفة يقينية من مصنوعاته، وأنه يمكن أن
نستدِل على كمال الله من عدم مخلوقيته، وهو بهذا قد مزج بين الثيولوچيا
والكوزمولوچيا.
قدَّم
العلاَّمة ترتليان مُصطلحات لاهوتية جديدة، فنشهد مثلاً أوِّل استخدام فني للكلمة persona (اُقنُوم): فالأقانيم الثَّلاثة تتميَّز فيما بينها من حيث أنها
أقانيم personae ولكنها ليست ” جواهِر “ substantiae
مُختلِفة أو مُنقسِمة، أمَّا تعليمه عن اللوغُوس أو الكلمة فيستعين فيه بالرواقيين
وبالأخص زينون وكليانتيس.
ولم
يرى ترتليان أيَّة علاقة بين الفلسفة والإيمان، مُتبرأ من الذينَ ابتدعوا مسيحية
رواقية أفلاطونية أو جَدَلِيَّة، مُعتبِراً أنَّ اللاهوتي تلميذ السماء، والفيلسوف
تلميذ أثينا.
سبق
ترتليان غيره من الآباء الغربيين في استعمال اللفظ ” الثَّالوث “ باللاتينية (Trinitas)، ذاكِراً أنَّ الله كان يتكلَّم بصيغِة الجمع فقال: لنصنع
الإنسان على صورتنا ومِثالنا!، وقوله هوذا آدم قد صارَ كواحِد منَّا.
إلاَّ
أنَّ ترتليان وقع في أخطاء لاهوتية جسيمة جعلته لا يرقى إلى درجِة الآباء، لكنه
يُمثِّل امتداداً لإيريناوس في الدِفاع عن: وحدانية الله، أو بالتعبير اللاهوتي
المسيحي ” وحدِة الجوهر الإلهي في الله “ تلك الحقيقة التي كانت غائِبة عن
الوثنية..
لقد
استفاد اللاهوت الغربي من مواجهة ترتليان لبراكسياس ومُروِجي الهرطقات في الغرب،
إلى أن أتت الهرطقة الآريوسية في القرن الرَّابِع (أي بعد حوالي 100 سنة من
نِياحِة ترتليان).
===
مراجِع
الفصل
1)
Embassy, 20
P G 6, 929 C.
2)
Ibid, 18,
P.G 6, 925 C 928 A. Ibid 17, P.G. 6, 921 C.
3)
On His See.
W.K.C Guthrie, Orpheus and Greek Religion (1935) or the Greeks and Their Gods,
(Baston, Mass. 1951).
4)
Ibid., 19,
P.G. 6, 928 B – 929 A.
5)
Ibid., 19,
P.G. 6, 929 A.
6)
Embassy, 10,
P.G. 6, 908 B.
7)
Ad. Graecos,
ch. XXI: Doctrines of the Christians and Greeks respecting God compared; 10,
P.G. 6, 852 C.
8)
Apology 1,
21, P.G. 6, 1360 A.
9)
Ad.
Autolycum, II, 22, P.G. 6, 1088 A.
10)
Embassy, 22,
P.G. 6, 940 BC.
11)
Ibid., 13,
P.G. 6, 916 A.
12)
Ibid.
13)
Ibid.
14)
Ibid., 10,
P.G. 6, 909 B.
يتفِق
اللاهوت المسيحي مع الأفلاطوني في مبدأ التنزيه Transcendence، لكنه لا يتفِق معه في أنٍ واحِد بخصوص مبدأ الحلول Emanenc، وبهذا فإنَّ اللاهوت المسيحي يقترِب أكثر من الأرسطوطالية، ومع
هذا ليست الأفلاطونية والأرسطوطالية من الفلسفات التي تشغِل بال المُفكرين
والعُلماء من آباء الكنيسة في قليل أو كثير!!
15)
Ibid., 945
AB.
16)
Embassy, 10,
P.G. 6, 012 A.
17)
Dialogue,
113, 2, P.G. 6, 736 BC.
18)
Ibid.
19)
Ibid.
20)
Paedagogue I,
VII, 60, 3.
21)
Historia
Ecclesiastica I, 3, 3 – 4.
22)
Dialogue 56,
15, P.G. 6, 601 B.
23)
Quasten:
patrology, Vol 1, p. 232. Oxford Dict. Of the Christian Church, p. 103.
24)
J.F. Bethune
– Baker: An Introduction to the Early History of Christian Doctrine, p. 128 – 9.
25)
Hans von
Campenhausen, p. 30 & Stromata 1: 28.
26)
A.N.F. vol.
1, p. 193, Apology 1: 33.
* الثيوچونيا
: مبحث أصل وسُلالات الآلهة وعائِلاَتِهِم ونشأتِهِم ( في الفِكْر الأُسطوري ).
تم نسخ الرابط