الفصل الحادى عشر
سبب
آخر للتجسد: أن اللهإذ عرف أن الإنسان بطبيعته لم يكن في مقدوره معرفته، وهبه معرفته
لكى يستطيع أن يجد فائدة من وجوده في الحياة. لقد خلقه على صورة الكلمة حتى يستطيع
بذلك أن يعرف الكلمة وبه يعرف الآب. أما هو فإذ احتقر هذه المعرفة هوى إلى العبادة
الوثنية تاركًا الله غير المنظور واتبع السحروالشعوذة، وذلك كله رغمًا عن إعلانات الله المتعددة عن نفسه.
1
عندما خلق اللهضابط الكل[1]
الجنس البشري، بواسطة كلمته الذاتى، لأنه يعرف جيدًا ضعفطبيعة البشر[2] وعجزها عن
أن تعرف الخالق من نفسها، ولا تستطيع أن تكوّن أية فكرة عن الله على الإطلاق، وذلك
بسبب أنه “غير المخلوق“[3]،
أما الكائنات فهى مخلوقة من العدم[4].
وبينما هو روحلا جسد له فإن البشر قد خلقوا في جسد أرضي من أسفل. وبصفة عامة فهناك
عجز كبير في قدرة المخلوقات على أن تدرك وتعرف خالقها[5]
ولهذا فإن الله بسبب صلاحه، تحنن على الجنس البشرى ولم يتركهم بعيدًا عن معرفته
لئلا يكون وجودهم فى الحياة بلا أية منفعة.
2
لأنه أية منفعة للمخلوقات لو أنها لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون (مخلوقات)
عاقلة لو لم تعرف كلمة (LÒgon)
الآب، الذى به خلقوا؟ لأنهم لن يتميزوا بالمرة عن المخلوقات غير العاقلة
(الحيوانات) لو أنهم انحصروا فقط فى معرفة الأمور الأرضية. ولماذا خلقهم اللهطالما أنه لم يكن يريد لهم أن يعرفوه؟[6]
3
ولكى لا يحدث هذا، ولأنه صالح فى ذاته، فقد جعل لهم نصيبًا فى صورته الذاتى (الذى
هو) ربنا يسوعالمسيح، وخلقهم على صورته ومثاله حتى أنه بسبب تلك النعمة فإنهم عندما
يرون تلك الصورة أى كلمة الآب، يمكنهم عن طريقه أن يصلوا إلى معرفة الآب، وإذ
يعرفون خالقهم[7]
فإنهم يحيون حياة حقيقية سعيدة مغبوطة.
4
غير أن البشررغم كل هذا بسبب تمردهم، لم يكترثوا بتلك النعمة المعطاة لهم،
وهكذا رفضوا اللهكلية وأصبحت نفوسهم مظلمة[8]حتى
أنهم لم ينسوا فكرتهم عن الله فقط، بل وأيضًا اخترعوا لأنفسهم اختراعات كثيرة
واحدًا تلو آخر. لأنهم لم يكتفوا بأن يصنعوا لأنفسهم أوثانًا بدلاً عن عبادةالحق، فاكرموا الكائنات المخلوقة من العدم[9]
دون الله الحى ” وعبدوا المخلوقدون الخالق“[10].
بل والأسوأ من الكل أنهم حوّلوا الكرامة التى تحق لله إلى الأخشاب والأحجار[11]،
وإلى كل الأشياء المادية، وإلى البشر، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا كله كما ذكرنا سابقًا[12].
5
بل بلغ بهم الجحود إلى أنهم عبدوا الشياطين مُنادين بها كآلهة مُشبعين بذلك
شهواتهم. ذلك لأنهم قدموا محرقات من الحيوانات غير العاقلة وذبائح من البشركما ذكرنا سابقًا[13]،
متممين بذلك فرائض تلك العبادات، منحدرين بأكثر سرعة وراء نزعاتهم الجنونية.
6
ولهذا أيضًا تعلموا أعمال السحروأضلّت العرافةالبشر[14] في أماكن
عديدة، وصار جميع الناس ينسبون سبب ميلادهم ووجودهم إلى النجوم والأجرام السماوية[15]، إذ
لم يفكروا في أى شيء آخر إلاّ فيما كانوا ينظرونه بعيونهم[16].
7
وعلى وجه العموم، صار كل شئ مشبّعًا (بروح) الكفر والعصيان[17]
وأصبح اللهوحده وكلمته غير معروفين للبشر، رغم أن الله لم يُخفِ نفسه
عن البشر، وهو لم يُعلن نفسه بطريقة واحدة فقط، بل أعطاهم معرفته بأشكال
متعددة وطرق كثيرة[18].
2 انظر فصل
3/3ـ4 حيث يذكر أن ضعفطبيعة البشرتتمثل في عدم إمكانيتها أن تحيا حياة أبدية من نفسها وهنا يشير
إلى ضعف آخر وهو عجزها عن أن تعرف الخالق من نفسها.
3 انظر
المقالة الأولى ضد الآريوسيين. فصل 30 حيث يشرح القديس أثناسيوس معنى مصطلح
“غير المخلوق” بالتفصيل وأيضًا الفصل 28 من كتاب الدفاع عن قانون إيمان
مجمع نيقية.
5 صلاح اللهوتحننه على الجنس البشرى ظهر في خلقتهم لكى يحيوا إلى الأبد
(فصل3) وهنا في فصل11 يظهر هذا الصلاح في اعطاء الجنس البشرى نعمة معرفته والتي
بدونها كانت حياة البشرستصبح بدون معنى، والإنسان نفسه كان سيصبح مثل باقى المخلوقات غير
العاقلة. عن الفرق بين الإنسان العاقل وباقى المخلوقات انظر ضد الوثنيين فصل 31.
2 أمران
رئيسيان يوضحهما القديس أثناسيوس في المقالتين “ضد الوثنيين”
و”تجسد الكلمة” وهما النصرة على الموت والفساد والعودة إلى معرفة اللهالحقيقى. انظر ” تجسد الكلمة ” الفصول 15، 20، 32، 54
وضد الوثنيين الفصل الثانى. انظر أيضًا (يو3:17).
تم نسخ الرابط