الكلمة الأولى
…( 1 )…
إن الكلمات السبع على الصليب هي البرهان الناصع على أن الشخص المعلَّق على الصليب هو المسيح نفسه. فلا يمكن لسواه أن يقولها، ولا يمكن لشبيهٍ به، مهما يكون، أن يقولها.
«يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»
(لوقا ٢٣: ٣٤)
لنتقدَّم بكل اتضاع إلى الجلجثة، ولننظر بخشوع إلى المصلوب فنرى ما لم يخطر على بال! لقد عصب أعداؤه رأسه بأكليل الشوك، ولكن ما أرهب الجلال الذي على جبينه! علّقوه على الصليب فكان الصليب رايةً لإعلان مجده الأدبي والروحي.
صرخوا للحاكم قائلين:
«اصلبه»
أما هو فصرخ إلى الله قائلاً:
«اغفر لهم».
يا لها من كلمة! إنها كلمة محبةٍ في ضوضاء البغضة، وكلمة هدوءٍ في أعاصير الألم، وكلمة صلاحٍ في أروع مظاهر الفجور، وكلمة ثقةٍ، لأن المسيح لم يمُت بيد أعدائه بل مات عنهم. وهي كلمة محتضرٍ في سلطانه مفاتيح الحياة، وكلمة متّهمٍ يُصدِر حكم العفو الملكي، وكلمة ختمٍ عمليّ لما علَّم به من الصفح عن السيئات، وكلمة إنجازٍ لِما هو مكتوبٌ
«إنه شَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ»
(إشعياء ٥٣: ١٢)،
وكلمة عظمةٍ واقتدار في ثياب الضِّعة والضعف. كان عظيماً يوم تكلم بالقوة في سيناء، حيث تقدَّمته الرعود وحفّ به الضياء. ولكنه صار أعظم، يوم تكلم بالحب في الجلجثة وهو مسمَّرٌ على الصليب مثخنٌ بالجراح. فعظيمٌ هو دِينُ العدل الخالي من العفو، ولكن أعظم هو دِينُ الرحمة الغافرة، دِينُ
«دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ»
(عبرانيين ١٢: ٢٤).
«اغفر لهم يا أبتاه»
ما أجمل وأعجب الطلب الذي رفعه المسيح للآب عن أعدائه:
«اغفر لهم يا أبتاه».
إنه طلب نعمةٍ فياضة لغير المستحقين، الذينٍ قابلوا المحسنَ البار مقابلة الوحوش الضارية. وهو طلب حكمة فائقة تتلمَّس العذر للجُناة من محيط وظروف الجناية. وهو طلبٌ عظيم للغاية، لأنه لا يتضمّن طلب مالٍ أو حرية سياسية أو غير ذلك، بل يطلب أعظم شيء في الوجود:
الغفران الذي يؤهّل أصحابه للاشتراك في الأمجاد السماوية! إنه طلبٌ حماسيّ، لأنه لم يتقدّم بعد قرن أو سنة أو يوم، بل تقدم في حال وقوع الذنب نفسه! فهو طلبٌ من طبيعةٍ إلهية، وُضع كمَثَلٍ أعلى لتنسج البشرية المتعصّبة خيوط الصفح على منواله. فإن المسيح لم يمت ليكون فقط كفارة عن خطايانا، بل مات أيضاً ليترك لنا مثالاً نقتفي أثر خطواته. فلنقف صامتين خاشعين أمام المسيح وهو مخضّب بدمائه، رابط الجأش، يرِقّ لأعدائه ويصفح عنهم الصفح كله، لنرى هل ارتفعنا إلى شرف التمثُّل به في الصفح عن أعدائنا ؟
ليت منظر الصليب يذيب قلب الإنسان المتحجّر على أخيه الإنسان، فلا يبقى فينا إلا الصفح والمحبة. ولكن ليكن صفحنا ليس عن بلادةٍ وجمود، كمن لا تؤلمه غضاضةٌ أو يمضُّه هوان. وليس عن سياسةٍ ودهاء، كمن يتحيّن الفرص للانتقام. وليس عن تهذيبٍ إنساني، حباً للظهور بمظهرٍ حضاري. وليس عن استسلامٍ أعمى ينشأ عنه الضرر. وليس عن اضطرارٍ نتيجة الضعف الذي لا يُدفع. ولكن ليكن صفحنا عن رقةٍ في الشعور، مجانياً إطاعة لأمر الله، ومحبةً لخير المذنب، وصفحاً على مثال السيد المسيح وأتباعه الأمناء، كما حدث عندما كان اليهود يرجمون استفانوس وهو يصلي:
«يَا رَبُّ، لا تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ ٱلْخَطِيَّةَ»
(أعمال ٧: ٦٠).
«أعطاني القوة لأسامحك رغم ما عاملتني به من قسوة مخيفة!» وقيل لرجلٍ:
«لديك فرصة سانحة للانتقام من عدوّك».
فأجاب:
«نعم إنها فرصة! ولكن لا لسَلب كرامته أو ثروته أو حياته، بل لسَلب ما يملك من مَيْل رديء!».
وشهد لصٌّ أمام محكمة أنه صوّب بندقيته على عدوٍّ له وأطلق النار. ودنا من النافذة ليرى قتيله، فإذا به يراه سالماً جاثياً على ركبتيه يطلب الرحمة لطالب نفسه. فارتعب اللص ولم يقدر أن يُعيد إطلاق النار، وهرب مذعوراً، ولم يعرف أين هو حتى وقع في يد الشرطة! وهجم الصينيون في حرب البوكسر على أحد المرسلين ليقتلوه، فطلب منهم إمهاله حتى يكتب رسالةً لزوجته يُعرّفها باستشهاده، ويحضّها على أن ترسل ابنه إلى الصين بعد أن يُتمّ دراسته ليُكمل توصيل بُشرى الإنجيل لأهل الصين. ثم قُتل وُطرح للكلاب. ولكن روحه المتسامحة النبيلة أثّرت في أحد الجنود فآمن وصار قائداً مسيحياً مشهوراً.
شكراً جزيلاً للكلام سيكون بقية
شكرك أحبك كثيراً
الرب يسوع المسيح يحبكم
جميعاً فتعال…هو ينتظرك