الله عزاء لعباده
المزمور التاسع والستون

1. المزمور التاسع والستون هو مزمور توسّل وشكوى ينشده المرتّل وتنشده الجماعة المنفيّة في بابل طالبة إلى الرب، أن يخلص المؤمنين أبناء شعبه وأمّته الذين تعاطفوا مع الأجنبي، فتخلوا عن نقاوة العبادة، ومزجوا بين ديانة الآباء وديانة الآلهة الوثنية ليتقربوا من الحاكم من أجل فائدة ماديّة ومعنوية. نرى في هذا المزمور نوعين من الشكوى: شكوى من الشرّ الذي يسبّبه عدوّ خارجيّ، وشكوى من الشر الذي ينتج عن سكوت الله بسبب الخطيئة. هذه هي حالة المؤمن في الضيق، وهذه هي حالة الشعب في منفاه وقد أحس أن ما يلمّ به يأتي من العدو المغتصب ومن سكوت الله بسبب الخطيئة.

2. حبيب الله في الاضطهاد، شعب الله في الاضطهاد.
آ 2- 5: نداء وشكوى: اللهمّ خلّصني. يصوّر المرتّل حالته وكأنه في بئر موحلة. هو يخاف أن يغرق فيها وقد وصلت المياه إلى حلقه، فيتذكّر مياه الغمر حيث يسكن الموتى، ويصرخ منتظرًا خلاص الله. أما سبب هذا السجن فهو اتهام الأعداء له بالسرقة، وقد أقنعوا الحاكم بذلك فجعله في السجن إرضاء لهم.
آ 6- 13: لا ينكر المرتّل أنه إنسان خاطئ، ولكنه لم يقترف خطيئة السرقة هذه. ثم يصوّر حالته وتصرّف الذين حوله: الاقربون رذلوه، والمعيِّرون عيَّروه، وهزئوا بأعمال التقوى التي يقوم بها. وكل هذا بسبب الله، بسبب حبه وأمانته لمجت الله: من أجلك… غيرة بيتك… تعييرات معيِّريك… قضية الله ترتبط بقضية حبيبه.
آ 14- 19: يتوسّل المرتّل إلى الرب لينجّيه من هذه الحالة: استجب لي بكثرة رحمتك وبحق خلاصك، يا من تخلص دائمًا.
آ 20- 29: جاء الأعداء إلى الهيكل وهاجموه من دون أي شفقة. فليعاقبهم الله على أعمالهم الشريرة: لتكن مائدتهم للموت (مزجوا شرابي سما). لتظلم عيونهم (بالعمى) لتُحن ظهورهم. صبَّ عليهم سخطك يا رب… لتصر دارهم خرابًا ولا يسكن في مساكنهم ساكن. وهكذا يطلب المرتّل الرحمة له، وللأعداء الافناء السريع.
آ 30- 37: يتلو المرتّل فعل شكر يستبق فيه الخلاص الذي سيتم له ولشعبه، ويعد بذبح الذبائح التي وعد بها. أما والهيكل مهدوم (هدم سنة 587) فالرب يرضى بذبيحة روحية تعبّر عن الصلاة وعطاء الذات لله، وذبيحة الحيوان رمز لذبيحة القلب والارادة. شكر المرتّل الرب باسم المساكين، وشعبُه شعب المساكين. وشكره باسم الطبيعة: لتسبّح الرب السماوات والأرض والبحار.

هل تبحث عن  تجربة المسيح (3)

3. يصوّر المرتّل خطر الموت المحدق به بصور نقرأها في أشعيا (8: 8) ويونان (2: 6) والمراثي (3: 54: “ورطوا حياتي في الجب ودحرجوا عليّ حجرًا”. ويذكر البئر الموحلة ليلمّح إلى السجن المظلم الذي وُضع فيه. ورغم أن غيرة بيت الرب أكلته، فغيرة الرب عليه ليست قوية. هو يهتم بكرامة الله وهيكله، والله لا يهتم به. بسبب الرب تركه أصحابه وأقرباؤه وتحامل عليه أعداؤه، فمزجوا شرابه سمًا أو سقوه شرابًا مرًا. فليعاقبهم الرب بسبب أعمالهم ولينتقم منهم من أجل صفيّه. فإن مات المرتّل لن يوجد أحد يهتم بمجد الرب وكرامة هيكله.

4. ترد آيات عديدة من المزمور 69 في كتب العهد الجديد. يذكر يوحنا (15: 25) الآية الخامسة: “أبغضوني بلا سبب”. والاية 10 (يو 2: 17): “غيرة بيتك أكلتني” (رج روم 15: 3). ونقرأ الآية 22 في مرقس (15: 36) ويوحنا (19: 29). والاية 23 وما يلي في الرسالة إلى أهل رومة (11: 9- 10). نحن لا نستطيع أن نتلو الآيات 23- 29 وفيها من اللعنات ما فيها، لأنها تتنافى وتعليم يسوع المسيح عن معاملة الأعداء (مت 5: 44؛ لو 23: 34). نحن نفهم أن فيها صرخة إنسان متألم يطلب من الرب أن يتصرّف بحسب الشريعة الموسوية (سن بسن وعين بعين)، ولكننا لا نقبل أن تكون تلك صلاتنا إلاّ إذا نظرنا إليها كإعلان مسبق للدينونة الأخيرة كما ورد في سفر الرؤيا (16: 10): “اذهبوا واسكبوا على الأرض كؤوس غضب الله السبع”.

5. تأمّل
نسمع في هذا المزمور تشكّي البار المضايق وصلاته. من هو هذا “البار”؟ هو أولاً وجه إرميا المحتقر، المهشّم، الذي رموه في جبّ موحل. وهو وجه عبد الله وخادمه الذي حمل في جسده ألم الجميع وخطيئتهم. وهو بشكل خاص وجه يسوع في حاشه وآلامه.
هذا المزمور هو مزمور يسوع، ومزمور الكنيسة التي هي امتداد للربّ، ومزمور البشريّة التي تعرف الظلم والعنف والاحتقار. هو مزمور نستطيع أن نصلّيه اليوم لأنه صورة عن عالمنا.
“خلّصني يا إلهي”. صرخة طويلة من اليأس والرجاء. نحسّ أن هذا الإنسان هالك لا محالة، فيصرخ من أعماق ضيقه كمن يهدّده الغرق. “خلّص حياتي بعد أن وصلت المياه إلى منافسي”. ولكن في هذا الخطر العظيم، يلتفت إلى الله الذي وحده يستطيع أن يخلّصه من الموت.
“أوجعني صراخي وبُحَّ حلقي”. هكذا صرخ يسوع حتى النهاية في تلك الصرخة التي قال فيها: “أنا عطشان” (يو 19: 28). أو تلك الأخرى: “إلهي إلهي، لماذا تركتني” (مت 27: 5). وإذ صرخ صرخة عظيمة أسلم الروح. والكنيسة تصرخ وهي جسد المسيح. وصراخها سيمتدّ في الواقع حتى نهاية الأزمنة.
“إليك صلاتي يا رب”. أحسّ المرتّل أن الله لا يتحرك. أنه يبقى صامتًا. ما عاد يستطيع أن يحتمل. أين هي ساعة العفو والرحمة والغفران؟ أين رحمتك يا ربّ، أين خلاصك؟ صمتك يؤلمني. غيابك يرعبني. وأنا الذي سمع كلامك. وأنا الذي عرف حبّك وحنانك. أمل بوجهك عليّ أقلّه لحظة واحدة. “لا تحجب وجهك عن عبدك”. فوجهك “نور وخلاص” (27: 2). وجهك مقامي الوحيد. أشخاص عديدون يميلون بوجههم عني. وأنت هل تفعل مثلهم؟ إن أخفيت وجهك، فهذا ما لا أستطيع أن أحتمله. “أنا في ضيق. إقترب مني. إفتقدني. تولَّ أمري”.

هل تبحث عن  ربى اجذبنى وراك فأجرى

6. “يرى المساكين ويكونون سعداء”. يؤمنون فيجعلهم رجاؤهم فرحين. يزداد فقرهم أيضًا فيستحقون بأن يُشبعوا. فإن امتلأوا كبرياء، ودلّوا في الخارج على أنهم “امتلأوا”، يُحرمون من الخبز الذي يقيتهم. أطلبوا الرب، أيها المساكين. جوعوا واعطشوا، لأنه الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. أنتم تطلبون الخبز لكي يحيا جسدكم. فاطلبوا الرب لكي تحيا نفسكم.
“الرب استجاب المساكين”. ما كان استجابهم لو لم يكونوا مساكين. أتُريد أن تستجاب؟ كن فقيرًا. يجب أن يصعد من شفتيك صراخ ألم حقيقيّ، لا “قرف” الشبع. “الرب استجاب المساكين وما احتقر الأسرى في القيود”. أغاظه عباده فجعلهم في القيود. ولكن حين صرخوا إليه من ثقل هذا القيود، ما استهان بهم. وما هي هذه القيود؟ هي موت جسدنا وفساده. وإذا أردتهم أن تعرفوا، اسمعوا الكتاب: “الجسد الفاسد ثقل للنفس” (حك 19: 5). من أراد أن يكون غنيًا على هذه الأرض، كان كمن يزيّن قيوده ويحسّنها. حاولْ أن يكون لك ما يبعد عنك الضرورات الملحاحة. حين تطلب “الزيادة” تزيد قيودك ثقلاً. صدّقني: يجب أن لا تزيد شيئًا على سجنك. “فكل يوم يكفي شرّه” (مت 6: 34). من وسط شرورنا نصرخ إلى الله: فقد استجاب المساكين وما استهان بقيودهم. (أوغسطينس).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي