المزمور التاسع عشر (الثامن عشر في الأجبية)
بدأ داود هذا المزمور بالتأمل في عظمة الله التي ظهرت في خليقته، الشمس والنجوم والفلك وخليقة الله تظهر عظمة الله كخالق، فيها نرى يد الله (رو20: 1). ثم رأي داود الشمس تنير العالم كله وحرارتها تصل لكل شئ، فإمتد بصره إلى ناموس الرب فوجد الخصائص متشابهة، فناموس الرب عجيب وهو كامل وينير لنا الطريق ويشهد لله وقادر أن ينشر المعرفة والدفء في قلوب البشر من أقصى السموات إلى أقصائها، وبعد أن وصل داود إلى هذا الحد نظر إلى نفسه ليقارن ما قاله مع حياته. فوجد أن ناموس الرب بالنسبة له كنور شديد يكشف داخل ثنايا قلبه عن الخطايا المستترة التي ربما لا يراها الإنسان العادي الذي لم يتمتع بإشراق نور الشمس داخل نفسه، فصلى ليبرأ منها. إلا أن هذا المزمور أيضاً يفهم بطريقة نبوية عن المسيح شمس البر ورسله الذين نشروا الإيمان في كل العالم، = في كل الأرض خرج منطقهم (وهكذا فهمها بولس الرسول رو18: 10).
الأعداد 1-6
الآيات (1 – 6): –
“1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا. 3لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. 4فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، 5 وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. 6مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا.”.
خليقة الله هي إعلان عن قدرة الله ومجده، وداود يسبح الله هنا على قدرته. والخليقة كتاب نقرأ فيه عن قدرة الخالق ولاهوته، كما أن الناموس كتاب يعرفنا إرادة الله. هناك كلمة للبابا أثناسيوس الرسولي “أن الفنان نعرفه من خلال لوحاته حتى وإن لم نراه” لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ = “فالنجوم لا تتكلم لتشهد أو تكرز باسم الله، ولكن التطلع إليها يصدر صوتاً أعلى من صوت البوق” (ذهبى الفم). وقديسي الله لهم نفس الخاصية فالتطلع فيهم يكفي لأن نرى يد الله التي عملت فيهم، أجاب أحد تلاميذ الأنبا أنطونيوس عليه حين سأله لماذا لا تسألني فأجيبك وقال له “يكفيني أن أتطلع إلى وجهك يا أبي”. والطبيعة فيها شهادة لكل إنسان لعمل الله وقدرته. هذه الآيات (1 – 6) إستخدمت إسم الله = اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، فهو الخالق القدير إله كل الخليقة. أما (الآيات7 – 14) التى تتكلم عن الناموس حيث يعلن الله ذاته لشعبه الخاص، ومن خلال الخبرات اليومية المعاشة مع كلمة الله وعملها، فنجد المرنم فى هذه الآيات يستخدم إسم الرب = يهوه وهو الإسم الخاص بشعب الله فقط. وجمال السموات يدفعنا للتأمل فى جمال خالقها وأنه أروع بما لا يقاس. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ (يُذِيعُ) كَلاَمًا وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل (يُبْدِي) عِلْمًا = توالي الليل والنهار أيضاً يكشفان التناسق والنظام الدقيق الذي يتبعانه، بل لا يعبر يوم إلا ونرى إعلان جديد عن عظمة الله في خلقته. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا = أي في السموات. والشمس في العبرية والأرامية مذكر لذلك تشبه بالعريس (والمسيح دعي شمس البر ملا2: 4). وتبدو أنها مِثْلَ ملك ْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ “الذي يسرع في طريقه” (سبعينية) أي هي تشق السماء في حركتها من الشروق للغروب بسرعة لتؤدي عملها الذي حدده لها الرب فتنير للبشر وتوزع حرارتها عليها وتعطي حياة. الْخَارِجِ مِنْ خدره = (حجلته). “جعل في الشمس مظلته” (سبعينية) التصوير هنا أن الشمس كملك يضرب خيمته (السماء هي خيمة الشمس لفترة ظهورها) وسرعان ما يخلع هذه الخيمة ويرسل إلى موضع آخر بعد أن بعث الدفء، وحددت النهار والليل والصيف والشتاء.. الخ. أي أن الشمس عملت عملها بدقة شديدة. وكل هذا يتم بلا قول ولا كلام. وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ = هو يمثل الشمس بعريس كان نائماً في خدره في الليل، وحينما إستيقظ ظهر = ظهرت الشمس صباحاً. وبدأ العريس يشق السماء ويعمل عمله ثم يعود لخدره في المساء.
ومن الناحية النبوية = فالشمس هي المسيح العريس الذي أتى وحل في جسد (خيمة) أشرق فيها وأشرق على العالم لفترة وجوده بالجسد على الأرض، ليتخذ له عروساً بعمله الفدائي ويعطي حياة ودفء ونور للعالم، المسيح الذي جعل من جسده = مظلته (مقدسه) وخيم بيننا (حلَّ بيننا) (يو14: 1). وصارت الكنيسة هي السموات الحقيقية يسكنها المخلص السماوي، فهي تشترك في التسابيح مع السمائيين ولها حياة سمائية. وكل من سكن المسيح فيه صار سماءً تحدث بمجد الله. ويَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ.. وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل أي دائماً يظهر الله ينابيع محبته تجاه كنيسته ويعطيها علماً ومعرفة. فينطق أولاد الله شهادة لله سواء بكلماتهم أو بحياتهم التي قدسها الله وحولهم أنواراً للعالم.
واليوم يشير للنهار حيث العمل والخدمة، والليل يشير للمساء حيث التأمل والله يظهر لنا ذاته خلالهما، نراه يعمل معنا ونراه يظهر نفسه لنا في تأملاتنا. ليس أقَواْلَ وَلاَ كَلاَمَ = فالكنيسة تشهد لله بحياتها أكثر من كلماتها. والرسل بلغ منطقهم وكرازتهم إلى كل العالم وآمن العالم بالمسيح. وظهر نور المسيح للعالم كله وتمتع العالم بحب الله من أقصى الأرض لأقصاها. ولأن المسيح خطبنا عروساً له قيل في المزمور عن الشمس كعريس خارج من خدره. ومسيحنا هو الشمس التي ترسل حرارتها فتذيب الثلوج التي صنعتها خطايانا ويرسل نوره يبدد الظلمة. ولاحظ قوله يَبْتَهِجُ = فالمسيح ابتهج بعروسه، وباتحادنا بعريسنا نحمل روح البهجة ولاحظ قوله أيضاً أن هذا الْعَرُيسِ جَبَّار = فهو قوي وكنيسته “كجيش مرهب بألوية” (نش4: 6).
الأعداد 7-11
الآيات (7 – 11): –
“7نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا. 8 وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. 9خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. 10أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. 11أَيْضًا عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ.”.
طالما رأى داود بعيني النبوة كرازة الرسل في العالم، وقبول المؤمنين لناموس الرب. يتأمل هنا في ناموس الرب وكماله وهو يَرُدُّ النَّفْسَ = فناموس الرب يكشف للنفس خطاياها ويهب للمؤمنين حكمة. ومن ينفذ الوصايا يلتقي بالسيد المسيح نفسه كلمة الله الذي يغير طبيعته. وكلمة الرب صادقة = شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ = لأنها تشهد عن مرارة الخطية وعن صدق وعود الله بالخلاص. وأوامر الرب تنفيذها لا يسبب كبت وضيق بل هي تُفَرِّحُ الْقَلْبَ وجاء في الترجمة السبعينية أن “وصية الرب مضيئة تنير العينين عن بعد” = أي تهبهما أبعاداً جديدة في النظر، ترفع النظر إلى السماء فنعاين الأشياء غير المنظورة. نامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ لا يضاف إليه شئ ولا ينقص منه شئ. وهو يعلمُ الْجَاهِلَ الحَكِمة = “تعلم الأطفال” (السبعينية) ويكشف لنا طريق العثرات فنحذر منها “سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي”.
خشية الرَّبِّ = أو مخافته، وخوف الرب هنا ليس خوف العبيد بل روح التقوى، الخوف على جرح مشاعر من أحبنا والذي يترفق بأولاده. وحتى لا يفهم أحد أن وصايا الله تأتي بالخوف وتضيع البهجة قال داود أنها أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وأنه يحذر بها وحينما اختبر هذا نال ثَوَابٌ عَظِيمٌ = فصارت له الوصية شهوة قلبه وأنها أثمن من الذهب وأحلى من العسل. لأنه اختبر لذة تنفيذ الوصية. وقال عن كلمة الرب أنها… زكية (سبعينية) = فهي تهب لمن يتبعها رائحة المسيح الزكية. حقاً أولاد الله لا يخافوا خوف العبيد لكن يقول بولس الرسول “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” أفلا نخاف أن نغضب من أحبنا كل هذا الحب، وألا نخاف أن نخسر خلاصاً هذا مقداره وبركات سماوية وأرضية.
الأعداد 12-14
الآيات (12 – 14): –
“12اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. 13أَيْضًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. 14لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي.”.
المرتل هنا وصل للآتي، أن المسيح هو شمس البر، وكلمة الله منيرة تضئ العينين عن بعد، فهو يرى ما لا يراه غيره، وحينما أشرقت الشمس أي نور ناموس الرب داخله رأي خطايا لم يكن رآها من قبل، إزدادت حدة بصره الداخلية فصار يرى حتى خطايا السَّهَوَ، لقد اكتشف ظلمات نفسه، وحينما رأي هذا قال أَبْرِئْنِي. وقال ومِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ أي الشياطين احْفَظْ عَبْدَكَ. فهو ليس له سوى الله فقال له صَخْرَتِي وَوَلِيِّي. فلنسرع إلى الله بالتوبة قبل أن يأتي للدينونة فهو كشمس تكشف خطايانا ولا يختفي من حرارتها أحد ولا من ضوئها أحد، وإن لم نستفد من الأيام الآن التي نحيا فيها، ستأتي أيام يكون فيها المسيح هو الشمس الذي ستشرق في اليوم الأخير ولا يختفي من دينونته أحد.
نصلي هذا المزمور في صلاة باكر لنذكر المسيح شمس برنا ونرجوه أن يشرق فينا فنكون له رسلاً ننشر منطقه في كل مكان نذهب إليه. ونكون كواكب منيرة كما كان الرسل.