المزمور السَّابِعُ وَالعِشْرُونَ

الإيمان بالرب المخلص.

لداود.

“الرب نوري وخلاصي” (ع1).

مقدمة:

1. كاتبه: داود النبي.

2. متى كتب؟ هناك رأيان هما:

أ – عندما كان داود هاربًا من شاول. ويدلل على ذلك ما كتب في عنوان هذا المزمور في الترجمة السبعينية إذ قيل “مزمور لداود قبل مسحه”. ومن المعروف أن داود تم مسحه ملكًا ثلاث مرات؛ الأولى وهو في عمر السادسة عشر عامًا سرًا في بيت أبيه، والثانية عندما ملك على سبط يهوذا في حبرون وكان عمره ثلاثين عامًا، والثالثة عندما ملك على كل أسباط إسرائيل وكان عمره سبعة وثلاثين عامًا (1 صم16: 13؛ 2 صم2: 5: 3) والمقصود بقبل مسحه هو قبل مسحه في سن الثلاثين، أي المرة الثانية. وبهذا يكون داود قد كتب هذا المزمور أثناء هروبه من وجه شاول.

ب – عندما كان هاربًا من وجه أبشالوم ابنه.

3. يناسب هذا المزمور الإنسان البار الذي يواجه ضيقات، أو الكنيسة المتألمة من اضطهادات، فهو مزمور معزى ومقوى لأولاد الله أثناء ضيقتهم.

4. يظهر هذا المزمور الله كحصن حصين لأولاده. وأنه قادر على خلاصهم من كل الضيقات.

5. يوجد هذا المزمور في الأجبية في صلاة باكر، فهو مزمور يشدد أولاد الله في بداية يومهم، عندما يتذكرون قيامة المسيح، فيقومون معه بقوة، ويخرجون لحياتهم بنشاط وثقة.

العدد 1

ع1:

اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟

يشعر داود الذي يؤمن بالله أنه نور حياته، وبالتالي ينقيه من كل ظلمة الخطية، فيترك جميع الشرور. ولذلك عندما يصلى الإنسان هذا المزمور مع بداية فجر اليوم الجديد يشعر أن الله هو النور الحقيقي الذي يضئ حياته.

يشعر أيضًا داود أن الله هو مخلصه من جميع ضيقاته، فلا يخشى أي عدو مهما كان قويًا؛ لأن من يستطيع أن يقف أمام الله القادر على كل شيء، فهي ثقة وإيمان عجيب داخل قلب داود، يعطيه طمأنينة كاملة. ولا يستطيع أحد أن ينطق بهذه الكلمات إلا من اتكل على الله وأخلى نفسه واتضع، فيستطيع أن يشعر بيد الله القوية، التي تقهر جميع الأعداء.

يؤمن داود أن التجاءه لله بالصلاة يشبه دخوله في حصن لا يمكن اقتحامه، فيضحك على أعدائه، فيرتعبون منه، أما هو فلا يخاف، أو يرتعب منهم.

لقد اختبر داود عمل الله في حياته؛ لذلك يقول نورى، خلاصى، وحصن حياتى؛ وهكذا نجده يتكلم بثقة فائقة. ولأنه يتمتع بحضرة الله على الدوام، فبالتالى لا يستطيع الخوف أن يقترب منه.

العدد 2

ع2:

عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا.

يعلن داود أنه تعرض لهجوم من الأشرار، فهو قد اجتاز ضيقات كثيرة وصلت به حتى الموت. ولكنه بثقة يقول أن الأشرار أرادوا أكل لحمى، ولكنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى روحي، فسلطانهم محدود، أي على الجسد فقط. ولذا فهو لا يخاف منهم، كما قال المسيح “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت10: 28).

رغم قسوة الأشرار ومحاولتهم إهلاك داود، لكنهم لم يستطيعوا، بل عثروا وسقطوا، أي فشلوا في محاولة إهلاكه، وأيضًا ظهر ضعفهم أمامه، كما سقط شاول في يد داود مرتين وهو يطارده، ولكن داود عفا عنه ولم يقتله (1 صم24: 6، 1 صم26: 11، 12).

داود عندما عثر أعداؤه وسقطوا أمامه، يرمز للمسيح الذي سقط أعداؤه أمامه عندما أتوا للقبض عليه في بستان جثسيماني (يو18: 4 – 6).

العدد 3

ع3:

إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ.

يظهر إيمان داود في طمأنينته إن هجم عليه جيش، أو قامت عليه حرب. ولم يحدد نوع العدو، أو أسلحته، أو قوته؛ لأنه معتمد على الله القادر أن يغلب أي عدو، أو أي جيش.

هذه الكلمات تنطبق أيضًا على الحرب الروحية، فإن قامت جيوش الشياطين، أو أنواع الحروب المختلفة على الإنسان الروحي، فلا ينزعج قلبه؛ لثقته أن الله أقوى من الشيطان، والله قادر أن يكشف حيله، وله سلطان عليه، فيعطى أولاده النصرة دائمًا.

† ثابر في جهادك الروحي، ولا تنزعج من حروب إبليس، أو كثرة سقطاتك، ففى النهاية أنت تضمن بقوة الله النصرة على الشيطان. تمسك بقانونك الروحي، واتضع أمام الله والناس، فيتحطم إبليس أمامك.

العدد 4

ع4:

وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ.

أتفرس: أنظر بتدقيق، أو أتفحص.

رغم أن داود يعانى من آلام واحتياجات كثيرة وهو مطارد من وجه شاول، أو أبشالوم، ولكنه لم يطلب شيئًا من الله، إلا السكنى والاستقرار في بيت الرب. وهذا يبين بوضوح أنه إنسان روحانى متعلق قلبه بمحبة الله قبل كل شيء.

إن أشواق داود ليست فقط بأن يقدم عبادة لله في بيته، أو يصلى أمامه، ولكن يشتاق قلبه أن يسكن، ويقيم في بيت الرب؛ ليتمتع بالوجود الدائم بين يديه، فهو يعلن احتياجه الدائم لله.

هل تبحث عن  طبيعة

إن جمال الرب الذي يتمنى داود أن ينظره هو الإحساس بحضرته، ومخافته، والشعور بالقداسة والطهارة التي في بيته، فهو لا يقصد مناظر حسنة جميلة في بيت الرب، بل الإحساس بحضرته. فالتفرس ليس في جمال الهيكل؛ لأن داود يعرف جيدًا كل ما في الهيكل، ولكنه يتفحص صفات الله الساكن في الهيكل، مثل القداسة والطهارة؛ ليحيا ويشكر الله على مساندته له في كل حياته، فيزداد تعلقه به.

إن اهتمام داود النبي ببيت الرب ظهر ليس فقط في هذه الكلمات، بل أيضًا عند اهتمامه بإعادة تابوت عهد الرب إلى أورشليم (2 صم6: 1 – 6). وعندما رفض الله أن يبنى داود بيتًا للرب، وقال له إن ابنه سليمان هو الذي سيبنى البيت، أسرع حينئذ ليعد مواد البناء من الذهب والفضة والأخشاب وكل الاحتياجات (1 أى22).

لم تكن عادة الكهنة، أو الملوك السكن الدائم في بيت الرب، ولكن تعلق قلب داود ببيت الرب جعله يتمنى السكن في بيت الرب؛ حتى يحيا مع الله، ويتأمل كل يوم في قداسته، فهو لا يكتفى بتقديم العبادة وإتمام الطقوس الدينية، ولكنه يريد دائمًا، وفى كل يوم، التأمل في جمال الله. وإن لم يستطع أن يسكن في بيت الرب كمبنى يقيم فيه، فعلى الأقل يسكن روحيًا هناك، أي يشعر دائمًا بوجوده بين يدى الله، وهو ساكن في أي مكان.

إن أشواق داود للسكن في بيت الرب لا تقتصر على خيمة الاجتماع، ولكنه يشتاق للوجود في حضرة الله في السماء؛ ليتمتع بالجمال الذي لا يعبر عنه.

إن داود يريد أن يسكن في بيت الرب ليعبده في كل حين؛ لأن المنقطعين للعبادة مثل سمعان الشيخ، وحنة النبية، هم الذين أقاموا في بيت الرب (لو2: 25 – 40) وهذا يبين محبته لعبادة الرب.

إن محبة داود للسكن في بيت الرب، والنظر، والتفرس في هيكله، يعلن ضمنيًا محبته للعبادة الجماعية، فهو وإن كان يحب الصلاة الفردية ويصلى كل يوم سبع مرات، ولكنه يحب أيضًا الصلاة مع إخوته المؤمنين في بيت الرب.

تمنى داود أن يسكن في بيت الرب كل أيام حياته. فهذا يبين أمرين:

أ – محبته الشديدة للصلاة والوجود في بيت الرب.

ب – إحساسه بنورانية الوجود في بيت الرب؛ لذا فقد قال أيام حياتى وليس ليالى حياتى، وهذا يتفق مع بداية المزمور، عندما قال “الرب نورى”، فهو يشعر بالله نور العالم عندما يقف أمامه في هيكله.

العدد 5

ع5:

لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي.

المظلة هي التي يقيمونها أثناء الحرب للملك ليجلس تحتها وسط جيشه، ويحيط به مجموعة من الجنود جبابرة البأس ليحموه. فيعلن هنا داود أن الله هو الذي كان يخبئه، ويحميه في المظلة، مستخدمًا الجنود وهذا يبين مدى رؤية داود لله، وإيمانه بأنه حصنه.

أثناء النهار يكون الحر في الصيف شديدًا؛ لذا يلتجئ الإنسان إلى الخيمة؛ ليستتر داخلها، وفى الشتاء الممطر يختبئ أيضًا فيها من المطر والبرد. وداود يشعر أن الله يستر عليه في الخيمة، بل يستتر أيضًا داود في خيمة الله التي فيها تابوت العهد، عندما يلتجئ إليه بالصلاة فيتحصن بالصلاة في خيمته.

الصخرة ترمز للمسيح، أي الله القوى، الذي لا يمكن اختراقه، فإذ يتحصن فوقها داود لا يستطيع عدوه أن يصل إليه.

إن داود يمثل الإنسان الروحي الذي يتدرج في حياته الروحية، فيختبئ في المظلة، التي تغطى رأسه، ثم يستتر داخل الخيمة حيث لا يراه الناس؛ لأنه داخل أحضان الله. وفى النهاية يصل إلى الصخرة التي يرتفع عليها، وهي الحصن الكامل الثابت، الذي لا يستطيع إبليس أن يخترقه؛ لأن الصخرة ليس لها أبواب، أو نوافذ.

إن المظلة والخيمة ترمزان لتجسد المسيح الذي أخفى لاهوته في جسدنا المتغير بالموت، مثل المظلة والخيمة المتنقلة من مكان لآخر. واختباؤنا، واستنارتنا في المسيح يتم من خلال تناولنا جسده ودمه، فهو يخفى نفسه تحت أعراض الخبز والخمر؛ ليعطينا أكبر قوة في العالم تنصرنا على جميع أعدائنا.

عندما اشتهى موسى أن يرى الله، خبأه في نقرة داخل الصخرة (خر33: 22) وحينئذ تمتع برؤية الله وصار وجهه يلمع. فكل من يلتجئ إلى المسيح الصخرة ينال رؤية الله ومعاينته، أي يختبر الملكوت وهو على الأرض.

عندما عطش شعب الله في برية سيناء، وتعرض للموت ضرب موسى الصخرة، فأخرجت ماء وشرب الشعب. والصخرة كانت هي المسيح، كما قال بولس الرسول (1 كو10: 4) فمن يلتجئ للمسيح يرتوى بعمل الروح القدس فيه.

إن المظلة والخيمة والصخرة ترمز للكنيسة، فالكنيسة مظلة يختبئ فيها المؤمن من سهام العدو، ويستتر في الخيمة من حر النهار، أي التجارب، ويرتفع فوق الصخرة، أي يتمتع بعمل الله فيه.

إن الصخرة ترمز للإيمان القوي الثابت، الذي نتمتع به، إن عشنا دائمًا في المسيح.

هل تبحث عن  أنا أعطيكم ما ينفعكم

العدد 6

ع6:

وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ.

إذ اختبر داود الاختباء في مظلة الرب، والاستتار في خيمته، ثم الارتفاع على صخرته، نادى بإيمان معلنًا أن الله قد رفعه على أعدائه، أي نصره عليهم، وأكرمه كرامة عظيمة. فانتقل من إنسان ضعيف يحتاج للحماية، إلى إنسان قوى بالله ينال كرامة أمام الناس، وينتصر على من يحاول أن يسئ إليه، أي أصبح واثقًا من نفسه، وشاكرًا لله الذي عظمه.

عندما شعر بنعمة الله عليه في النصرة والكرامة، أسرع يقدم الشكر لله في شكل ذبائح السلامة، التي هي ذبائح الهتاف، وهي ذبائح تعبر عن محبة الإنسان لله، وتكون مصحوبة بضرب الأبواق، وتقدم في أعياد معينة. وكذلك الهتاف والأبواق تتقدم الجنود الراجعين المنتصرين في الحرب، لذا فالهتاف يصاحب الذبائح (عد10: 10).

إن ذبائح الهتاف التي نقدمها في العهد الجديد لله الذي ينصرنا في حروبنا الروحية مع الشياطين هي في شكل:

أ – ميطانيات الشكر.

ب – الاتضاع أمام الله والناس.

ج – تقديم خدمات لمن حولنا.

د – تقديم مساعدات للفقراء والمحتاجين.

في النهاية يعلن داود فرحه بالرب بالغناء والترنيم، أي تسبيح الله في بيته، وفى كل مكان تعبيرًا عن شكره لله. وهذا ما نفعله في العهد الجديد في ذبائح التسبيح، وبهذا ننتقل من الذبيحة الدموية إلى ذبيحة الأفخارستيا، التي هي ذبيحة شكر وحمد لله، مصحوبة بتسابيح كثيرة.

† كن ثابتًا في المسيح صخرتك، وتحصن فيه، وأثبت في كنيسته، حينئذ تنتصر على الشياطين، وتحيا في فرح وتسبيح دائم لله.

العدد 7

ع7:

اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي.

يطلب داود من الله أن يستمع صلواته، التي قدمها سابقًا في الآيات التي سبقت، مقترنة بصلوات المؤمنين الذين يرفعون توسلاتهم أمام الله في بيته. فهو يشعر بعضويته في بيت الرب، حتى لو كان بعيدًا عنه بسبب ظروفه.

في اتضاع يقول داود “ارحمنى” أي أنى غير مستحق يا رب أن تسمع صلاتى، ولكنى محتاج، فبرحمتك تنازل واقبل صلواتى لاحتياجى إليك.

العدد 8

ع8:

لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ.

إن داود يقدم طلبة لله من قلبه، أي من أعماق مشاعره وليس فقط بشفتيه. وهذا تعبير عن ارتباط داود بشخص الله وتعلقه به.

الله يتمنى أن نحبه لشخصه، وليس مجرد وسيلة لتحقيق طلباتنا، وداود فهم هذا الأمر؛ لذا طلب وجه الله، أي شخصه لمحبته له. إنه قد انتقل من طلبه معونة الله ضد الأعداء إلى انشغاله بوجه الله؛ لأن التمتع بحضرة الله أحلى من أي شيء في العالم. وبالطبع من يشعر بحضرة الله لن يتركه الله، بل يكفى كل احتياجاته؛ لأن المسيح بنفسه قال “اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره” (مت6: 33) وهو بعد هذا لن يهمل الإنسان، بل يرتب له باقي أمور حياته، ومنها النصرة على الأعداء.

لقد أخطأ داود وندم على خطيته، وظل يعوم سريره بدموعه كل ليلة، ولكن عزاءه – وسط هذه المشاعر الأليمة، ووسط كل ضيقاته – هو تمتعه برؤية وجه الله الذي يعزيه ويشبعه ويفرحه.

العدد 9

ع9:

لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسُخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي.

سخط: غضب شديد.

بينما داود مطارد من شاول ومعرض للموت في أية لحظة، لم ينشغل بهذا عن طلب رؤية الله، فهي حياته التي لا يستغنى عنها.

إن داود يخاف الله، ويظهر ذلك من حذره وخوفه من سخط عدل الله، فهو ليس مستهينًا إن كان قد سقط في أية خطية، ولكنه يحيا دائمًا في مخافة الله ويحترس منها، فيبتعد عن الخطية.

إن طلب داود من الله ألا يحجب وجهه عنه يبين فهمه أن الله يحجب وجهه عن الخطاة، فهو إعلان ضمنى عن توبته، واعترافه بخطيته، ولكنه يرجو رحمة الله أن تسامحه ولا يأتي عليه جزاء خطاياه، أي سخط عدل الله. فهو يعيش حياة التوبة.

إن قول داود لا تخيب بسخط عبدك يبين رجاءه في الله. فرغم اعتراف داود بخطيته، لكن رجاءه ثابت، فيطلب بثقة غفران الله، والتمتع برؤية وجهه.

إن داود تعود أن يكون الله عونًا له، فهو يعيش في عشرة الله؛ لذا يطلب من الله أن يدوم في هذه العشرة ولا تنقطع بسبب خطاياه؛ لأنه يطلب غفران الله ورحمته. ويطلب بالتحديد من الله ألا يرفضه، أو يتركه، أي أنه يؤكد على ضرورة أن يثبته فيه.

إن داود يؤمن أن خلاصه الوحيد هو من الله، وليس له علاقة بأية آلهة غريبة، أو قوة بشرية، فهو يتكل على الله في كل شئ؛ لذا ينال خلاصه دائمًا.

العدد 10

ع10:

إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي.

فيما كان داود هاربًا من وجه شاول لم يكن معه بالطبع أبوه وأمه، بل كان قد وضعهما مع ملك موآب لئلا يسئ إليهما شاول، فهو يقصد حرمانه من رعاية ومساندة أبيه وأمه له، خاصة وأنه يعانى من آلام مطاردة شاول وشره. فهذه المعاناة جعلته يشعر باحتياجه لمساندة الآخرين، وأهمهم الوالدين.

هل تبحث عن  تفسير سفرأرميا - الفهرس

إن الأب والأم يمثلان أهم رعاية ينالها الإنسان، فداود يقصد هنا حرمانه، ليس فقط من الأب والأم، بل أيضًا مساندة الإخوة، والأصدقاء، والأحباء، فهو تعبير عن مدى معاناته واحتماله.

إن كان داود قد حرم من رعاية الأب والأم الجسديين، فإنه يتمتع بقوة برعاية الأب الروحي له وهو الرب، الذي يضمه إلى صدره في حنان، ويشبعه بحبه.

إن الضيقة والحرمان المادي إذا حولهما الإنسان إلى علاقة مع الله يختبر أعماقًا لم يذقها من قبل، فيشعر أن الرب يضمه وهذا معناه:

أ – أنه في أحضان الله، أي يشعر بحبه العميق.

ب – أنه أصبح من خاصة الله وانضم إليه.

جـ – أنه قد اتحد بالله بانضمامه إلى أحضانه.

العدد 11

ع11:

عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَاهْدِنِي فِي سَبِيل مُسْتَقِيمٍ بِسَبَبِ أَعْدَائِي.

طلب داود من الله أن يعلمه طريقه، ويهديه الطريق المستقيم، يبين اتضاع داود وشعوره كأنه طفل يحتاج أن يتعلم كيف يسلك. وبالطبع ينال إرشاد ونعمة إلهية فائضة.

إن شاول – عدو داود – وكل من معه قد اتخذوا أساليب شريرة لمحاولة القبض على داود، فداود يطلب من الله معونة، حتى لا يتأثر أو يقلد طرق الشر، بل يعلمه الطريق المستقيم، المبنى على وصايا الله.

لم يطلب داود طريقًا للانتصار على أعدائه، بل طلب الطريق المستقيم، أي الطريق الإلهي. وما دام سيسلك في طريق الله، فهو يضمن رعايته وحمايته من كل الأعداء. وفوق كل هذا يحتفظ بسلامه ويتمتع بعشرة الله.

العدد 12

ع12:

لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ.

مرام: قصد أو رغبة.

نافث: أي ينفخ ويطلق من فمه السم كالثعبان.

يثق داود في قوة الله، فرغم ضعفه أمام جيوش شاول، لكنه يؤمن بحماية الله وقوته القادرة أن تنقذه من رغبة أعدائه الذين يريدون قتله.

إن إيمان داود يظهر في ثباته وثقته في الله الذي معه، رغم قيام شهود زور عليه وهم التابعون لشاول، الذين ادعوا عليه إدعاءات كاذبة كثيرة، مثل تمرده على الملك، أو رفضه عبادة الله في بيته، أو اتحاده مع أعداء إسرائيل مثل الفلسطينيين، وهذا كله كذب؛ لأنه من عنف مطاردة شاول اضطر أن يهرب داود أحيانًا عند الفلسطينيين، ولكنه مازال متمسكًا بعبادة الله، كما ظهر من الآيات السابقة في هذا المزمور.

إن كان الأعداء اعتمدوا على نفث سمومهم كالثعابين، في الأكاذيب التي أطلقوها، وفى محاولاتهم قتل داود، ولكن داود، من ناحية أخرى، اعتمد على الله القادر أن ينجيه من أيديهم.

العدد 13

ع13:

لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ.

جود الرب: نعمته واحساناته.

وسط الضيقات الكثيرة التي يعانيها داود، آمن بنعمة الله وجوده، وبأنه قادر أن يحل مشاكله.

أرض الأحياء ليس المقصود بها فقط أرضنا التي نعيش عليها، ولكن يقصد بها أيضًا أورشليم السماوية. ففى وسط الضيقات آمن داود أن يعوضه الله عن معاناته براحة وأمجاد في السماء.

انشغل داود بالأمجاد السماوية التي يراها وهو على الأرض أكثر من انغشاله بكل مشاكله، فهذا أعطاه عزاء وسلام وقوة لاحتمال الآلام. فهو منشغل وسط الضيقة بالله، والتمتع بعشرته أكثر من انشغاله بحل مشاكله.

العدد 14

ع14:

انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ.

في نهاية المزمور يخاطب داود كل من يحب الله، بل ويخاطب نفسه أيضًا أن ينتظر الرب أثناء معاناته في الضيقة؛ لأن الرب بلا شك آت. فالإيمان بمحبة الله واهتمامه تريح القلب، فلا يستثقل الضيقة.

إن انتظار الرب يعنى ضرورة الصبر وقبول الضيقة لفترة. فهذا بسماح من الله لمصلحة الإنسان وخيره، فنحن لا ننال الخير إلا بالصبر.

إن الضيقة قد تطول وقد تستمر طوال العمر، فلابد أن ينتظر الإنسان، وعزاؤه هو نعمة الله، التي أشار إليها في الآية السابقة. ولعله لهذا كرر كلمة انتظر الرب في بداية الآية وفى نهايتها.

إن إبليس يرسل مخاوف أثناء الضيقة؛ لتضعف الإنسان، فيستسلم لليأس والاكتئاب ويترك جهاده الروحي، فيناديه داود أن يتشدد ويتشجع؛ لينتصر في الحرب الروحية، ويخرج من الضيقة منتصرًا.

إن داود اختبر هذا الانتظار عمليًا في حياته، فقد مسح ملكًا وهو في سن السادسة عشر تقريبًا، ولم يتملك إلا في سن الثلاثين على سبط واحد، هو سبط يهوذا، ثم في سن السابعة والثلاثين تملك على باقي الأسباط، وقد تمنى وانتظر أن يبنى بيتًا للرب، ولكن الله منعه، وقال له أن ابنه هو الذي سيبنيه، فقبل هذا بشكر من يد الله، وأعد كل ما استطاع لبناء البيت.

† لا تخف من الضيقة، فمنظرها في البداية يبدو صعبًا. ولكن ثق أن داخل مرارتها حلاوة عجيبة، واختبار لله لم تتذوقه من قبل، فثابر في جهادك واثقًا من معونة الله وتعزياته.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي