المزمور التَّاسِعُ والستون
الله مخلص المتضايقين.
لإمام المغنين. على السوسن. لداود.
“خلصني يا الله لأن المياه قد دخلت إلى نفسي…” (ع1).
مقدمة:
1. كاتبه: داود النبي.
2. متى كتب؟
عندما كان داود هاربًا من وجه ابنه أبشالوم، ثم قامت الحرب بينهما، ومات أبشالوم، وقبل أن يرجع داود إلى عرشه. فكان يحيا ويتذكر آلامه التي مرَّ بها ومازال يعانى منها، وهو غريب عن عرشه في أورشليم.
3. هذا المزمور يرنم على السوسن وهو:
أ – لحن خاص.
ب – آلة موسيقية تشبه زهرة السوسن.
4. يعتبر من المزامير المسيانية لأنه يتكلم بوضوح عن آلام المسيح.
5. يتشابه هذا المزمور مع مزمور 22 في الحديث عن آلام المسيح.
6. اقتبس من هذا المزمور آيات كثيرة في العهد الجديد، فهو من أكثر المزامير التي اقتبس منها (مت27: 35، مر15: 24، يو15: 25، ا.
7. تصلى أجزاء كثيرة من هذا المزمور في الصلاة على الراقدين في صلاة الثالث.
8. لا يوجد هذا المزمور في صلوات الأجبية.
العدد 1
ع1:
خَلِّصْنِي يَا اَللهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي.
يشعر داود أن الأحزان زادت عليه، فصارت مثل مياه ارتفعت حتى غطت جسمه كله إلى عنقه وكادت تغرقه. لذا يطلب الخلاص من الله؛ ليرفع عنه هذه الأحداث، إذ كان سبطه يهوذا متقاعس عن إرجاعه إلى عرشه، في الوقت الذي كان ينبغى عليه أن يكون أول الأسباط المهتم بهذا؛ لأن أورشليم تقع في سبط يهوذا، وباقى الأسباط كانت تريد إرجاعه، وأصبح هناك صراع متوقع بين الأسباط وبين سبط يهوذا. كل هذا وداود مطرود غريب عن مدينته أورشليم، وبعيدًا عن تابوت عهد الله، ومتألم بسبب ما فعله أبشالوم به، وخيانة الكثيرين له. لذا طلب من الله أن يخلصه من كل هذه المتاعب النفسية، بالإضافة للمتاعب الجسدية، إذ أنه لا يحيا مكرمًا كملك.
هذه الآية نبوة عن المسيح الذي تجمعت عليه الأحزان في الأسبوع الأخير من حياته، وخاصة عندما كان يصلى في بستان جثسيماني قبل القبض عليه.
هذه الآية نبوة أيضًا عن السبي البابلي، فهذه هي مشاعر اليهود عند سبيهم. وهي نبوة أيضًا عن يونان النبي، فهذه هي مشاعره وهو في بطن الحوت.
العدد 2
ع2:
غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ، وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ، وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي.
حمأة: طين أسود.
السيل: تيار مياه شديد.
يصور داود مدى آلامه كأنه قد غرق في طين عميق، ولا يجد مكانًا تستقر عليه قدماه، بل يغوص بلا نهاية، أي أنه معرض للهلاك. ثم يصور نفسه أيضًا وقد دخل في مياه عميقة، وغطته تيارات مياه قوية، فكاد يغرق، هكذا أيضًا أحزانه وآلامه، خاصة وأنه لا يجد مخرجًا منها ولا سند يستند عليه، ولم يعد أمامه إلا الله مخلصه.
هذه أيضًا نبوة عن المسيح، وهو في الأسبوع الأخير من حياته غارقًا في أحزانه وآلامه من أجل فداء البشرية.
العدد 3
ع3:
تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلهِي.
كلت: تعبت.
يعبر داود عن أوجاعه الكثيرة التي شملت كل أعضائه، فقدماه لا تجد لها مستقرًا كما في الآية السابقة، وكذلك في هذه الآية نجد أن حلقه قد تعب وجف ولم يعد قادرًا على مواصلة الصراخ. أما عيناه فقد تعبت من كثرة التطلع إلى الله، وهو متأنى لا يستجيب. فهذه الآية تعبر عن مدى أحزان داود، وحاجته الشديدة لله. وهي نوع من التوسل والإلحاح على الله ليتحنن عليه.
لعل هذه الآية تصور جزءً من آلام المسيح على الصليب، حيث جف حلقه، إذ قال أنا عطشان، وكلت عيناه وهو يحمل كأس غضب الله عن البشرية، ويطلب أن تعبر عنه الكأس فلا تعبر، وتمم الفداء ليفدينا بحبه العجيب.
العدد 4
ع4:
أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ.
يبين داود كثرة الذين ظلموه، وأبغضوه، فيقول أنهم أكثر من شعر رأسه، وأنهم حاولوا استهلاكه بشرورهم الكثيرة ليتخلصوا منه، وهو في كل هذا مظلوم لم يفعل شرًا، ورد لهم ما لم يخطفه وهو عرش الملك؛ لأن الله هو الذي مسحه بيد صموئيل، وأقامه الشعب ملكًا. أما الذين قاموا على داود فكثيرون يصعب حصرهم، مثل شمعى بن جيرا وأخيتوفل.
تنطبق هذه الآية أيضًا على المسيح الذي قام عليه شعب اليهود والكتبة والفريسيون، وحاولوا اصطياده في أخطاء فعجزوا، ورد ما لم يخطفه، إذ صلب كذبيحة إثم عنا مع أنه لم يخطئ، ورد آدم الذي خطفه الشيطان وأسقطه في الخطية، فأعاده إلى الفردوس.
† إذا كنت تعانى من آلام وأحزان فاعلم أن مسيحك قد تألم قبلًا عنك، وهو غير مخطئ، فاطلب معونته فيسندك، بل ويعوضك عما احتملته ببركات وفيرة.
العدد 5
ع5:
يَا اَللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ.
إن كان داود قد أعلن في الآيات السابقة أنه مظلوم، وتعرض لمتاعب كثيرة، ولكنه يعود فيعترف بحماقته وذنوبه. وليس هناك تعارض بين هذه الآية والآيات السابقة، لأنه لا يوجد إنسان بلا خطية، سواء خطايا إرادية ولو قليلة، بالإضافة إلى الخطايا التي يعملها بدون معرفة وبجهل. وهذا يبين أمرين:
تدقيق داود وتوبته عن كل خطية.
اتضاع داود في إعلان ضعفه بقوله حماقتى؛ لأنه إن كان الله ينسب حماقة لملائكته فبالأولى البشر يسقطون في حماقات مختلفة.
الأعداد 6-8
ع6 – 8:
:
لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوكَ يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوكَ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ. غَطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي. صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي، وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي.
فيما كان داود يتألم ويحتمل آلام الطرد من أورشليم والتعرض للموت أشفق قلبه على كل المؤمنين بالله، والذين يرون في الملك داود قدوة لهم لئلا يتشككوا في طريق البر ويتركوا الله. فهو متمتع برعاية الله له وفى شبع روحي، ولكن بأبوة عجيبة يشفق على أولاده أي شعبه لئلا يعثروا مما يلى:
أ – الخزي والعار الذي غطى داود في هروبه حافى القدمين من وجه أبشالوم، وتعيير الناس له، مثل تعيير شمعى بن جيرا (2 صم16: 7، 8).
ب – عامله إخوته اليهود باحتقار بل بعداوة واعتبروه كأنه أجنبى وغريب عنهم، وقاموا في جيش كبير ليهلكوه هو وكل من معه.
هذه الآيات تنطبق على المسيح الذي احتمل عار وخزى الصليب والاتهامات الزور التي وجهت إليه، ولكنه يطلب من الآب ألا يسمح أن يتشكك كل من ينتظرون المسيا الآتي؛ حتى إذا رأوه في ضعف لا يشكون فيه، بل يتعلمون منه الاحتمال، ومحبة المسيئين.
العدد 9
ع9:
لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ.
إن كان داود مطرودًا من أورشليم لكن قلبه متعلق ببيت الرب، أي الخيمة التي فيها تابوت العهد، وهو يغار على بيت الرب غيرة حسنة ويخشى أن يسئ الأشرار إلى هذا البيت، بل هو مشتاق أن يكون بجوار بيت الرب كل يوم؛ ليقدم عبادة مقدسة لله.
كل من يقاوم الله وامتلأ قلبه بالشر عيَّر داود وقاومه؛ لأنه يسلك بالاستقامة، بالإضافة إلى أن كل من كان يقاوم الله، أو يعيره كان يحزن داود؛ لأن داود تعلق بالله، ولا يريد أن يسئ أحد إلى اسم الله.
غيرة بيت الله أكلت قلب المسيح، فطرد الباعة من الهيكل، وقال “بيتى بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مت21: 13) بالإضافة إلى احتماله تعييرات، واتهامات كثيرة من اليهود والكهنة. كل هذا قبله لأجل خلاصنا وفدائنا.
الأعداد 10-11
ع10 – 11:
:
وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذلِكَ عَارًا عَلَيَّ. جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلًا.
مسحًا: ملابس خشنة تلبس للتذلل أمام الله.
يوضح داود ما احتمله من أتعاب الجهاد الروحي وهو:
أ – البكاء بالصلوات أمام الله تحمل معنى التوبة، وطلب المعونة والخلاص.
ب – الصوم والتذلل أمام الله، ولكن أعداء داود اعتبروا بكاءه وصومه ضعفًا وعارًا، ولكنه لم يهتم بآرائهم، وتمسك بجهاده من أجل الله.
ج – لبس المسوح وتذلل أمام الله بعد سقوطه في الخطية مع امرأة أوريا الحثى، وبعدما ولدت له طفلًا ومرض وتعرض للموت (2 صم12: 16، 17).
د – صار داود لمن حوله مثلًا يستهزئون به واحتملهم. وكان مثلًا ورمزًا للمسيح.
كل هذا يبين مدى أمانة داود في جهاده الروحي، واحتماله تعييرات أعدائه.
هاتان الآيتان نبوة عن المسيح الذي حزن على أورشليم (مت23: 37) وصام أربعين يومًا، ولبس جسدنا فكان له كالمسح، وصار مثالًا للهزء والعار عند صلبه؛ كل هذا احتمله من أجل خلاصنا.
العدد 12
ع12:
يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَابِ، وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ.
بعد أن كان داود الملك الجالس على العرش والقاضى الذي يحكم شعبه، تحول إلى إنسان مطرود من المدينة، يحكم عليه الشيوخ الجالسين بجوار الباب في ساحة المدينة، أي صار في ضعف ومتهم تفحص حالته، مع أنه في الحقيقة برئ، وأكثر من هذا بدأ السكارى يستهزئون به بأغانى مملوءة سخرية.
هذه الآية نبوة عن المسيح الذي اتهمه الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة باتهامات زور كثيرة، وحاكموه في نهاية حياته على الأرض، واستهزأ به الجند السكارى بالخطية، فتطاولوا على رب المجد الذي بلا خطية.
† إن كنت معرضًا للسقوط في خطايا متنوعة، فعلى الأقل قدم توبة بجهاد وتذلل أمام الله، فيرفعها عنك، بل يعزى قلبك، ويعيدك إلى أحضانه.
العدد 13
ع13:
أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى. يَا اَللهُ، بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ اسْتَجِبْ لِي، بِحَقِّ خَلاَصِكَ.
أمام كل الضيقات التي واجهت داود، لم يستطع إلا أن يوجه صلاته لله باتضاع، وتذلل. وهذا ما يطلبه الله ليرضى على الإنسان؛ لأنه يحب المتضعين الصارخين إليه، وتفيض عليهم مراحمه ويستجيب لهم.
المسيح أيضًا صلى في بستان جثسيماني باتضاع وحرارة، ثم قدم ذاته ذبيحة على الصليب من أجلنا؛ كل هذا أرضى الآب، واستجاب له، وقبل ذبيحته، وبموته فدانا ونلنا مراحم عظيمة.
الأعداد 14-15
ع14 – 15:
:
نَجِّنِي مِنَ الطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ وَمِنْ أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ. لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ الْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي الْعُمْقُ، وَلاَ تُطْبِقِ الْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا.
يطلب داود من الله أن ينجيه من الطين حتى لا يغوص ويغرق فيه، ومن المياه فلا يسقط إلى أعماقها، فيغرق. والمقصود بالطين والماء هم الأشرار الذين يبغضون داود، ويحاولون إهلاكه مع إنه برئ. وطلبه النجاة يتضمن أيضًا أن يحفظه الله في البر فلا ينساق مع الأشرار في شرهم. وبالتالي في النهاية لا يدخل في الهاوية وتغلق فمها عليه، أي لا يخرج منها إلى الأبد، فهو له رجاء بالمسيا المنتظر الذي هو قادر أن يخرجه من الهاوية، ويرفعه إلى الفردوس.
تنطبق هاتان الآيتان على المسيح، فيقصد بالطين والماء الخطايا التي حملها المسيح من أجلنا، أي خطايا البشرية كلها، وبسببها صلب ومات، ونزل إلى الهاوية أي الجحيم. ولكن لم تستطع الهاوية أن تمسك به، بل أخرج آدم وبنيه، وكل من مات على الرجاء، وأصعدهم إلى الفردوس.
الأعداد 16-19
ع16 – 19:
:
اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَثْرَةِ مَرَاحِمِكَ الْتَفِتْ إِلَيَّ. وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ، لأَنَّ لِي ضِيْقًا. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا. اقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي افْدِنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ. مضايقي.
يتضرع داود إلى الله ليشمله بمراحمه؛ لأنه يعانى من آلام خطاياه، وآلام مضايقة أعدائه له، فيلح على الله ليستجب له. وهو يشعر بضعفه وعدم استحقاقه ولكن رجاءه مراحم الله.
من شدة ندم داود يترجى الله ألا يحجب وجهه عنه، إذ يشعر أنه خاطئ جدًا، ولا يستحق محبة الله ورعايته، بل يشعر أن الخطية قيدته ومحتاج أن يفكه الله منها، ويحرره، بل يفديه، أي يرفع خطاياه عنه. فهو يؤمن بالمسيح الفادى الآتي في ملء الزمان، ويثق أيضًا أن الله عالم بكل شئ؛ بخطاياه ومضايقة أعدائه له. فيطلب بإيمان منه أن يتدخل ويرحمه ويرفع عنه كل هذه الآلام.
هذه الآيات عن المسيح الذي حمل خطايانا على صليبه، ويطلب من الآب أن يرفعها عنه، معبرًا عن شناعة الخطية، وضيقه منها، كما طلب في بستان جثسيماني أن تعبر عنه كأس الآلام.
الأعداد 20-21
ع20 – 21:
:
الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ، وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ. وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاُ.
علقمًا: نبات شديد المرارة.
يعبر داود عن معاناته من العار الذي لحق به عندما طرده أبشالوم، بل واضطجع مع نسائه على سطح قصره أمام كل الشعب، فكان هذا العار ثقيلًا على داود حتى أنه مرض. وانتظر داود تراجع من أبشالوم، ولكن وجد حتى مشيريه مثل أخيتوفل يقفون ضده، فلم يجد تعزية، ولا مشاعر رقيقة، فمن أجل كل هذه الآلام يطلب مراحم الله.
أما المسيح فكان عار الصليب ثقيلًا عليه، واجتاز المعصرة وحده ولم يجد تعزية، ولا مشاعر رقيقة من أحد؛ بل حتى في عطشه سقوه خلًا ممزوجًا بالمرارة والعلقم. وهذه الآية (ع21) تنطبق على المسيح، وتنطبق رمزيًا على داود، إذ احتمل آلامًا تشبه مرارة العلقم.
† إن الخطية تقيد حياتك فلا تنبهر بجمالها، ولا تنزلق جريًا وراء لذتها، وإن سقطت فيها أسرع إلى الله بتذلل، فهو رحيم، وأب حنون مستعد أن يقبل توبتك ويحررك منها، فتعود إلى بنوتك الأولى لله. تمسك بصلواتك وقراءاتك، وفوق الكل أسرار الكنيسة، فتظل ثابتًا في حرية مجد أولاد الله.
العدد 22
ع22:
لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا، وَلِلآمِنِينَ شَرَكًا.
شركًا: مصيدة أو فخ.
لقد سبب الأشرار متاعب كثيرة للبار فأعطوه مرًا وخلًا ليشرب (ع21)؛ لذا فيقول هنا نبوة عما سيحدث لهم؛ ويقصد اليهود الذين قاموا على المسيح وصلبوه، فتصير مائدتهم فخًا. أي أن خيراتهم تشغلهم، وتبعدهم عن الله. وكما يضع الصياد طعامًا ليسقط الحيوان في شبكته، هكذا إبليس يستخدم مائدتهم وانشغالاتهم المادية لتبعدهم عن الله، ويسمح الله بهذا لأنهم أصروا على خطيتهم، وهي تعذيب البار، والمقصود بالبار المسيح، أو داود الذي يرمز إليه. وفيما هم مطمئنين آمنين يقعون في الشرك.
لقد استعان اليهود بالرومان وسلطانهم فصلبوا المسيح، ولكن الرومان صاروا لهم فخًا، فحاصروا أورشليم ودمروها عام 70 م. وقد أوضح بولس الرسول أن هذه الآيات نبوة عن اليهود الذين صلبوا المسيح (رو11: 9، 10).
إن الكتاب المقدس هو الطعام الروحي، فاليهود لم يفهموا الكتاب المقدس، وكل نبواته عن المسيا، فرفضوا يسوع المسيح، أي صارت كلمة الله لهم فخًا، فقاموا على المسيح وصلبوه. واستمروا في تقديم الذبائح بعد أن أتم المسيح الفداء على الصليب، فصارت مائدتهم، أي مذبحهم الذي يقدمون عليه ذبائحهم، فخًا يبعدهم عن الإيمان بالمسيح الذبيح الحقيقي عنا، الذي ترمز إليه هذه الذبائح.
العدد 23
ع23:
لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ الْبَصَرِ، وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِمًا.
متونهم: ظهورهم.
إن كان البار قد كلَّت عيناه من انتظار الرب بكثرة ما يعانيه من الأشرار (ع3)، فالله يعاقب الأشرار بأن تظلم عيونهم فلا يبصرون، أي يفقدون القدرة على التمييز. فاليهود لم يميزوا أن يسوع هو المسيا المنتظر، مع أنه بعد المسيح لم يظهر نبى واحد في شعب اليهود؛ لأن الأنبياء كانوا يمهدون الطريق، ويتنبأون عن المسيا المنتظر، بل أن عيونهم اظلَّمت ساعة الصليب عندما صارت ظلمة على الأرض كلها.
الإنسان عندما يتعب في العمل يشعر بآلام في ظهره، فيحتاج إلى النوم والراحة، أما الأشرار فتظل ظهورهم في ألم واضطراب دائم؛ لأن قلقهم الداخلي يسبب لهم آلامًا جسدية، وهؤلاء الأشرار، مثل اليهود الذين جلدوا المسيح على ظهره وصلبوه، عاشوا بعد هذا مضطربين.
هذه الآيات قد تبدو أنها تمنى الشر للأشرار، ولكن داود هنا يقرر حقائق ونبوات عن اليهود الذين سيصلبون المسيح. إنه إنذار قبل الحدث بمئات السنين لعلهم يتوبون.
الأعداد 24-25
ع24 – 25:
:
صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ. لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا، وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ.
سخطك: غضبك الشديد.
يتنبأ داود عن اليهود الذين صلبوا المسيح وعن يهوذا الاسخريوطى، وعن الأشرار في يوم الدينونة، فيطلب من الله أن يعاقبهم بغضبه الشديد، ويخرب بيوتهم فلا يكون لهم راحة ولا استقرار. وهذا ما حدث في خراب أورشليم عام 70 م، وكذلك في موت يهوذا ميتة شنيعة. أما يوم الدينونة فالعقاب لا يمكن تخيله من فظاعته. كل هذا ليضع مخافة الله في قلوب الكل؛ ليتوبوا ويرجعوا إلى الله، فيرفع غضبه عنهم.
العدد 26
ع26:
لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ.
سمح الله أن يضرب داود أي يعانى من آلام؛ ليتشدد، ويصير قويًا وقادرًا على حكم وقيادة بلاده كملك. ولكن شاول قام عليه، وطارده وحاول قتله، فشاول بشره حقق مشيئة الله وهي ضرب داود، ولكنه يحاسب ويعاقب على شره. والذين شاركوا داود وهو مطرود من وجه شاول هم أيضًا تعرضوا لنفس متاعب الطرد من وجه شاول ومحاولة قتلهم فهم يتحدثون بوجع، أي بحزن عن كل ما لاقوه من مطاردات شاول لهم.
تنطبق هذه الآية على المسيح الذي سر الآب أن يسحقه بالحزن (أش53: 10) فضربه بحمل خطايا العالم المرة على الصليب. واليهود طردوه من بينهم بمحاولة اصطياده بكلمة، ومحاولة قتله التي انتهت بصلبه. وتلاميذ المسيح وكل تابعيه تعرضوا لآلام واضطهادات كثيرة من اليهود، وهم يحدثوننا بوجع عن كل هذه الاضطهادات، كما يظهر من سفر أعمال الرسل وتاريخ الكنيسة.
الأعداد 27-28
ع27 – 28:
:
اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ، وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ. لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاءِ، وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا.
يطالب داود الله أن يجمع آثام الأشرار الذين يضطهدون الأبرار. إذ أن الأشرار تمادوا في شرهم، وأساءوا ليس فقط للبار، بل لتابعيه.
يطلب أيضًا داود أن يعاقب هؤلاء الأشرار بعدم الدخول في بر المسيح، أي ينالون فداءه، وبالتالي لا يدخلون الملكوت، بل يلقون في العذاب الأبدي. فلا يكتب اسمهم في سفر الحياة، أي لا يكون لهم نصيب مع المسيح، وبالتالي يحرمون من شركة القديسين.
† لا تتهاون مع الشر فإن إلهك طويل الأناة وكثير المراحم وهو أيضًا عادل، ويجازى عن كل فكر وكلمة وعمل شرير. لا تتحدى الله بخطاياك، بل على العكس ارجع إليه بالتوبة والاتضاع فيقبلك. ولا تنزعج من ضعفك فإنه يحب الضعفاء ويساندهم، وينقذهم من كل خطية.
العدد 29
ع29:
أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اَللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي.
بعد كل الآلام التي قابلها داود لم يرد عليها بأية إساءة، فلم يقابل العنف بالعنف، ولكنه احتملها باتضاع ومسكنة روحية، وغطى وجهه علامات الألم والاكتئاب. وعندما قبل هذه الآلام من أجل الله، باركه ببركات روحية كثيرة. أولها مذكور في هذه الآية، وهو خلاصه الذي يرفع داود من آلامه، أي أن داود آمن بالله المخلص، فارتفع قلبه، وعاش على الرجاء. وبالفعل خلصه الله من يد شاول، ثم من يد أبشالوم، ومن يد كل إنسان يريد أن يسئ إليه. ورجاء داود الأكبر كان في المسيح الآتي في ملء الزمان ليرفعه من الجحيم إلى الفردوس. فقد عاش داود على الرجاء، فارتفع قلبه فرحًا.
الأعداد 30-31
ع30 – 31:
:
أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِتَسْبِيحٍ، وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ. فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ.
يستطاب: يصبح تقدمة طيبة يرضى الله عنها.
أظلاف: أظافر.
البركة الثانية التى يهبها الله لأولاده الأبرار المحتملين الآلام من أجله هي أن يسبحوه، ويعظموه، ويشكروه على خلاصه. وهذا التسبيح له قيمة عظيمة في نظر الله؛ لأنه تسبيح رغم ما عانوه من آلام، ولأنهم تذوقوا واختبروا عشرة الله من خلال الضيقة، فسبحوه ومجدوه. وهذا التسبيح قيمته في نظر الله أعظم من جميع الذبائح الحيوانية، والتقدمات حتى لو كانت الذبيحة كبيرة مثل ثور بقر.
الأعداد 32-33
ع32 – 33:
:
يَرَى ذلِكَ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي اللهِ. لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ.
البركة الثالثة التى يهبها الله للأبرار المحتملين الآلام هي الفرح، إذ تبتهج قلوبهم بعشرة الله وعمله فيهم، وإنقاذه لهم من أعدائهم.
أما البركة الرابعة فهى الحياة مع الله، وهم على الأرض، ثم الحياة الأبدية في الملكوت. فهو يهبها لكل من يعانى الآلام، ويلتجئ إلى الله بطلبات كثيرة، فهو يعتبر طلباتهم ويستجيب لها، ويحررهم من عبودية العالم إن كانوا مستعبدين، ومن عبودية الخطية، فيحيون معه، ويتمتعون بعشرته، ومن أسر الجسد، فيخلعونه، وينطلقون بالروح، ويفرحون في السماء. وايضًا كل من تعلق بالله وصار أسيرًا لحبه، مثل بولس الرسول (فل1: 1) ليتمتع بالحياة مع الله.
الأعداد 34-36
ع34 – 36:
:
تُسَبِّحُهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، الْبِحَارُ وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا. لأَنَّ اللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْنَ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا، فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا. وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو اسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا.
البركة الخامسة هى تسبيح الخليقة كلها لله، مشاركة البار الذي احتمل الآلام لأجل الله، فيرى كل الخليقة حوله تشاركه التسبيح؛ السموات وكل ما فيها من ملائكة، والأرض وكل ما عليها من بشر وحيوانات، ونباتات، وكذلك البحار وكل الحيوانات التي تتحرك وتدب فيها، كل هذه تسير في نظامها خاضعة لله، فتنقاد وراء الإنسان المخلوق الأعظم قائد التسبيح لله.
البركة السادسة هى هبة الخلاص لصهيون ويهوذا والساكنين فيها، وذلك من خلال الخلاص الذي يتم في ملء الزمان للمسيح الفادى، حينما يؤسس كنيسته في كل مكان، فيجد أولاده السكن والاستقرار فيها، ويحيون لله، ليس فقط في هيكل واحد في العالم، أي في أورشليم، بل في كل مكان. فالمسيح وإن كان قد خرج خلاصه من أورشليم لكنه ينشر كنائسه في كل العالم، ويسكن فيها الأبرار الذين احتملوا الآلام بشكر وظلوا يطلبون الله، وكل أسرى حبه، كما ذكرنا في الآيات السابقة.
). ويتمتع أيضًا الأبرار الذين ساروا في طريق آبائهم الأبرار بالحياة في الكنيسة، التي هي أيقونة السماء، أو صهيون الجديدة، وأورشليم السمائية.
† إن عطايا الله لك متجددة كل يوم، فأقل شيء أن تشكره وتسبحه، فيفرح قلبك وتتمتع بعشرته، ويتعلق قلبك بملكوت السموات.