رسم أحد المصورين صورة باراباس بعد صدور قرار العفو عنه، وهو يخرج من دار الولاية، ضاحكًا، وقد التف حوله جمع غفير، يحيونه، ويهتفون له، ويمكن لنا تخيل الموكب، وحديث المحيطين به، فمنهم من نسب الحادث كضربة حظ، تأتي في العادة إلى المحظوظين من الناس، الذين تتبدل أوضاعهم من النقيض إلى النقيض، فإذا كان غيرهم يواجه الموت، فإنهم وهم أبناء الموت، يواجهون الحياة والحرية والانطلاق على غير انتظار… وهم سعداء لأن هذا هو الحظ وخبطته في حياة الناس، على أن آخرين ربما قوالوا – على أسلوب خرافي – هذه بركة العيد التي تنقل الناس من الموت إلى الحياة، وتعطيهم الأمل عندما ينقطع كل أمل، ولم يبق إلا الموت ينتظرهم بين لحظة وأخرى! وما أكثر الذين إلى اليوم يذهبون إلى المزارات والأماكن المقدسة، وهم ينظرون هذه البركة التي قد تأتيهم من العيد أو القديسين أو الأولياء!! وربما وجد من قال شيئاً غير هذا أو ذاك، لكن المأساة المؤلمة في القصة كما عرضها المصور، أن باراباس في خروجه إلى الحياة والحرية لم يلتفت لحظة واحدة إلى «البديل» الذي أخذ مكانه في الألم والموت!! وهي المأساة المحزنة التيتتكرر في كل العصور والأجيال والتي أجملها إشعياء في قوله : «ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا» (إش 53 : 4 و5).. ترى هل نعلم جميعنا أننا باراباس الذي أخذ المسيح مكانه على هضبة الجلجثة!! يحسن أن نتأمل القصة ونحن نركز عيوننا على هذه الحقيقة فيما يلي :
باراباس فخر الأب
إن الإسم باراباس يعني ابن الأب، ولقب الأب كان يستخدم في العادة لوصف أعظم المعلمين الدينيين في ذلك العصر، وربما كان أبو باراباس واحدًا من أولئك المعلمين، وأطلق هذا الإسم على ابنه فخرًا وأملا أن يأخذ الابن يومًا من الأيام مكان أبيه أو يحيا على منواله ونهجه، ولعل هذا يصور لنا بيتًا قديمًا من أفضل البيوت وأعظمها وأكثرها غيرة في الحياة الدينية، ويعتقد جيروم وأوريجانوس أن اسمه الكامل هو «يسوع باراباس» والإسم يسوع أويشوع كان شائعًا في ذلك الوقت، وهو حلم الآباء والأمهات أن يتحقق في الابن صورة يشوع القديم منقذ الأمة والعابر بها لتستقر في أرض الموعد، وقد يتحقق الاسم أو العكس على خط مستقيم، وإلى أبعد الحدود في كلا الجانبين، وشتان بين يسوع الذي يدعى المسيح، ويسوع باراباس لو صح أنه كان يحمل هذا الاسم، وما أبعد الفرق الأبدي بين مخلص العالم، وبين إنسان أدخله العالم للأسف الشديد في المقارنة مع السيد، مع أن السماء والجحيم لا يعدان شيئًا بجانب الفرق الأبدي بين الاثنين!! من الحق، أن كل أمريء في الأرض، لم يعط فرصة لاختيار اسمه، ونحن نأخذ أسماءنا كنبوة أو حلم، من آبائنا، يبغون تحقيقه، وفي كل الأحوال نولد ومعنا الرجاء أن نكون خيرًا لهذا العالم بصورة ما من الصور،… كان يومًا مفرحًا ذلك اليوم الذي ولد فيه توم أديسون، والذي أعطى العالم ألف اختراع، وعلى رأسها جميعًا ذلك النور الكهربائي عندما يحل الظلام ويأتي الليل، … وكان يومًا مبهجًا ذلك اليوم الذي ولد فيه جون وات الذي بدأ عصر البخار في المصانع والمعامل والقاطرات، … وكان يومًا عظيمًا ذلك اليوم الذي ولد في الكسندر جراهام بل مخترع التليفون، فإذا صح أن يقال هذا عن الشخصيات العظيمة التيتركت آثارها البعيدة في عالم المادة بين الناس، فهو أصح بما لا يقاس عن أولئك الذين حولوا التيار البشري في اتجاه الحق والخير والحياة والروح…
في وقت يكاد يكون متقاربًا وفي أرض فلسطين ولد ولدان التقيا يوم الصليب، وقد أطلق على كل منهما اسم «يسوع» وكان أحدهما مخلص العالم وكان الآخر للأسف اللص الذي أطلق بيلاطس البنطي سراحه في ذلك الوم، ومع ذلك فالأبدية كلها لا تستطيع أن تعبر الهوة الفاصلة بين الإثنين.
باراباس ومأساة أمة
يعتقد الكثيرون أن باراباس كان واحدًا من حزب الغيورين، الذي نهض لمقاومة الغزاة الأجانب، فهوامتداد لحركة المكابيين، وفي أيام الرومان كان الصراع مميتًا بينه وبينهم، حتى قضى عليهم تيطس الروماني وسحقهم بالتمام عند تدميره لأورشليم، بدأ باراباس، شأنه شأن كل وطني متطرف بفكره، إنقاذ بلاده وشعبه، فلما ضيق الرومان عليهم السبل، تحولوا إلى السلب والنهب وأضحوا من أشر قطاع الطرق، وكانوا سبب مأساة أمة بأكملها!! وهنا مرة أخرى نعود مع الأسف للمقابلة بين يسوع المسيح وباراباس، لقد كان المسيح وجه الأمة المشرق، وكان طريقه طريق السلام والحياة والانتصار لهذه الأمة، لكنها رفضت هذا الوجه، ولبست وجهًا آخر قبيحًا مزيفًا هو وجه باراباس، وجه البعد عن الله، والبحث عن وسائل بديلة للتحرر والانتصار، ومن الغريب أن اليهود إلى اليوم مازالوا يكررون التاريخ بدقة متناهية، ومازالوا يحصدون نفس النتائج التعسة والقاسية والمريرة، مهما امتد نفوذهم في الأرض!!
لقد بدأت هذه الأمة في أيام أبيهاالأول إبراهيم تعتمد على الله، وترى سبيل النجاة الوحيد في الاتكال عليه، وما دخلت معركة أو حربًا استنادًا على قوتها الذاتية، إلا وخسرتها، وما دخلت صراعًا تستند فيه على الله، إلا وخرجت مظفرة، سواء كانت مسلحة أم بلا سلاح على الإطلاق، وخروجهم من مصر، ودخولهم أرض الموعد، وصراعهم الطويل في التاريخ بنجاح، لم يكن إلا لأن الله يقف بجانبهم ويقود معاركهم!! وعندما جاءهم المعمدان في الطريق أمام المسيح، ناداهم بالرجوع إلى الله، أساس النجاة والحياة، وجاء المسيح لا ليبني قوة عسكرية أو سياسية أو اقتصاية، بل ليعبئ الأمة تعبئة روحية، وكان نداؤه الوحيد : «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 4 : 17).. لكنهم رفضوه وبحثوا عن الوجه البديل الذي يعتمد على القوة والعنف والصراع المسلح، وكان لهم ما أرادوا عندما سحقتهم فيالق الرومان تحت الأقدام، وداستهم تحت سنابك خيلها دون أدنى رحمة بطفل أو امرأة، ومن الغريب أنهم إلى اليوم يستبدلون عبادة الله، بالعجل الذهبي، ومنذ ذلك التاريخ الذي نشب فيه الصراع الخفي بين أبيهم يعقوب ولابان حول المال، مازال هذا الصراع المادي بألوانه المتعددة في علاقاتهم بالعالم الذي يريدون أن يحكموه بالسيطرة الاقتصادية في كل مكان من الأرض، كان باراباس قاتلاً، ولصًا وهما الصفتان القبيحتان للوجه المزيف للأمة الإسرائيلية، عندما رفضت وجهها الصحيح يسوع المسيح!! كتب أحدهم أسطورة عن مولد طفل غريب الشكل كبير الرأس ثقيل الجمجمة، وقد قال الأطباء إنه لا ترجي له حياة، إلا أنه مع ذلك رغم شذوذ تكوينه عاش، وكان يعاني مشقة كبيرة في سيره لاختلال توازنه، وما أكثر ما كان يتدحرج على الأرض، وهو يصطدم بهذا أو ذاك من أثاث البيت، وعوضاً عن أن ينزف دمًا، كانت تتعلق بشعرات رأسه ذرات من ذهب، وأخيرًا تبين والداه أنه يملك دماغاً من ذهب بدلاً من النخاع والأعصاب، وعنى والده به عناية فائقة، وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، كشف له والده السر وأماطا اللثام عن الكنز الذي فيه والذي منحته إياه الأقدار، فأبرقت أساريره، وعلى الفور عصر بيده جمجمته وانتزع قطعة من ذهب وهبها لوالديه مكافأة لهما على عنايتهما به وحنانهما عليه، ورعايتهما له!! ثم أخذ يرتاد مختلف الأماكن وهو ينتزع من رأسه الذهب في سبيل الشهوات والمسرات، ودارت عجلة الأيام ووقع في حب فتاة هام بها، فبدأ ينفق عليها بسخاء منتزعًا من رأسه الذهب حتى كان المنجم أن ينتهي، وفجأة توفيت فاتنته فاحتفل بجنازتها احتفالاً رائعًا وأسرف غاية الإسراف، وعندما فاق لحاله كان يسير كالمجهول في الشوارع، وقد ضاع منه الذهب، وأعوزته أشياء كثيرة ولم يجد ثمنًا لها، أو بديلاً عنها!!
هذه أسطورة ولكنها يمكن أن تكون تصويرًا لليهودي صاحب الدماغ الذهبي، ومع ذلك فهو لا يعرف راحة أو قراراً، حتى ولو جمع مال العالم كله بين يديه!!
ومن المناسب أن نلاحظ أن باراباس ابن أبيه أو فخر أبيه لم يصبح بين يوم وليلة قاتلاً ولصًا، ولكنها طريق الخطية، طريق الانحدار في القصة البشرية، وعندما يبدأ الإنسان قصته مع الخطية فهو لا يعلم قط إلى أى منحدر ينتهي!! ... وجد أحدهم شابًا منهكًا متعبًا، فقال له ما بك؟ فأجاب : بعض الصداع.. فقال له : عندي ما يريحك!؟ وأعطاه شيئًا تناوله فاستراح!! وكان كل ما يحس التعب يأخذ منه!! وزادت حاجته وطلب منه المعطى الثمن! وابتدأ الثمن يتزايد! وعندما جاءه ذات يوم يطلب وليس معه الثمن، قال له : أسرق أو أقتل!؟ والنتيجة معروفة نراها في قصص المؤمنين أو الذين يبدأون ثم ينتهون إلى الإدمان، فالخطية دائمًا تنتهي بصاحبها إلى القيود والضياع!! وكان باراباس لصًا!!
باراباس والاختيار البشع
لم يكن بيلاطس يتصور قط وهو يضع باراباس والمسيح في كفتي ميزان أمام الجماهير أنها ستفضل باراباس، إذ أن هذا التفضيل كان حسب تصوره، وحسب تصور أي إنسان، يخلو من كل عقل وإدراك وتفكير ومنطق، ولكن من قال إن الإنسان يعيش بالعقل والمنطق، قد نضحك مع اسحق نيوتن عندما كان مستغرقًا في التفكير العميق، وكان يجلس إلى جوار موقد أحس بحرارته المتزايدة التي تمتد إلى جسده بكيفية لا تطاق، فدق الجرس بشدة، فحضر الخادم سريعًا وإذ به يقول له : انقل النار بعيداً أيها الغبي قبل أن تشويني!! فأجابه الخادم : ولكن يا سيدي لماذا لم تحرك كرسيك بعيدا عنها؟ فابتسم الفيلسوف وقال : حقًا لم يخطر هذاعلى بالي!! ولكن الفلاسفة والمجانين في الأرض يتساوون في فقدان المنطق في اختيار الكثير من أوضاع الحياة!! فالحروب التي تدمر الغالب والمغلوب معًا، مازالت هي السائدة في منطق البشر حتى ليقال إن العالم لم يهدأ من الحرب طوال ألفي عام أكثر من مائة وثلاثين عاماً، كما أن إقدام الناس على إدمان المسكرات والمخدرات وهم يعلمون ضررها المؤكد على كل شيء عندهم، شاهد على اختيارهم الأحمق غير المنطقي على الإطلاق!! فإذا وقفنا على ربي التاريخ، وتأملنا الجنس البشري، وهو يختار الشر أكثر من الخير، والرذيلة أكثر من الفضيلة، والهدم أكثر من البناء، والانتقام أكثر من الإحسان والمساعدة والمعونة، عرفنا لماذا هتفوا يوم الصليب، ليس هذا بل باراباس، وكان باراباس لصًا.
على أنه إذا كان الاختيار يعوزه المنطق السليم، فإن من الواضح أن سببه الحقيقي هو الحقد الرهيب على يسوع المسيح، الحقد الذي أصدر الحكم مسبقًا، وذهب إلى بيلاطس لا ليناقش القضية، بل ليتمم التنفيذ، وأتعس ما في القضاء البشري أن يصدر الحكم، ثم يبحث له عن الحيثيات والأسباب بعد ذلك، لموءامة الحكم المنطوق به وتبريره، وعندما يقدم الإنسان على ذلك، فإنه يتحول وحشًا دونه كل الوحوش، وقد كان اليهود في ذلك اليوم هكذا، وجاء وصفهم الأبدي في لغة النبوة : «أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا على أفواهم كأسد مفترس مزمجر كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي. يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي….لأنه قد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي. وهم ينظرون ويتفرسون في . يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون. أما أنت يارب فلا تبعد. يا قوتي أسرع إلى نصرتي. أنقذ من السيف نفسي. من يد الكلب وحيدتي. خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحوش استجب لي» (مز22 :12 –12).. عندما نذكر قصة الذئب والحمل على مجرى الغدير، والذئب يتهم الحمل بتعكير الماء رغم أن الذئب في المنطقة الأعلى والتي تأتي من عندها الماء، ويذكر الحمل ذلك، على أنه إذا أفلت من هذا الاتهام، فإن تهمًا أخرى تلاحقه، فإذا لم يكن هو المذنب، فلابد أنأباه كان المذنب، وما إلى ذلك من اتهامات، مما يستحيل معه الإفلات من النية المبيتة، نية القتل مع سبق الإصرار!! عندما نذكر هذه القصة لا ينبغي أن ننسى قط أنها حدثت على أبشع صورة في التاريخ، عندما وقف حمل الله أمام ذئاب اليهود في مدينة أورشليم وهم يصيحون : ليس هذا بل باراباس وكان باراباس لصًا! وهنا لا ينبغي أن ننسى أن هذا الاختيار البشع يكشف إلى أبعد الحدود عن تقلب الجماهير وتبدل مواقفها، من النقيض إلى النقيض، نحن لا نستطيع أن نتهم الذين هتفوا عند الدخول الانتصاري قبل ذلك بأيام خمسة، وهم يصيحون : أوصنا مبارك الآي باسم الرب بأنهم هم جميعهم قد انقلبوا بين عشية وضحاها إلى الهتاف المضاد : «أصلبه» لكننا لا نستبعد أن بينهم من هتف في الحالين، وتقلب على الوضعين، وتغير مع المتغيرين، فهذه، في العادة طبائع الجماهير التي لا يجوز الاطمئنان إليها بحال من الأحوال، ولقد وصفهم أمير الشعراء شوقي :
يا له من ببغاء عقله في أذنيه
وقد قيل عن نابليون عندما استقبله الشعب بحماس يفوق الوصف، وأبدى بعض الواقفين إلى جواره ذهولهم من روعة الاستقبال وعظمة التحية! أنه قال : تمهلوا قليلاً فقد يرمونني مرة أخرى بالطين والطماطم والبيضالفاسد! ومن العجيب أن السيد المسيح كان شديد الحذر من انفعال الجماهير وتقلبها في شتى الاتجاهات، ومن ثم قيل عنه : «ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجًا أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان» (يو 2 : 23 – 25).
ومن المحزن أن هذا الاختيار يتحدث إلى جانب هذا كله عن بشاعة الجحود البشري، … نجحت طبيبة مرسلة في إنقاذ حياة طفل وثني أشرف على الموت، فما كان من أبوي الصبي إلا أن أنحنيا عند قدمي المرسلة ليعبداها كإله، فأسرعت هي وأنهضتها وقالت لهما : أنا بشر مثلكما، اشكر الله. فقال لها : لابد أن تكون إلهًا، لأنه لا يمكن أن ينقذ ابننا هذا سوى إله. فقالت المرسلة : افترضا أني أرسلت لكما مع خادمي هدية جميلة!! هل تشكرني أم تشكران الخادم، فأجابا : نشكرك أنت ولا شك.. فأجابت : هكذا مع الله، لقد كنت أنا الخادم الذي قدم الشفاء الذي أرسله الله إلى إبنكما.. أشكرا الله!! … آه لو علم اليهود أن المسيح الذي قدموه إلى بيلاطس، لم يكن هو عبد الله وخادمه الذي حمل إليهم كل خير في الأرض!! بل كان الله الذي أخذ صورة عبد، وهو يصنع معهم كل إحسان.. لما قالوا : ليس هذا بل باراباس وكان باراباس لصًا.
وهل يمكن أن يمر هذا الاختيار البشع دون أن يحصد نتيجته الرهيبة التي مازالوا اليهود إلى اليوم يعانون منها في كل أقطار الأرض، … كتب د.م. كرستي كتابًا عنوانه : «عندما يواجه اليهود المسيح» وتحدث في الكتاب عن قصة يهودي اسمه الحاخام أفرايم، كان يقيم في إقليم طبرية بالقرب من بحر الجليل وكان أحد معلمي الناموس، وتزوج من ابنة كبير الحاخامين، وكان يبغض المسيحيين أشد البغض، على أنه حدث أن طرأ على ذهنه هذا السؤال : لماذا سمح الله بخراب الهيكل عام 70 م وتشتيت اليهود، لم تكن الوثنية هي السبب، كذلك لم يكن السبب نقص الغيرة على الناموس، فقد كانوا متعصبين لله وللناموس، قال إنه لابد من وجود خطية فظيعة خلف هذا الأمر، وفي أحد الأيام حدث، كما ذكر هو فيما بعد، أنه سمع صوتًا واضحًا يقول له : كف عن كراهيتي، أحبني وأنا أعطيك السلام، وأدرك أن هذا هو صوت المسيح، فآمن بالمسيح، واكتشف اليهود ارتداده عنهم، فاضطهدوه أشد اضطهاد، وأحاطوا به ذات مرة، وكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة، وانهالوا عليه ضربًا وكادوا يمزقونه إربًا، وفي مرة أخرى حبسوه في غرفة قذرة دون طعام، ومع كل الاضطهادات بقي أمينًا لسيده، وقد تعمد في الناصرة، وأبعد اليهود عنه زوجته وأولاده، ومرت سنوات وهو يعاني أشد الظروف وأقساها، على أنه نجح في ربح بعض اليهود إلى المسيح، وبقيت غيرته معه إلى آخر حياته، وفي الليلة التي انطلق فيها قال أحد المسيحيين العرب ممن حضروا ساعة انطلاقه : «إني أحسست بحضور الله في المكان» وذهب الرجل إلى سيده عن أربعة وسبعين عامًا في أغسطس عام 1930 . ترى هل يعلم الإنسان أن الاختيار بين المسيح وباراباس مازال إلى اليوم قائمًا وما يزال يحمل نتائجه البعيدة العميقة الأثر!!
باراباس والبديل العظيم
على أنه مهما تكن قصة باراباس، ومغزى الاختيار البشع الظاهر فيها. إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن باراباس اللص المجرم الآثم، وجد البديل العظيم الذي أعطاه الحرية والحياة، من حيث لا يتوقع!! وقبل أن نرفع الأحجار لنرمى الرجل بها، علينا أن نتأكد من أن كل واحد منا باراباس في مواجهة المسيح!! وهل نمتاز عن اللص القديم في شيء؟ لقد جاء حمل الله الوديع ليأخذ مكاننا في القصاص والعدالة الإلهية، أقام السير ريتشارد ويتنجتون لهنري الخامس ملك الإنجليز في الجولد هول وليمة فاخرة لا تباري وكان في المكان مدافيء تتقد فيهاأخشاب عطرة جدًا لها أريج يفوح في كل جوانب القصر، ولكن ذلك الأريج، ازداد وتلك الرائحة قويت عندما طرح صاحب الوليمة سندات دينه على الملك، وكانت ألوفًا كثيرة من الجنيهات الاسترلينية، في النهار، وقد قيل إن الملك عندما أبصر هذا المنظر بكى وهو يقبل الرجل.. لقد محا المسيح الصك الذي كان علينا وأخذ مكاننا كالبديل العظيم على هضبة الجلجثة!!
وفي الحقيقة لا يجوز لإنسان أو شعب أن يفتخر أمام السيد!! يعتقد اليابانيون أنهم أبناء السماء، وقال سسل رودس إن أعظم شعب رآه العالم إلى اليوم هو الشعب البريطاني، ووجد بين الأمريكيين من قال : إن الله بدأ من الأسفل وصنع القردة المعروفة بالغوريلا، ثم صنع الشمبانزي، وبعد ذلك صنع الهمجي المعروف بالهوتنوت، وبعده المكسيكي ثم الهندي الأحمر، فالياباني، وصنع في طينة أنظف الألماني فالاسكتلندي فالإنجليزي!! وآخر الكل صنع الأمريكي ورأى أنه حسن!! والحقيقة إن جميع هؤلاء من طينة واحدة، وكلهم باراباس، حتى جاء المسيح بديلنا الأعظم الذي نغني أمامه أغنية شارلوت اليوت العظيمة :
كما أنا آتي إلى فادي الورى مستعجلاً
إذ قلت نحو أقبل يا حمل الله الوديع
يارب إني مجرم فليغسلن قلبي الدم
إني إليك أقدم يا حمل الله الوديع