إذا عدنا إلى ليتورجية المجمع في يوم كيبور (يوم التكفير) وجدنا أن مز 103 هو مزمور توبة يتسجّل في خط مز 102. نحن هنا في كلا الحالين أمام نص جاء بعد المنفى فتأثَّر بالقسم الثاني من سفر أشعيا كما تأثّر بسفر أيوب. مع اختلاف بسيط وهو أن موضوع التوبة لا يرد في إطار رثاء بل في إطار شكر وبركة.
اللفظة الأساسيّة في هذا المزمور هي فعل “بارك” مع حركة نازلة وحركة صاعدة. نازلة حين يبارك الله الانسان. وصاعدة حين يبارك الانسان الله فيقول له: مبارك أنت يا الله. فحين يبارك الانسان الله يعيد إلى الخليقة الارتياح الذي تمنحه المباركة التي نالها.
تبدأ هذه المباركة في آ 1. يتكلّم فيها الشاعر إلى نفسه، فيدعوها إلى أن ترفع آيات الشكر من أعماق ذاتها. قد نكون هنا أمام تلميح خفيّ عن شفاء سيذكره في آ 3، وهو شفاء سيجعله إنساناً جديداً.
تألّفت الصلاة من قسمين. الأول (آ 2- 9) يشير إلى حالة فرديّة. والثاني (آ 10- 17) يشير إلى شعب إسرائيل. وكل من القسمين يبدأ بواقع حصل للمؤمن فيستخلص منه نواميس تصرّف الله مع شعبه. يحدّثنا القسم الأول عن الغفران الفرديّ. والثاني عن الغفران الجماعيّ.
ترتدي الخطيئة على المستوى الفردي وجهة المرض، فيصبح الغفران شفاء. أفلت المؤمن من أعماق الهاوية، فوعد بأن لا ينسى ما صنعه الله من أجله، بأن لا ينسى كيف عمله وهو يتجاوز كل ما كان ينتظره. ولا يعود الخاطىء الذي غُفرت خطيئته إلى حياة هي موت “مؤخّر”. بل يعود بملء قامته ليحمل حنان الله تاجاً. بعد أن شبع ملء الشبع، لن يحسّ بخسارة بسبب الوقت الذي أضاعه. فهو يبدأ إنطلاقة جديدة قوّتها قوّة نسر شاب.
وعملُ الله هذا يدلّ على عدالته. والعدالة تضمّ دوماً الخلاص. وممارسة عدالة الله لا تتعارض مع غفرانه، بل هي تفترضه.
ومع الغفران الفرديّ هناك الغفران الجماعيّ. فالنعمة التي ينالها الفرد لا تنفصل عمّا يناله الشعب كله. وكل غفران يناله المؤمن يدخل في سلسلة “غفرانات” إله العهد وأعمال رحمته من أجل شعبه. وغفران الله لا يدلّ على ضعفه، بل هو انتصار حبّه. فمن لا يعرف أن يغفر لا يستطيع أن يتجاوز الردّ الآلي الذي يحرّكه عمل شّرير. ولكن يهوه هو إله لا إنسان (هو 11: 9). وهو يسيطر على إساءة أصابته، فيرميها في أعماق البحر (مي 7: 19). وهكذا يدلّ الله على سلطة يمارسها على الأرض من أعلى سمائه. وهذا ما يمنح حبّه وعدالته قوّة لا يفوقها شيء.
هذا المزمور هو نشيد لحبّ الله. وهو تعبير عن عرفان جميل الخاطىء تجاه عظمة حبّ الله الذي يحنو عليه كما الأب على أبنائه.
هذا هو نشيد حمدنا في هذا الصباح، يا ربّ
هذا هو مديحنا، نذكر فيه ونعدّد كل ما فعلته لأجلنا من الخير
هذا هو مزمور شكرنا عمّا أحسنت به إلينا وما أنعمت
هذا هو موضوع افتخارنا أمام عظمتك وأفضالك والمكارم.
نشيدنا صلاة كل واحد منا، بعد أن أعطيته صحّة النفس وعافية الجسد
نشيدنا صلاة الجماعة التي أبنتَ لها حنانك ومراحمك
نشيدنا تعبير عن عرفان الجميل لأنك غفرت خطايانا
نشيدنا شهادة حقّ أمام الآخرين، فيوجّهون إليك قلوبهم بالمحبة كما وجّهناها نحن.
باركي يا نفسي الربّ، ويا كل أحشائي اسمه القدّوس.
باركي يا نفسي الربّ، ولا تنسي جميع حسناته.
أدعو نفسي، أدعو الجماعة، أدعو الشعب ليباركك يا ربّ
أدعو ملائكة السماء المقتدرين ليباركوك معي ويشاركوني في مديحي
أدعو الأرض وكل ما فيها، فتدلّ بوجودها على البركة التي أغدقتها عليها
أدعو كل شيء ليرفع لك مديحاً مملوءاً بالحبّ من أجل ما تفضّلت به علينا.
أنت أب لنا، ونحن أبناءك، ولكن ننسى ذلك مراراً، يا ربّ
أنت غمرتنا بإنعامك، ونحن ننسى الأمور الصالحة، ولا نذكر يدك البيضاء
نحن نعتاد أن نتنعّم بما أعطيتنا، وننسى أن كل عطيّة صالحة هي من لدنك يا أبا الأنوار.
نحن ننكر جميلك، ولهذا نحتاج أن نتذكّر ولا ننسى
فأعطنا أحشاء تشعر، وقلباً يحبّ، وعقلاً يتذكّر
أعطنا أن نكون معك يا ربّ، ونرتبط بك
فنحن بالنسبة إليك كالنهر الذي يغتذي من الينبوع والشجرة من الأرض.
يغفر جميع ذنوبي، ويشفي جميع أمراضي.
يفتدي من الهاوية حياتي، وبالرحمة والرأفة يكلّلني
يشبع بالطيبات جوعي، فيتجدّد كالنسر شبابي.
منك العافية وصحّة الجسد، فالشكر لك يا رب
منك المغفرة وارتداد النفس، فالحمد لك يا ربّ
إن وصلتْ بنا الأمور إلى الهاوية وحافة القبر، فأنت تعيد إلينا الحياة
إن وصلت بنا الأمور إلى اليأس والقنوط، فأنت تعيد إلينا الأمل والرجاء.
جوعنا أنت تشبعه، يا طعام كل حيّ
وعطشنا أنت ترويه، يا مياه الحياة التي لا تنضب
العتيق فينا يصير جديداً، والبالي يتجدّد
يكفي أن نقترب منك، فيتجدّد شبابنا، أنت الأزلي الذي لا يشيخ ولا يموت
فالشكر لك يا الله والحمد لك.
الربّ يجري العدل، ويقضي لجميع المظلومين
عرّف موسى طرقه وبني إسرائيل أعماله
الربّ حنون رحوم، صبور وكثير الرحمة.
أنت الربّ العادل، أنت تقضي بالانصاف
لو كنتَ تحابي الوجوه، لنظرتَ إلى القويّ والغنيّ والكبير
ولكنك تهتمّ باليتيم والأرملة، ولا تنسى الغريب والمظلوم.
أنت الربّ الحنون، أنت الربّ الرحوم
إذا غضبت أمام الخطيئة والخاطئين، فغضبك لا يدور طويلاً
فأنت تصبر وتطيل أناتك علينا، يا أرحم الرحماء
تعاقب إلى الجيل الثاني أو الثالث، ولكنك ترحم إلى أجيال وأجيال.
هذه هي طرقك، هذا هو سلوكك بين البشر
هذا عرفه موسى في العهد القديم وأنشده لنا في الوصايا
وعرفه بنو إسرائيل وهم الذين خطئوا إليك يوم عبدوا العجل الذهبي
سمعوا صوتك: الربّ إله رحيم وحنون، طويل الأناة، كثير الرحمة والوفاء
يحفظ عهده لألوف وألوف، ويغفر المعاصي والخطايا.
الربّ لا يخاصم على الدوام، ولا إلى الأبد يحقد.
لا يعاملنا حسب خطايانا، ولا حسب ذنوبنا يجازينا.
كارتفاع السماء عن الارض ترتفع رحمته على خائفيه.
كبعد المشرق عن المغرب يبعد عنا معاصينا.
كرحمة الأب على بنيه يرحم الرب أتقياءه،
لأنه عالم بجبلتنا وذاكر أننا تراب.
حياتي الخاصة يا ربّ، قسم من حياة شعبي
والخلاص الذي انتظره، هو جزء من الخلاص الذي تمنّ به على الكنيسة
فلا خلاص إلاّ بابنك يسوع، ولا خلاص يصيب الفرد إلاّ ويصل إلى البشرية جمعاء.
عهدك يا رب مع موسى هو عهدك مع أفراد شعبك
عهدك مع يسوع وفي شخص يسوع، يربط بينك وبين المؤمنين في كنيستك
لا عهد جديد كل يوم، بل عهد وحيد
بدأ منذ القديم واكتمل في يسوع المسيح
وهو ما زال حاضراً وحياً فينا إلى الابد.
عهدك هو عهد الرحمة والنعمة، وخلاصك هو خلاصنا من الموت والخطيئة وكل شرّ.
رحمتك يا رب تمتدّ في الزمان والمكان، وحنانك لا حدود له
إن قابلناهما بما عند البشر لما استطعنا ذلك
فرحمتك أرفع من السماء، وحنانك أوسع من الارض
تمتاز رحمتك عن رحمتنا، كما تمتاز السماء عن الارض
ويبعد حنانك عن حناننا، بعد المشرق عن المغرب.
أنت أب يا ربّ تحب أبناءك، أنت ربّ يرحم أتقياءه وخائفيه
أنت تعرف ذنوبنا وتعلم ضعفنا
أنت لا تنسى أننا جُبلنا من التراب، وأننا لا نقدر أن نفعل شيئاً بدونك.
فلا توبّخنا دائماً وتخاصم، ولا تغضب علينا إلى الابد وتحقد
لا تجازنا بحسب ذنوبنا، لأن ذنوبنا ظاهرة أمامك
لا تعاملنا بحسب خطايانا، لأنه لا يبرّ أحد أمامك
إرحمنا كما يرحم الأب ابنه، وترأف بنا كالأم ترأف بابنها.
الانسان كالعشب أيامه، وكزهر الحقل يزهر.
تعبر ريح فلا يكون، ولا يُعرف موضعه من بعد.
رحمة الربّ من الأزل والى الأبد على خائفيه.
عدله لبني البنين، للذين يراعون عهده، ويذكرون فيعملون بأوامره.
بينك وبيننا، بين الله والانسان، المسافة شاسعة يا ربّ
بين قدرتك يا الله، وضعفنا نحن البشر، أبعاد لا حدود لها
بين نعمتك يا ربّ، وخطيئتنا نحن البشر، لا جامع مشترك إلاّ رحمتك.
الانسان تراب، الانسان رماد، وأنت الكائن الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر
الانسان عشب تزول أيامه، وزهر تلفحه الريح فيذبل
وأنت ثابت يا ربّ، من الأزل إلى الأبد
الانسان خاطىء وخطيئته أمامه كل حين
وأنت رحوم، ورحمتك لا تفارقك، فهي تمتد من الازل إلى الأبد
الشكر لك يا ربّ، الشكر لك.
أنت تنظر إلى المظلومين، فتغيثهم وتنجّيهم من يد ظالميهم
أنت تنظر إلى الخطأة، لتغمرهم برحمتك وتفتح لهم كنوز نعمك
أنت تنظر بعين الرضى إلى الذين يتّقون اسمك ويخافونك
أنت تنظر بعين الرضى إلى الذين يحفظون عهدك، ويذكرون وصاياك ويعملون بها
أنت أب يا رب، ولهذا تهتمّ بالخطأة والأبرار، بالاشرار والصالحين.
عرش الربّ ثابت في السماء، وملكوته يسود على الجميع،
باركوا الربّ يا ملائكته، أيها المقتدرون المطيعون أمره عند سماع صوت كلامه.
باركوا الربّ يا جميع جنده، يا خدّامه العاملين ما يرضيه
باركي الربّ يا جميع أعماله في كل مواضع سلطانه.
باركي يا نفسي الربّ.
أنت الاله العادل، أنت الاب المحب، أنت الرب الرحوم
أنت ملك وملكك دائم، أنت رب تسود على الجميع،
أنت ملك وعرشك ثابت في السماء، ومن هناك تسود على سكان الارض
الملائكة في السماء يباركونك، والخلائق على الأرض يمجّدون اسمك.
أنت الله الذي يعاقب، وأنت الاله الذي يحبّ ويرحم
أنت ترحم، ورحمتك تتغلّب على عدلك
أنت تحبّ، ومحبّتك تجعلك تنسى قداستك فتغفر لنا خطايانا
أنت عظيم يا رب، وعظمتك تنحني على من جبلتهم من تراب
أنت أب يا ربّ، وأبوّتك تقرّبك منا نحن أبناءك.
تجلّت رحمتك علينا، يا إلهنا ومخلّصنا، وظهر حبك من أجلنا نحن البشر
خلّصتنا، لا بسبب برّنا وأعمالنا الصالحة، بل برحمتك وحنانك
غسلتنا بماء العماد وجدّدتنا،
وأفضت علينا الروح القدس بواسطة ابنك يسوع
برّرتنا وقدّستنا بنعمتك، فصرنا في الرجاء وارثين الحياة الأبدية
الشكر لك يا ربّ، الحمد لك يا ربّ.
يا غنياً بالمراحم، يا من أحببتنا حباً عظيماً في ابنك يسوع
كنا أمواتاً في خطايانا، فأحببتنا مع المسيح وخلّصتنا بنعمتك
كنا أمواتاً فأقمتنا وأجلستنا في السماء في يسوع المسيح
في كل ما فعلت أظهرت غنى لأجلنا في يسوع المسيح
الذي به يليق لك المجد والشكر الآن وكل آن وإلى الأبد