التجول الكرازي والوصول إلى لسترة:
+ ومرة أخرى سارا فوق الجبل نحو مدينة عند طرفه الآخر هي مدينة لسترة. ويبدو أنهما وصلاها في يوم عيد لأن المدينة كانت مزدحمة إلى حد أن بولس وقف يتكلم في ميدان عام. ووسط المستمعين تركّز انتباهه على عينين مليئتين بالتطلع صاحبهما أعرج. وإذ وجد خلفيهما القلب المتفتح قال بصوت عظيم: “قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِبًا” فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي (أعمال 14: 8- 10). وذهل الحاضرون ذهولًا جعلهم يصرخون: “إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا“. ولشدة اقتناعهم بهذا أطلقوا على برنابا اسم “زَفْسَ” وعلى بولس اسم “هَرْمَسَ“(1). وزادوا على ذلك أن أتوا بثيران ليذبحوها تقدمة لهما وبأكاليل من الورود ليضعوها على رأسيها لولا أن الرسولين منعاهم.
+ ولكن بالسرعة تقلب الإنسان! فما كاد بولس يتحدث عن بطلان الأوثان وعن الله الواحد خالق السماء والأرض حتى أخذت نفوس سامعيه في الغليان. وأخذوا يصرخون ضدهما. فتراكض نحو الساخطين جمع غفير من الأزقة الجانبية. وفي لحظة انهالت عليه الحجارة وسقط على الأرض وهو مغمض العينين، ولكن ذهنه كان ما زال صاحيًا وعاد به اثنتي عشر سنة إلى الوراء ليرى رجمًا آخر. ثم اختفت الصورة إذ فقد وعيه. وظن راجموه أنهم قضوا عليه فجروه إلى خارج المدينة على أنه ما كاد التلاميذ يحيطون به حتى أفاق وقام ودخل معهم المدينة!
+ وما أعجب تعامل الله مع الإنسان! فرجم استفانوس قد أعطى الكنيسة بولس المجاهد العظيم؛ ورجم بولس يأتي إليه تيموثيئوس الذي جاهد معه إلى حد أن دعاه الرسول الكبير “ابنه”. ثم غادر الرسولان لسترة في اليوم التالي إلى دربة فأيقونية ومنها إلى أنطاكية. فاجتمعا بزملائهما القدامى: “سِمْعَانُ الَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ“، و”وَلُوكِيُوسُ الْقَيْرَوَانِيُّ“، و”مَنَايِنُ” الذي تربّى مع هيرودس. وهنا نعجب مرة أخرى: فاثنان تربيا معًا كان أحدهما قاتلًا للمسيحيين وثانيهما كارزًا بالسيد المسيح. وسرد الرسولان عليهم كل ما فعله الله وكيف أنه فتح بابًا للأمم. على أن ثلاثتهم عبروا عن توجعهم من رجال أتوا إليهم من أورشليم ونادوا بأن من لا يختتن لا يخلص.
+ ووضح للكارزين وجوب ذهابهما إلى أورشليم لأن المعركة احتدم أوارها . كانت معركة من أجل الحرية فصمم بولس على خوضها إلى النهاية. أنه لن يرضى إطلاقًا بأن يجّروا الذين آمنوا من الأمم تحت نير الناموس. ولن يرضى مطلقًا بأن تصير المسيحية مجرد شيعة يهودية. فأعلن تحديه جهارًا – هذا التحدي الذي كرره فيما بعد: “فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ” (غلاطية 5: 1) مؤكدًا أن الناموس لم يكن سوى مؤدبنا إلى المسيح.