بولس والولادة الجديدة
بولس والولادة الجديدة

خرج بولس من أورشليم إلى دمشق والمسافة تقطعها الخيل فى ستة أيام ، وإذ اقترب من ختام رحلته عند بقعة يدعوها التقليد الصالحية ، جاءه المسيح ، ومس قلبه ، وأحدث التغيير الهائل الكامل فى قلبه ، وهو ما نطلق عليه الولادة الجديدة !! .. ولعل دراسة حياة بولس لا يمكن أن تفهم على الإطلاق ، دون إدراك هذا التغيير العميق العجيب الذى حدث فى حياته !! فكيف تم ؟!، إننا عندما نحلله بتأمل وعمق من واقع أقوال بولس وإحساسه ، يمكن أن نخرج بعدة حقائق أساسية ، … ولعل أولها : اكتشاف بولس الصحيح للخطية ، قبل أن يلتقى بالمسيح ، ويعيش معه، ويدرك الحقيقة بعينى مخلصه ، .. كان يرى نفسه بلا لوم فى الناموس ، وهو إذا قورن بغيره سيتفوق فى حياة البر والصلاح ، وقد لا يوجد له نظير ، لكنه عندما عرف السيد صاح : « صادقة هى الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا . لكننى لهذا رحمت ليظهر يسوع المسيح فىَّ أنا أولا كل أناة مثالا للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية » ( 1 تى 1 : 15 ، 16 ) .. ومن العجيب أن الإنسان كلما نما فى حياة القداسة ومعرفة الرب ، كلما أدرك حقيقة الخطية وبشاعتها فى الأرض ، .. قال صموئيل رزرفورد : « كلما تأملت حالتى الخاطئة كلما أدركت أن خلاصى هو معجزة مخلصى الكبرى . إنه لم يفعل شيئاً فى السماء أو على الأرض مثل خلاصى !! .. » وروى يوحنا بنيان قصة حياته تحت عنوان « النعمة المتفاضلة ليوحنا بنيان أول الخطاة . هلم واسمعوا فأخبركم ياكل الخائفين اللّه بما صنع لنفسى » … قالت القديسة تريزا فى ضجعة الموت : « لا تتخذونى مثالاً فقد كنت اعظم امرأة خاطئة فى العالم » .. ثم صاحت متضرعة إلى اللّه : « القلب المنكسر والمنسحق يا اللّه لا تحتقره » .. وقال لوثر : إن إنساناً مثلى عندما يتبين ضربة قلبه ، فإنه لا يكون بائساً فحسب ، بل هو البؤس بعينه » .. وبكى الأسقف أندروز وهو يقول : « إنى معجون بالخطية»… وقال يوناثان إدوارد « إذا تعامل اللّه معى حسب خطاياى ، فمثواى الجحيم » … كان من المستحيل على هؤلاء القديسين قبل اللقاء مع المسيح ، اكتشاف خطاياهم بهذه البشاعة وهذه الصورة المفزعة ، ولكن الحياة التى هربت من الظلام ، وتطهرت من الخطية ، لا يمكن أن تنظر إلى ماضيها أو إلى صراعها مع الخطية دون أن يصدر عنها هذا التوجع والأنين !! .. لقد اقتنع بولس بعمق الخطية ، والهوة التى أخرجه منها السيد . كما أدرك بولس الحقيقة الثانية : وهى التغيير المفاجئ الذى حدث له لحظة لقائه بيسوع المسيح ، … ومن اللازم أن نبين أن هذه اللحظة الحاسمة ، كانت أشبه ببرميل من البارود ينتظر الفتيلة المشتعلة ، حتى ينفجر فى توهج وينسف معه شر الماضى كله ، … وإذا صح ما يقوله أوغسطينوس إن تجديد بولس يرجع إلى حد كبير إلى منظر استفانوس وهو يرجم الذى لم يبرح مخيلته ، أدركنا معنى القول إنه « يرفس مناخس » ، إذ كان يعانى صراعاً نفسياً قاسياً ، وكان « ينفث تهدداً وقتلاً ، كما ينفث المرجل من شدة الغليان . .» …..
على أبواب دمشق بلغ ذروة الصراع ، كان يركض بحصانه وهو يقترب من المدينة ، ولم يكن يدرى أن هناك من يركض وراءه وقد عبر عن ذلك تعبيراً دقيقاً : « أدركنى أيضاً المسيح يسوع » ( فى 3 : 12 ) … والتجديد فى الحقيقة هو سعى المسيح وراء كل نفس بشرية ، حتى يمسك بها ، ويوجه مسارها ، وللسيد فى ذلك أساليب لا تنتهى .. قال الكتاب : « فبغتة أبرق حوله نور من السماء » ( أع 9 : 3 ) .. لقد ظهر له المسيح فى نور أبهى من الشمس وقد رأى الذين معه النور ، ولكنهم لم يروا شخص المسيح ، وسمعوا الصوت ، ولكنهم لم يعرفوا الكلام على أن السيد تكلم بالعبرانية ، ولو لم يتكلم لبدا ما حدث مبهما لا يقود إلى معرفة ، والسيد لم يتكلم فحسب ، بل أكثر من ذلك تحدث حديثاً خاصاً موجهاً إلى شاول بالذات إذ نادى « شاول » باسمه مرتين حتى لا يحدث لبس أو إبهام . وكم كان الحديث قوياً ودقيقاً ورقيقاً ورهيباً معاً ، فلم يصعقه ، وإن كان قد أسقطه على الأرض من فوق الجواد الذى يركبه ، بحركة قوية تكشف له عن قوة سيده وعن مبلغ ضعفه هو ، ومع ذلك يقول له : « لماذا تضطهدنى » ، وهنا يندمج المسيح مع أتباعه حتى ليبدو أن اضطهاد أصغرهم هو اضطهاد له هو ذاته كما يبدو هنا أيضاً الوضع مقلوباً إذ لا يمكن أن يكون المضطهد إلا من كان أقوى وأقدر ، وقطعاً لم يكن شاول هو الأقوى .. قال مارتن لوثر للراهب الطيب ستوبتز : إن اللّه غاضب علىَّ ، فأجابه الراهب : كلا بل أنت غاضب على اللّه ، … هذا هو الوصف الصحيح لشاول ولوثر وأنا وأنت قبل أن يدركنا المسيح . على انه وقد أدرك بولس ، أصابه بالعمى المؤقت ، حتى يدرك أن ما حدث لم يكن وهماً أو خيالا ، وليتح له فرصة أوسع للتأمل ، وإذ فقد بصره فتحت بصيرته ، وأيضاً ليعطى له ولحنانيا برهاناً على تدخل المسيح فى حماية أتباعه ، وهكذا دخل شاول دمشق وقد تغير وضعه واتجاهه وأهدافه وكل شئ فى حياته ، إذ قد ولد جديداً ، .. وكل واحد منا عليه أن يعلم بأن المسيح يتبعه فى الطريق . وقد مر اسبرجن أمير الوعاظ فى طريق دمشق عندما استمع ذات يوم إلى رسالة ألقاها صانع أحذية حطم فى كلامه كل قواعد اللغة ، ولكنه أمسك بصيد عظيم ليسوع المسيح . كانت الآية : « التفتوا إلىَّ واخلصوا ياجميع أقاصى الأرض” (إش 45 : 22) وقال اسبرجن شعرت كما لو أن غمامة قد تبددت من أفق حياتى فرأيت االشمس ساطعة ، وذهبت إلى بيتى أكاد أرقص طرباً … سأل أحدهم أدونيرام جدسون : لماذا أصبح مرسلا !!.. وقال الرجل : إنه لم يفكر فى ذلك .. ولكن الحقيقة هى أن المسيح هو الذى فكر وقلب حياته بجملتها !! .. وهو يفعل هذا بوسائل عجيبة تغير اتجاه الإنسان وتقلبه رأساً على عقب ، .. أو بتعبير أصح تعيد وضعه المقلوب ، الذى قلبته الخطية إلى الوضح الصحيح ! قد تكون عظة كما حدث مع سبرجن فتغير تاريخه ، وقد تكون نظرة إلى شجرة عمل فيها الذبول رآها الأخ لورنس، ففزع عندما تصور حياته مثل هذه الشجرة دون أثمار ، واتجه إلى المسيح ، ليكون كشجرة مغروسة عند مجارى المياه . التى تعطى ثمرها فى أوانه ، وورقها لا يذبل ، وكل ما يصنعه ينجح » ( مز 1 : 3 ) .. قد تكون ترنيمة ، أو مجرد قراءة بعض الأعداد من كلمة اللّه قرأها القديس أوغسطينوس وهو يسمع صوت صبى يقول فى حدائق ميلان افتح واقرأ ، ففتح كتابه وإذا به يقع على العبارة القائلة : « هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم . فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا . قد تناهى الليل وقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور . لنسلك بلياقة كما فى النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد ، بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات » ( رو 13 : 11 – 14 ) .. ومهما كان الأسلوب فإنه الطريق الذى يسلكه المسيح حتى يدركنا ويغير اتجاهنا ومسارنا كما فعل مع الطرسوسى القديم !! ..

هل تبحث عن  إقبَلْ يا ربُّ من ضُعفنا هدايانا الوضيعة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي