الدوافع الوحشية خلف الاتهام
لم يكن هناك أدنى شك عند بيلاطس ببراءة المسيح من التهم الموجهه إليه، «وقال لهم، قد قدمتم إليّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قداكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضًا، لأني أرسلتكم إليه. وها لا شيء يستحق الموت صنع منه» (لو 23 : 14 ، 15) ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أدرك بيلاطس الدافع الآثم الشرير خلف الاتهام : «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسدًا» (مر 15 : 1).. والحسد في العادة يورث الحقد البالغ والذي لا أمل في علاجه أو البرء منه… لم تتسع الأرض لأول أخوين. فقتل قايين أخاه هابيل، لأنه حسده، ولم يستح أخوة يوسف حتى تحولوا وحوشًا – وهم لا يدرون – لأنه حسدوا أخاهم، وغمسوا قميصه في الدم، وهم يظنون أنهم قضوا عليه إلى الأبد بدافع الحسد، وفقد شاول راحته عندما سمع الأغاني التي غنتها بنات إسرائيل لداود الذي أصبح بطلاً بالقضاء على جليات! وكم من ملايين الجرائم ارتكبت منذ القدم، ومازالت ترتكب إلي اليوم في السر والعلن، وخلفها الدافع الوحشي دافع الحسد، ومن المتصور أن يفعل الحسد كل شيء، وفي قضية المسيح بلغ اليهود أقصى درجات الرياء، عندما تباكوا أمام بيلاطس لأن المسيح يقول إنه ملك، وهم لا يعترفون إلا بملك واحد هو قيصر، وهو نفاق ما بعدهنفاق، من أناس عاشوا طوال عصورهم يتمردون على الرومان وعلى كل ملك أجنبي!!
التحذيرات العديدة لبيلاطس
ولم يترك الله بيلاطس دون تحذيرات متكررة كان من واجبه أن ينصت إليها، ويتنبه لها، ولعل أولها جميعًا وجه المسيح أمامه، ولعلنا ذكرنا عند الحديث عن يهوذا الاسخريوطي، ما قاله تشارلس لأم عندما سئل عن أي شخصية تاريخية يود أن يراها، وكل جوابه : يهوذا الاسخريوطي، وعندما تعجب السائل قال : أريد أن أرى الرجل الذي أطل على وجه المسيح ومع ذلك استطاع أن يخونه!! ونحن بدورنا نتعجب كيف استطاع بيلاطس أن يرى الوجه الوديع الحنون الحزين الذي يقف أمامه في صمت، دون أن يهتز ويتأثر!!… لا شبهة في أن منظر المسيح هزه من الأعماق، على ما سنرى فيما بعد، عندما حاول الهروب من مسئولية صلبه!! ومن الواضح أن بيلاطس رأى الفارق الرهيب بين وجه قيافا ووجه المسيح. وبين وجوه اليهود الممتلئة بالشر والخسة والغدر وحب الانتقام، ووجه المسيح الصامت العجيب الكامل الحب والصبر والوداعة، ورواية الإنجيل تشجعنا على ملاحظة أن بيلاطس انفرد بالمسيح مرتين في أثناء المحاكمة وكان بيلاطس يتمنى أن يسمع دفاع المسيح عن نفسه، ولكن صمت المسيح النبيل السامي كان أبلغ من دوى الأرض كلها، لو زلزلت زلزالها.. على أنه لم يكن الصمت وحده أبلغ من كل كلام!! بل إن المسيح أخذ الرجل ليقف قليلاً داخل دار الولاية، فعندما سأله بيلاطس : هل هو ملك، نقله السيد إلى ما وراء ملك قيصر وروما والأرض كلها، إلى المملكة الخالدة العظيمة التي يتربع على عرشها، مملكة الحق، التي ستبقى عندما تنتهي ممالك الأرض جميعًا، والمرء مهما يكن أحساسه بالمنظور وبقوته المادية، فإنه عندما يقترب من العالم الأعظم غير المنظور يفزع ويضطرب، كما سبق لبيلشاصر وهو يرى الأصبع التي تكتب على مكلس الحائط، إزاء النبراس، وقد فزع بيلاطس، وهو يقترب من هذا الشخص العجيب الذي يقف أمامه، والذي كشف بشخصيته ومعجزاته وأعماله الخارقة، عن ارتباطه بعالم آخر أعظم وأسمى وأجل!! فإذا كان هذا التأثير قد بدأ أمامه كالنور اللامع الخاطف، إلا أن التحذير تضاعف وأضحى حقيقة مخيفة عندما خرجت زوجته على المألوف والعرف بعدم الاتصال بالقاضي وهو يحكم في قضية ما، ولكنها أرسلت تحذره بكلمات مرعبة مرهبة : «إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله» (مت 27 : 19) وقد اختلف الناس في تصوير ذلك الحلم وكيف كان، فأحد المصوريين صوره في صورة أبدعها وفيها نرى المرأةتقف في شرفة واسعة تحدق في الفضاء البعيد، وإذا بها ترى مواكب الأجيال المتعاقبة تسير وفي مقدمتها المسيح حاملاً الصليب، ومن ورائه الأثنا عشر تلميذًا، فالكنيسة في العصر الرسولي والعصور الأولى بأبطالها بوليكاربوس وترتليانوس وأثناسيوس وغريغوريوس وفم الذهب وأوغسطينوس، وخلفهم الكنيسة في العصور الوسطى والصليبيون في ملابسهم الزاهية ووراءهم كنيسة العصر الحاضر وملايين لا تعد ولا تحصى من البشر، وتحف بالجميع كوكبة هائلة من ملائكة الله، وتدهش زوجة بيلاطس إذ ترى الصليب يتحول شيئًا فشيئًا حتى يضحى كوكبًا جميلاً باهرًا يملأالسماء ويفيض بأنواره المتلألئة على الكون… على أن هناك من قال ولعله الأقرب إلى التصور أنها أبصرت الدينونة، وقد انقلبت الأوضاع وجلس المسيح على كرسيه يدين الشعوب، وإذا ببيلاطس يأتي أمامه مرعوبًا مرتعدًا مصفدًا! على أي حال لا يمكن لأي إنسان أن يحاكم المسيح،ويصلبه، قبل أن يرسل الله إليه العديد من التحذيرات.
محاولة الهروب من الحكم
حاول بيلاطس الهروب من مسئولية الحكم بمحاولات متعددة دون جدوى، لقد ظن أنه يمكنه الهروب لو حكم بعدم الاختصاص، فمع أنه كان في خصومة وعداوة مع هيردوس، لكنه عندما سمع عن المسيح أنه جليلي حوله هيرودس بدعوى، أنه المختص بمحاكمته، وما أكثر ما يحاول الناس الهروب من المأزق بالحكم بعدم الاختصاص، وقد يفلح هذا الدفع في الكثير من القضايا الأرضية، ولكنه لا يفلح على الإطلاق مع يسوع المسيح، لقد ألقى بيلاطس الكرة في مرمى هيرودس، لكنها عادت إليه مرة أخرى، ولم يستطع بيلاطس أو هيرودس التخلص من اللقاء الشخصي بيسوع المسيح، بل من العجيب – كما قال أحدهم – إن مسرحية الصليب جمعت بين الجميع، وكان على كل واحد أن يلعب دوره في هذه المسرحية، دون أن يزعم بأنه لا علاقة له بها!!
“أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب، إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت، إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني يديك وتمسكني يمينك” (مز 139 : 7 – 10) فإذا لم يفلح الحكم بعدم الاختصاص، فلا بأس من الحكم بعقوبة أخف ولكنها ظالمة ومن غير مبرر، ليجلد البريء جلدًا قاسيًا، لعل هذا يكفي اليهود ويجعلهم يتخلون عن الحكم عليه بالموت، والعدالة لا ويمكن أن تعالج بأي ظلم، حتى ولو كان ظلمًا أقل ضررًا أو فداحة من الظلم الآخر، والخطأ لا يمكن أن يصحح بأي نوع من الأخطاء، ولكنها الحماقة البشرية التي تتصور أنه يمكن الهروب من الشر الأقسى بشر أقل، فإذا لم يفلح هذا أو ذاك، فلا بأس من المساومة على استبدال البريء بمجرم، وفي تصوره أنهم لابد سيفضلون المسيح على باراباس، وحدث العكس، وإلى اليوم مازال يحدث، فكم فضل الناس المجرمين والأثمة والأشرار واللصوص، وهم يسلمون المسيح، ويحكمونعليه بالهزء والجلد والصلب في أسوأ مبادلة تحدث في حياة البشر!!
الذات سر التورط في الحكم على المسيح
كان بيلاطس يعلم تمامًا أن له سلطانًا أن يطلق المسيح أو أن يصلبه، بحسب المفهوم البشري، إذ هو ممثل الإمبراطورية، ويملك الحكم باسمه وتحت سلطانه، لكن بيلاطس مع ذلك كان عاجزًا عن اتخاذ القرار الصحيح، وهذا يرجع إلى ماضيه الممتلئ بالشر والعنف والشدة والفساد، فقد أثار ضده اليهود في أكثر من مناسبة، كان المقر الرسمي للرومان في قيصرية وليس في أورشليم، وذلك لأن اليهود كانوا يعتبرون المدينة مقدسة، ولا يجوز أن يوضع فيهاأي رسم أو شعار وثني، وكانت العادة أن الرومان عند دخولهم المدينة ينزعون صورة الإمبراطور أو النسر الروماني، تجنبًا لإثارة اليهود الذين كانوا يعتبرون أي شيء من هذا القبيل تدنيسًا للمدينة وكسرًا للوصية الثانية من الوصايا العشر، على أن بيلاطس أراد كسر القاعدة،وقد ظن أنه بالتهديد يمكن أن يبلغ مأربه، ولكن ثورة عارمة قامت، وظلت تهتف في قيصرية خمسة أيام ضد الصور والتماثيل التي أدخلها إلى أورشليم، وأحس بأنهم على استعداد أن يموتوا جميعًا دون أن يتراجعوا،
فتراجع ورفع ما أدخل إلى المدينة، مما يكرهون!! وفي محاولة ثانية بني خزانًا للمياه من أجل أورشليم، ولكنه أخذ النقود من خزانة الهيكل فأثار ثائرتهم، ولاحقوه بالشكاوي.
وكان بيلاطس وهو يحاكم المسيح شديد الانزعاج بعد أن خلط دمهم بذبائحهم في الواقعة المشار إليها سابقًا، لئلا يرسلون سفارة وراءه إلى روما أو بعثة يمكن أن تجعلهموضع المحاسبة والمحاكمة!! كانت خطاياه القديمة أغلالاً في عنقه تمنعه من التصرف الصحيح!!
على أن المأساة تكمن في الأسلوب السياسي الذي عالج به قضية عادلة، والسياسة في حد ذاتها يمكن أن تكون صادقة وسليمة، لكنها في أغلب الحالات تتمشى مع الأهواء والنزاعات والميولالتي تعطي القرار الآثم الشرير!! وقد تذبح العدالة تماماً على مذبح السياسة، وترتكب أشر الجرائم تحت تبرير من مختلف الدوافع الوطنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو ما أشبه مما امتلأت به صفحات التاريخ!!