أربعة أسئلة استنكارية يقصد بها التجريح في سلطان السيد وسلوكه وطقس عبادته وعدم حفظه للناموس، هذه الأسئلة هي:
أ. لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟ [7].
ب. ما باله يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة؟ [16].
ج. لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين، وأما تلاميذك فلا يصومون؟ [18].
د. لماذا يفعلون (تلاميذك) في السبت ما لا يحل؟ [24].
قُدمت هذه الأسئلة، ولم ينتظر مقدموها الإجابة عليها إنما قصدوا الإساءة إلى السيد المسيح، وكأن أعمال محبته الفائقة لم يقابلها الإنسان بالشكر والحب بل بسوء الظن والإهانة، ومع ذلك لم يتوقف السيد عن محبته ولا تراجع عن تقديم حياته مبذولة حتى عن مقاوميه.
أما بالنسبة للسؤال الأول فقد أثاره قوم من الكتبة عندما قُدم له المفلوج، وقد سبق لنا دراسة شفاء هذا المفلوج (مت 9: 1-8) من خلال دراستنا لإنجيل متى، وقد روى القديس مرقس قصة هذا الشفاء هكذا:
“ثم دخل كفرناحوم أيضًا بعد أيام فسُمع أنه في بيت” [1].
حينما تحدث متى البشير عن شفاء المفلوج ذكر أن ذلك تم في مدينة السيد، أما هنا فيحدد القديس مرقس أنها كفرناحوم التي تعني “كفر التعزية أو النياح”. يرى القديس أغسطينوس أن كفرناحوم أشبه بعاصمة الجليل، وقد حسب السيد المسيح الجليل ككل مدينته أو وطنه الخاص.بينما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن بيت لحم هي مدينته التي استقبلته عند ميلاده، والناصرة عند عودته من مصر في طفولته، وكفرناحوم كمواطن فيها[72].
على أي الأحوال حينما نلتقي مع السيد المسيح – أينما وجدنا – ندخل معه إلى مدينته الروحية مدينته “كفرناحوم الروحية”، فيكون لنا الموضع للنياح الحقيقي والراحة الداخلية. وجوده يهب نياحًا حتى وإن أُلقينا مع الفتية في أتون النار، أو مع دانيال في جب الأسود، أو مع يونان في وسط المياه. هو واهب الراحة الحقيقية! لقاؤنا مع السيد يجعل من نفوسنا كفرناحوم، وحرماننا منه يجعلنا منها “كفر العذاب”. وكما يقول الأب يوحنا سابا: [إن كان ملكوت الله داخلنا كما قال ربنا، فإن جهنم أيضًا داخل الملتصقين بالأوجاع (الشهوات) كل واحد ميراثه فيه، وغذاؤه داخله[73].]
“وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يسع ولا ما حول الباب، فكان يخاطبهم بالكلمة. وجاءوا إليه مقدمين مفلوجًا يحمله أربعة. إذ لم يقدروا أن يقتربوا إليه من أجل الجمع، كشفوا السقف حيث كان وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضجعًا عليه. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: يا بني مغفورة لك خطاياك” [2-5].
إن كان قد سبق لنا دراسة هذا المفلوج أثناء دراستنا لإنجيل معلمنا متى (أصحاح 9)، لكننا نلاحظ الآتي:
أولًا: يقدم لنا الإنجيلي مرقس السيد المسيح صاحب السلطان الذي متى حلّ في بيت امتلأ من الجماهير وفاض، حتى لم يستطع ما حول الباب الخارجي أن يسع هذه الجماهير القادمة، لا لتتملقه أو تنتظر مكسبًا أدبيًا أو اجتماعيًا أو ماديًا، إنما تترقب الكلمة الخارجة من فيه لتشبع أعماقهم، وتشفي جراحاتهم الداخلية.هذا هو المسيا خادم البشرية بكلمة محبته وخدمته غير المنقطعة!
لعل هذا البيت أيضًا يشير إلى القلب الذي يدخله السيد ليملك على عرشه الداخلي، ويقيم مملكته فيه كوعده “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). متى حلّ السيد في القلب اجتمعت كل طاقات الإنسان وقواه الروحية والنفسية والجسدية وأحاطت به كجماهير بلا حصر، فلا يعيش القلب بعد في فراغ ولا في تشتيت بل يتركز حول مخلصه بكل الإمكانيات. عندئذ يرفع الإنجيليون الأربعة الفكر إلى السماوات كما إلى السطح ليتنقي وينضبط في الرب ويُحصر فيه ويكون أمامه. والعجيب أن الذهن ينزل من السطح بالتواضع إلى حيث السيد المسيح الذي من أجلنا اتضع، فلا يكون نموه الروحي عله الكبرياء أو تشامخ أو تبرير ذاتي بل علة لقاء مع المسيح المتواضع يقول القديس يوحنا سابا: [تسربل يا أخي بالتواضع كل حين فإنه يُلبس نفسك المسيح معطيه[74].]
ثانيًا: إن كان الرجال قد قدموا بالإيمان المريض فشفاه السيد بإيمانهم فيرى البعض أن المفلوج نفسه أيضًا كان له إيمانه الذي عبر عنه بقبول حمله وتدليته من السقف وإن كان إيمانًا خافتًا وضعيفًا.
على أي الأحوال هؤلاء الرجال الأربعة يشيرون إلى الكنيسة كلها كهنة (3 رتب: الأسقفية، القسيسية، الشموسية) وشعبًا، إذ يلتزم أن يعمل الكل معًا بروح واحد في اتزانٍ، لكي يقدموا كل نفس مصابة بالفالج للسيد المسيح.
يتحدث القديس أمبروسيوس عن هؤلاء الرجال الأربعة، قائلًا: [ينبغي أن يكون لكل مريض شفعاء يطلبون عنه لينال الشفاء، فبشفاعتهم تتقوى عظام حياتنا اللينة ويستقيم اعوجاج أعمالنا بدواء كلمة الحياة. ليوجد إذن مرشدون للنفوس يترفقون بروح الإنسان التي قيدتها ضعفات الجسد. فالكهنة يشكلون الروح، يعرفون كيف ترتفع وكيف تتواضع لتقف أمام يسوع، إذ “نظر إلى تواضع أمته” (لو 1: 48)، ينظر إلى المتواضعين[75].]
ويرى الأب ثيؤفلاكتيوس في هؤلاء الرجال الأربعة رمزًا للإنجيليين الأربعة إذ يقول: [متى كان ذهني مرتبكًا أصير خائر القوى عندما أريد ممارسة أي عمل صالح، فأُحسب مريضًا بالفالج. فإن رفعني الإنجيليون الأربعة وقدموني للمسيح أسمع منه أنني ابن الله وتغفر خطاياي[76].]
ثالثًا: مدح القديس يوحنا الذهبي الفم هؤلاء الرجال، قائلًا: [وضعوا المريض أمام المسيح ولم ينطقوا بشيء بل تركوا كل شيء له[77].]بنفس الروح أرسلت مريم ومرثا للسيد قائلتين: “يا سيد هوذا الذي تحبه مريض” (يو 11: 3). ما أجمل أن تكون صلواتنا عرضًا أمام الله باشتياق حقيقي أن يتمم إرادته وإيمان أنه يهتم بنا ويهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نحتاج!
رابعًا: ما هو السقف المكشوف الذي قدم خلاله الرجال الأربعة المفلوج إلا البصيرة الروحية المفتوحة أو الإدراك الروحي. حينما ينزع السقف الطيني أو المادي ينفتح القلب على الله وينعم بالمحبة معه، لذلك يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [كيف أحمل إلى المسيح مادام السقف لم يُفتح بعد، فإن السقف هو الإدراك، أسمى شيء فينا! هنا يوجد تراب كثير خاص بالملاط الذي للسقف، أقصد به الأمور الزمنية، إن نُزعت تتحرر فينا فضيلة الإدراك من الثقل، عندئذ ننزل أي نتواضع، إذ نزع الثقل عن الإدراك لا يعلمنا الكبرياء بل بالحري التواضع.]
خامسًا: إذ رآه السيد المسيح قال له: “يا بني”.يا للعجب، الكهنة يستنكفون من لمس المفلوج، والخالق يدعوه ابنا له! هذه هي أبوة الله للبشرية، يشتاق أن يرد كل نفس ساقطة بالبنوة إليه بشركة أمجاد أبيها السماوي!
سادسًا: كان يليق بالكتبة أن يفرحوا إذ رأوا المفلوج ينعم بغفران خطاياه وشفاء نفسه، لكنهم إذ كانوا متقوقعين حول ذواتهم رأوا في كلمات السيد تجديفًا وهروبًا من شفاء الجسد، فقالوا: “لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده”؟ [7]. لم يأخذ السيد موقفًا مضادًا منهم، إنما في محبته اللانهائية أراد أيضًا أن يشفي نفوسهم مع نفس المفلوج فأوضح لهم أمرين، الأول أنه عارف الأفكار، إذ قال لهم: “لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم”؟ [8]. لعلهم يدركون أن الذي يفحص القلوب ويعرف الأفكار (إر 7: 10؛ مز 33: 15) قادر على غفران الخطايا. أما الأمر الثاني فهو تصحيح مفاهيمهم، إذ حسبوا أن شفاء الجسد أصعب من شفاء النفس، لهذا أوضح لهم أنه يشفي الجسد المنظور لكي يتأكدوا من شفائه للنفس وغفرانه للخطايا وهو الأمر الأصعب. على أي الأحوال يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [لقد أربكهم بنفس كلماتهم، فكأنه يقول: لقد اعترفتم أن غفران الخطايا خاص بالله وحده، إذن لم تعد شخصيتي موضع تساؤل[78].] لقد أكد لهم “ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: لك أقول قم، واحمل سريرك، واذهب إلى بيتك” [10-11].
سابعًا: إن كان قد أمره بحمل سريره ليُعلن أن الشفاء حقيقة واقعة ملموسة، وليؤكد أنه الله الذي يغفر خطايانا، إنما لنقوم معه ونحيا بقوة قيامته، نمارس وصيته ونتمم إرادته بالعمل الإيجابي، حاملين سريرنا إلى بيتنا الذي تركناه أي كنيستنا أو فردوسنا المفقود. يرى القديس أغسطينوس[79] في هذا السرير رمزًا لضعفات الجسد. ففي خطايانا كنا محمولين بشهوات الجسد وضعفاته، مربوطة نفوسنا ومقيدة عن الحركة، لكننا إذ نحمل قوة الحياة الجديدة تحمل النفس الجسد بكل أحاسيسه وطاقاته لتقوده هي بالروح لحساب مملكة الله وتدخل به إلى بيتها، أي الحياة المقدسة. هكذا لا يعود الجسد ثقلًا يحطم النفس، بل يكون معينًا يتجاوب معها تحت قيادة الروح القدس. وكما يقول القديس يوحنا سابا يصير كنيسة مقدسة للرب: [من يذبح ذاته كل يوم بأتعاب المشيئة من أجل معرفة المسيح يكون جسده كنيسة محسوسة، والشعب الذي بداخلها هو مجمع الفضائل… العقل الذي استحق نظر الثالوث القدوس يكون كنيسة معقولة، والشعب الذي بداخلها هو جمع الملائكة[80].]
يقول القديس أمبروسيوس: [ما هو هذا السرير الذي يأمر الرب بحمله؟ إنه السرير الذي عوّمه داود بدموعه كما يقول الكتاب: “أعوم كل ليلة سريري بدموعي” (مز 6: 7). هو سرير الألم، حيث تنطرح نفوسنا فريسة لمرارة الضمير وعذابه، لكننا حينما نسير حسب وصايا المسيح يصير فراشنا للراحة لا للألم، إذ غيّرت مراحم الله موضع الموت إلى موضع قيامته، حوّل لنا الموت لجاذبية نشتاق للتلذذ به. لم يأمره فقط بحمل السرير، وإنما أمره أن يذهب إلى بيته، أي يرجع إلى الفردوس، الوطن الحقيقي الذي استقبل الإنسان الأول، وقد فقده بخداع إبليس، لهذا يلزم أن يرجع إلى البيت، فقد جاء الرب ليهدم فخاخ المخادع، ويعيد إلينا ما قد فقدناه[81].]
ثامنًا: يقول الإنجيلي: فقام للوقت وحمل السرير وخرج قدام الكل حتى بُهت الجميع، ومجدوا الله، قائلين: ما رأينا مثل هذا قط” [12]. شفاء المفلوج كان بركة للمريض نفسه الذي تمتع بغفران خطاياه كما بصحة جسده، وفرصة لكي يتحدث الرب مع الكتبة معلنًا لهم أنه المسيّا، وأيضًا للجماهير التي بهتت، قائلة: “ما رأينا مثل هذا قط”. يرى الأب ثيؤفلاكتيوس أن هذه الجماهير تشير إلى أفكارنا التي تتمتع برؤية روحية سليمة ونقاوة عند غفران خطايانا، فتقف مبهورة أمام السيد المسيح واهب الشفاء.
حقًا أن النفس التي أصيبت بالفالج إذ تسمع صوت طبيبها السماوي وتنعم بعمله فيها وتتذوق رؤيته تبهر به ولا تطيق الحرمان منه. وكما يقول القديس يوحنا سابا: [من رآه ثم احتمل ألا يراه؟ من سمع صوته واحتمل أن يعيش بدون سماع صوته؟ من استنشق رائحته ولم يجيء حالًا ليتنعم به