ونحن لا نستطيع أن نغفل المفارقة بين المسيح، آدم الأخير، وبين آدم، الإنسان الأول، الذي كان في الجنة، محاطًا بكل أسباب الراحة والرفاهية، لكنه سقط في أول تجربة، وعصي، وجلب الموت على نفسه وعلى الجنس البشري. أما المسيح فقد كان طائعًا حتى الموت موت الصليب.

وقد جاء نزاله مع إبليس في برية قاحلة وسط الوحوش الضارية، وكان وقتها صائمًا وجائعًا ومنهك القوى الجسدية كإنسان؛ لكنه انتصر، وكان انتصاره ساحقًا.

ونحن لا نستطيع أن نغفل المفارقة بين المسيح، آدم الأخير، وبين آدم، الإنسان الأول، الذي كان في الجنة، محاطًا بكل أسباب الراحة والرفاهية، لكنه سقط في أول تجربة، وعصي، وجلب الموت على نفسه وعلى الجنس البشري. أما المسيح فقد كان طائعًا حتى الموت موت الصليب.

كإنسان جُرِّب المسيح في البرية من إبليس وكإنسان خرج غالبًا. وقد استخدم في مواجهته سلاحًا هو في متناول كل ابن من أبناء الله. كان يستطيع أن يدحره بكلامه، وهو الكلمة المتجسد، لكنه آثر أن يضع نفسه معنا على ذات المستوى، ويهزمه بسلاح الكلمة «مكتوب»، حتى نستطيع أن ننتصر كما انتصر وبنفس السلاح.

وقد أُصعد يسوع الى البرية ليجرب من إبليس، مباشرة بعد معموديته من يوحنا في نهر الأردن، وبعد أن فُتحت له السماء ومُسح بالروح القدس، وسمع صوت الآب معلنًا «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت».

وعلى نفس هذا القياس – مع الفارق العظيم – فإن إبليس لا يجرِّب إلا الذين وُلدوا من الله، والذين سكن فيهم روح الله. قبل ذلك فإن الانسان تحت سيطرته، ولا معني لأن يهاجم الشيطان من يخضعون فعلاً لسلطانه. فإن كنا أولادًا لله فلنتوقع هجمات العدو. حقًا إنه عدو مهزوم، حتى أن الكتاب يدعونا أن نقاومه فيهرب منا، ونحن لا نخشى قوّته، ولكن علينا أن نحذر وبشدة مكائده، ولا نجهل أفكاره، لنعرف عدونا وخططه، فإن طريقته لا تتغير على مدى الزمن.

هل تبحث عن  البتول القديسة حصلت على إيمانٍ أعظم من إيمان البشر

ولنلاحظ أن إبليس في تجربته للسيد استخدم تكتيكًا منظَّمًا متدرِّجًا.

التجربة الأولى: كانت على المستوى المادي. لقد أتى للسيد مستغلاً الظروف المادية، وحاجته إلى الطعام، فقال له مشكِّكًا: «إن كنت ابن الله فقُل أن تصير هذه الحجارة خبزًا» (مت4: 3). كأنه يريد أن يقول: ”هل أنت حقا ابن الله؟! إذًا كيف يتركك الله في هذه الأرض الموحشة، محاطًا بالوحوش، جائعًا ولا تجد لنفسك طعامًا. إني أقترح عليك مخرجًا مما أنت فيه: قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا“.

أ ليس هذا ما يفعله الشيطان معنا في الظروف الضاغطة؛ إنه يشكِّكنا في محبة الله وصلاحه، بل وفي بنويتنا له، ثم يوحي علينا مقترحاته للخروج من الأزمة، استقلالاً عن الله، ودون انتظار لمشيئته.

لم يكن هناك خطأ في أن يشعر المسيح، كإنسان، بالجوع الشديد. وما كانت هناك خطية في أن يستخدم إمكانيات، هي بالقطع في حوزته، لإشباع هذا الجوع. لكنه – تبارك اسمه – ما كان يتصرف قط بالاستقلال عن إرادة أبيه ودون انتظار لمشيئته. وهو القائل: «طعامي أن أفعل مشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله» (يو4: 34).

إن الاحتياج المادي ما كان أبدًا حافزًا له طوال حياته. لقد صنع مئات المُعجزات للناس، لكنه لم يصنع مُعجزة واحدة من أجل نفسه. وعلى الصليب ذاق المسيح أقسى أنواع العطش، لكنه حتى حين قال «أنا عطشان» لم يكن ينتظر سقاءً من أحد لكن «لكي يتم الكتاب».

«فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت4: 4).

إن الحياة الحقيقية ليست هي الحياة المادية بل حياة الروح، والغذاء الحقيقي ليس هو الخبز المادي بل كل كلمة تخرج من فم الله. والأفضل له أن يظل جائعًا مُنتظرًا لكلمة الله وخاضعًا لمشيئته من أن يتحرك دون انتظار لإرادة أبيه. إنه ”عبد يهوه“ الحقيقي الذي قال: «يوقظ كل صباح، يوقظ لي أذنًا لأسمع كالمتعلمين» (إش50: 4).

هل تبحث عن  أحتضن خوفى يا الله طمنى بحضورك

أما التجربة الثانية: فلم تكن تجربة في الأمور المادية لكنها، إن صح التعبير، كانت تجربة دينية. «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل. لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك».

إنه الاستخدام الخاطئ لكلمة الله، كأنّ إبليس يقول للسيد: ”أنت تستشهد بآيات من كلمة الله، إذًا هاك آية من المكتوب“. ثم اقتبس له من المزمور الحادي والتسعين. الآية صحيحة، والمزمور عن المسيا فعلاً، لكن الاستخدام خاطئ وملتو، فالكتاب لا يعلّمنا أن نلقي بأنفسنا من علو حتى نختبر حفظ الله ورعايته لنا بواسطة الملائكة، لكنه يخبرنا أن الانسان الساكن في ستر العلي، المتكل دائمًا على إلهه، في طريق طاعته وخضوعه للمشيئة الإلهية، يستطيع أن يختبر عناية الله وحفظه.

والسيد هنا لا يناقش إبليس في سوء استخدامه لصحيح الكتاب، لكنه يرد عليه «مكتوب أيضًا: لا تجرِّب الرب إلهك». وهو بذلك يترك لنا مثالاً رائعًا. قد لا تكون لدينا الحُجّه القوية ولا التمييز الصحيح لكي ندحض أقوال العدو إذا أتانا محرِّفًا لكلمة الله، لكن لدينا ما هو أثبت: « مكتوب أيضًا». إن كلمة الله تتجاوب مع بعضها، وإن صعب عليَّ فهم جزء منها فعليَّ التمسك بكل قوة بالمكتوب أيضًا، بالجزء الواضح والصريح الذي أستطيع أن أفهمه بسهوله.

«لا تجرِّب الرب إلهك» إني إذا حاولت بأي طريقه أن أثبت صدق أقوال الله وأمانته في مواعيده، فإني في ذات اللحظة أكون قد شكّكت في هذه المواعيد، فما دام قد قال فهو صادق ولا بد أن يفعل.

أما التجربة الثالثة: ففيها يسفر الشيطان عن وجهه القبيح. وكأنه قد تحقق فجأة من إنسانية المسيح الكامل، فتعامل معه على هذا الأساس، أنه قد وجد السيد – له كل المجد – مُصرًّا على أن يأخذ تمامًا مركز الإنسان، إذًا فليجرب معه سلاحًا لم يفشل في استخدامه مع الإنسان على مدى أربعة آلاف سنة هي عُمر خبرته في التعامل معه.

هل تبحث عن  تَذكارُ العَذرَاءِ حَالَّةِ الحَدِيدِ

إنه لا يقول فيما بعد «إن كنت ابن الله»، بل يقدم عرضه بوقاحة «أعطيك هذه جميعًا (ممالك العالم ومجدها) إن خررت وسجدت لي».

لقد قبل الملايين من البشر، قبلها وبعدها، باقتراح إبليس؛ ورضوا بالسجود له مقابل ما هو أقل بكثير، فهل يستطيع هذا الناصري الفقير أن يقاوم ممالك العالم ومجدها؟ إنه هجوم جنوني ويحمل في طيّاته إهانة لمجده الإلهي المحتجب في الناسوت الموجود أمامه.

عندها وللمرة الأولى ينادي السيدُ الشيطانَ باسمه، بعد أن أسفر عن وجهه «اذهب يا شيطان». أما السجود فلا يكون إلا لله وحده «لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد».

أما ممالك العالم ومجدها فسوف يأخذها من يد الآب، وعن طريق الألم والصليب. إن هذا العالم قد دمّره إبليس رئيس هذا العالم، ولوّثته الخطية ولا بد من الفداء قبل أن يأخذ المُلك الذي له على الجميع.

وسوف يأتي وقت تجثو فيه باسم يسوع كل رُكبة، ممن في السماء ومن على الأرض. ليس عن طريق السجود للشيطان بل عن طريق الطاعة للآب. الطاعة حتى الموت، موت الصليب.

”إذهب عني يا شيطان“، وكأنها نبوة عن هزيمته الساحقة له في الصليب حين أباد «بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس». عندئذ تركه إبليس. «وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه». الملائكة المكتوب عنهم أنه «يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك».

لقد كان انتصاره ساحقًا، وهو على استعداد لأن يقودنا في موكب نصرته في كل حين متى سلّمنا له وتمتعنا به، له كل المجد.

متى ناشد

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي