في رأي الوثنيين أن المصلوب والصليب حماقة ما بعدها حماقة (1: 23) ووبأ نفسي واجتماعي يستأهل الوصف الشيشروني ب (الطاعون).
تكفي بعض الامثلة لتبيان الموقف:
– كتب المؤرخ الروماني تاشيتوس(36) في (الحوليات) (15، 44, 2- 5) في المسيحيين: (يأتيهم هذا الاسم من كريستوسChrestus الذي حكم عليه الوالي بونطيوس بيلاطوس بالعذاب في عهد (الامبراطور) طيباريوس). يبدو ان ما علق في ذهنه من كل سيرة يسوع وأقواله موته على الصليب.
– الفيلسوف الروماني تشيلسيوس (نحو سنة 178 م) يتهكم على المسيحيين ويعاتبهم (لحماقتهم): (انتم تنسبون الطبيعة الالهية إلى رجُل أنهى حياة دنيئة بميتة شقيّة).
– في القرن الميلادي الثاني ايضا، رسم في البلاتينو لمسيحي مدعو (اليكسامينوس) (يعبد الهه) والمعبود مصلوب بوجه حمار!(37)
ج – تفصيل نظرة المسيحيين ناقصي الايمان والمسيحيين المزيّفين لصليب يسوع
– الغنوصيّة كانت تعدّ يسوع (أيونا)eon، بين اللاهوت والناسوت، لذلك لم تحسبه انسانا كاملا (بنقائص الطبيعة البشرية وحدودها، ما خلا الخطيئة). ومن كتبهم (رؤيا بطرس) (التي لا يجدر خلطها مع رؤيا أخرى لبطرس منحولة ايضا، غير غنوصية)(38). في الرؤيا الغنوصية المشار اليها (81 – 83) يسرّ يسوع عندما يقوم أعداؤه بصلب شبيهه أو شبه جسده. وعليه، ما كان صليب يسوع يعني شيئا للغنوصية التي (أفرغته) من معناه.
– الجماعات (التشبيهية) أو (الدوقيتية)docètes من الفعل اليوناني dokein (دوقين) اي (ظهر، بان)، كانت تؤكّد ان ليسوع جسدا ظاهرا لا حقيقيا(39)، وعليه فإنّه شبه وُلد وشبه تألّم وشبه صُلب (وشبه قام وشبه صعد). وكانت الحركات الدوقيتية تنهج الثنائية ذات الميول الروحانية(40) في نظرتها للتجسد وللالام. وراح الدوقيتيون (يحذفون من التجسد والالام ما توهّموا انه ليس جديرا أو لائقا بابن الله.. في أطُر افلاطونية حيث تتصارع الوقائع (الحقيقية) العقلية ووقائع العالم الحسّيّ. أمّا مرقيون فقد ارتأى انّ للمسيح (جسدًا سماويًا)، وذهب (ابيللس) Apelles إلى أن جسد يسوع كان شبيها بأجساد الملائكة في أثناء ظهوراتهم. ويمكن القول ان (الدوقيتيين) في المعنى الحصري هم الفالنتينيون الذين أعلنوا ان الفادي ما أتّخذ أيّ جوهر جسديّ)(41). فمن البديهي أن (يتبخّر) الصليب السيدي عند كل تلك الفرق، بما ان يسوع (كان انسانا فقط في المظهر)(42) لا في الجوهر (ولعلّ نقطة الانطلاق تفسير خاطيء لنص فيليبي 2: 6 (وقاوم القديس اغناطيوس الانطاكي هذه البدع في رسالته إلى التراليين (9 وتابع)(43). ولكنّ مبدأ القديس غريغوريوس النازيانزي واضح: ما لم يتّخذه المسيح (في كيانه) لا ينال الشفاء أي لا يشمله خلاصه (الرسالة رقم 101)(44).
– هنالك فئات معروفة بعدائها للصليب، مع اعترافها (بالرب الذي اشترى) البشرية. يقولون انهم (يسيرون حسب الكتاب المقدس) ويتكلمون دوما عن (الرب يسوع) وانه (غسلنا بدمه) وانه (المخلّص الوحيد). ولكن، في الوقت ذاته، يتهربون من الصليب ومن رسم المصلوب على الصليب (حاسبين اياه (صنمًا) ومن اشارة الصليب(45). وتفتّقت عن ذلك الموقف الساعي إلى “تصفية” الصليب عدّة اعتراضات وأفكار منها (على سبيل المثال لا الحصر):
(1) (إكرام الصليب يجب أن يبقى في القلب، فلا يجدر أن يُحمل على الصدور ولا فوق البنايات والكنائس). – وهذا مخالف لموقف بولس الذي لا يفتخر الا بالصليب (عن غل 6: 14).
(2) (تكريم الصليب عبادة صنم). وربّما يجب أن يعاد هنا النظر في عبارة (السجود للصليب) في طقوس اسبوع الالام ولا سيّما الجمعة الحزينة (لئلا يعطى ذلك الانطباع الخاطيء).
(3) (لماذا لا ترفعون في كنائسكم الحية النحاسية والسارية؟) (عن سفر العدد 21: 8) – الرد: حيتنا النحاسية هي المسيح والسارية هي الصليب حسب يوحنا 3: 14: (كما رفع موسى الحية في البريّة، هكذا يجب أن يُرفع ابن الانسان).
(4) (الصليب من خشب، فلماذا تلبسون صلباناً معدنية او من حجارة كريمة؟) إذا كان صاحب الاعتراض صادقا فليلبس الصليب الخشبي (ويحمله)، انه أرخص وأقرب إلى واقع الصلب السيدي. (أمّا الصلبان الذهبية أو المكّونة من سائر الموادّ أو من الحجارة الكريمة، فلا تغيّر الصليب تغييرًا جوهريًا بل شكليا. جميعها تشير إلى صليب المسيح الذي تقدره كثيرا ولا تبخل بالمواد الثمينة لرسمه أو نقشه أو نحته)(46).
(5) (المسيح مات ثم قام فلا مبرر لتصوير صلبه). وبنفس المنطق يجيب المرء: المسيح (كان ينمو في السن (الطول) والحكمة والنعمة أمام الله والناس) فلا داعي لتصويره طفلا! من ناحية مبدئية، لا مجد من غير صليب، فالصليب أساس المجد، في منطق يسوع وبولس.
(6) هنا تبدأ اعتراضات المسيحيين المزيفين الذين يلغون الصليب نهائيا، ومن غير استئناف. انهم يتّكلون على (حكمة الكلام) او حكمة معيّنة لكلام معيّن كي (يفرغوا الصليب)، مع اعترافهم بالمسيح الفادي. وأوّل الاعتراضات الهدّامة يعبّر عن ذاته بالسفسطة التالية: (إذا قتل أحدهم أخاك بمسدس، فهل تكرم ذلك المسدس؟)
الجواب: هذه هي بالضبط النظرة الوثنية – اليهودية – أي غير المسيحية – للصليب (وما أشبه الامس باليوم! ولكن الفرق ان أصحاب هذا الرأي يقولون عن انفسهم انهم مسيحيون). نعم، (التاريخ يعيد نفسه) في صيغة أخرى، أقوى: هذه الفئات تنظر إلى الصليب النظرة اليهودية الوثنية اي انه أداة عذاب وذلّ (ومنها من حذف نهائيا كلمة (صليب) في (ترجمته) للكتب المقدسة واستبدلها ب (خشبة العار) أو (خشبة العذاب) أو (خشبة الالام)(47).
الرّدّ مع بولس الرسول: (ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة (فقط كأداة عذاب وعقاب). أمّا عندنا، نحن الذين نالوا الخلاص فهو (أي الصليب او المسيح المصلوب) قدرة الله) التي حققت الفداء عن طريق هذه الوسيلة الوضيعة الفظيعة! وبناء على منطق يسوع وبولس، يمكن القول ان صليب يسوع لم يكن فقط أداة ذل وتعيير وإعدام وموت (إذ لم يمت يسوع لكي يموت!) بل أضحى أداة سماوية للخلاص من الخطايا وللمصالحة بين الله والناس وبين الناس بعضهم مع بعض. (فإذا حرر أحد الجنود مدينة (او وطنا كاملا) بسلاحه او باستشهاده، افتخر الشعب بهذا السلاح وبذلك الاستشهاد وبتلك الجروح. وان سفر رؤيا يوحنا يظهر لنا المسيح الذبيح الذي قرّب ذاته عنّا، والحمل الذبيح قائم في وسط العرش الالهي)(48) (رؤيا 7: 17).
(وإذا كان على المرء أن يلغي من حياته كل أداة تعذيب أو إعدام، فيجب على أهل امريكا (وهي منبع العديد من البدع) أن ينبذوا الكراسي، لأن (الكرسي الكهربائي) وسيلة إعدام! وعلى شعوب أخرى أن (تقاطع) كل الحبال لاستخدامها في الشنق!)(49)
ردّ مباشر آخر على المسدس الذي قتل أخاك: انك لا تتردد في تكريم المسدس الذي أدى إلى وفاة أخيك إذا كان موته تحريرا للبلاد أو نجاة من مصيبة أكبر!
(7) (الصليب رمز وثني للاله تمّوز في بلاد ما بين النهرين، ورمز الجنس عند قدماء المصريين!)(50) ولكن هنا، يجيب المرء مع بولس: (ان كلمة الصّليب هي عند الهالكين جهالة) ونحن (نكرز بمسيح مصلوب) أي اننا معنيّون كمسيحيين، بعد يسوع وبولس وسائر العهد الجديد، بصليب يسوع لا بأي صليب آخر. فكل تلك الرموز لم تكن (الصليب) بل كانت (صلبانا) أخرى لا علاقة لها بالمسيح لا من قريب ولا من بعيد. صليب يسوع كان للذل وحوّله يسوع إلى مكان الفداء، إلى مذبح الخلاص، ويسوع، كما قال القديس اغسطينوس هو (الذبيحة والكاهن والمذبح). الصليب الذي حمله يسوع ما رمزَ لا إلى جنس ولا إلى (تمّوز) بل إلى العقوبة القصوى.
(8) (الصليب غير وارد لأن المسيح تألم على خشبة عامودية واحدة!)(51) سبقت الاشارة إلى أن (صليب يسوع) أو (الصليب) في الصيغة المعرّفة المطلقة كان مكوّنا من خشبتين بحيث سمّرت اليدان السيديتان بمسمارين لا بمسمار واحد (عن يوحنّا 20: 25). وهذه محاولة أخرى ل (تفريغ) الصليب وتبخيره حتى في صورته الخارجية فيكون (بعيدًا عن القلب لبعده عن العيون).
إذا كان المعترض صادقًا ومنطقيًا، عليه ان يفتخر لا ب (برج المراقبة) بل ب(خشبة العذاب)، فليجعلها شعاره، ونحن نقبل خشبة واحدة! ولكن في الواقع، يعترض قائلا انها كانت خشبة واحدة فقط ويحذفها نهائيا.
ملحوظة: هنالك تناقض بين الاعتراض الذي يعدّ الصليب مكوّنًا من خشبتين متقاطعتين حاسبا اياه رمزًا وثنيًا، والاعتراض القائل بأنه كان خشبة عامودية فقط. والحق ان المعترض يسخّر أية وسيلة تبريرًا للغاية وهي.. كما وصفها يولس (تفريغ صليب المسيح)!
(9) في غل 6: 14 (صليب ربّنا يسوع المسيح) معنوي وليس اداة الالام الجسدية (كما في العبارة (من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني). ويتذرّع المعترض بأنّ سياق الاية معنوي اي صلب العالم لبولس وصلب بولس للعالم.
وعليه: الصليب المادي الخشبي مرفوض لانه سخافة وحماقة اجرامية، والمقصود هو صليب معنوي اي آلام المسيح.
الردّ: هذا نص غلاطية 6: 14: (أمّا أنا فحاشى أن أفتخر الاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح! وفيه أصبح العالم مصلوبا عندي، وصرت أنا مصلوبا للعالم). – صليب يسوع حقيقي بحقيقة آلامه واستشهاده، وعلى صليب يسوع المادي الخشبي صُلب العالم مجازا لبولس وصُلب بولس مجازا للعالم. ولولا صلب المسيح المادي لما (تم) الصلب المجازي لكل من بولس والعالم أحدهما عند الاخر!
وفي شأن الوصية السيدية: (من اراد أن يتبعني فليحمل صليبه) فإنّ المسيحي الملتزم (يتبع) معنويا المسيح الذي حمل صليبه ماديا. ولولا حمل يسوع للصليب المادي لما استخدم العبارة – التي أضحت مجازية للمؤمن – في حمل كل منهم ل (صليبه).
(10) (لا يجوز الافتخار بالصليب (بخلاف غل 6: 14) إذ (من يفتخر فليفتخر بالرب!) (عن 1 كور 1: ،31 2 كور 10: 17).
الجواب: لا تناقض بين الافتخار بالرب وبصليب الرب، كما ان لا تناقض بين الافتخار بقائد وبذكاء ذلك القائد. الافتخار بالرب مطلق، والافتخار بصليب الرب نسبي اي نسبة إلى الرب. وفعلا لا تفتخر المسيحية بأي صليب آخر (لا بصليب سبارتاكوس ولا بصليب أي من اللصّين المصلوبين حول يسوع).
الطريف ان الاعتراض الرامي إلى نسف الصليب بذريعة (الافتخار بالرب) يُغفل سياق هذه العبارة البولسية المشتقة من ارميا 9: 24: انه بالّضبط سياق الصليب!!! نعم، الصليب من جهة وأصل الكورنثيين المتواضع، إثبات – ولا أبلغ – للقدرة الالهية التي بالحماقة والذل والضعف بلغت بالمصلوب وبالكورنثيين إلى الحكمة والكرامة والمجد والقوّة (1: 26 – 30)، بحيث ان (المسيح يسوع (اي المصلوب الضعيف الذي بان شارد العقل) صار لنا حكمة من لدن الله و(بالصليب) برّا وقداسة وفداء) (ونزيد: ولا فداء من غير الصليب وهو سفك دماء الحَمَل)، ليتم ما ورد في الكتاب: (من افتخر، فليفتخر بالرب!) (الاية 31).
– 1: 19
حكمة الصليب تناقض (حكمة العالم) التي تتلخّص في ان يحافظ الانسان على صحّته وعلى سمعته وعلى ثروته وعلى متعته (المعتدلة، مثل الابيقوريين) وأن يسمو فوق الالم (مثل الرواقيين). فأين صحة المصلوب وماله وصيته وايّة متعة (يقطف) من هذا الوضع المميت؟
في المصلوب فعلا، يتم يسوع تدبير العزة الالهية الوارد في أشعيا 29: 14 (راجع أيضا 33: ،18 ثم 19: 12): (سأبيد حكمة الحكماء وأزيل فهم الفهماء!). حين اجتاح الاشوريون البلاد المقدسة، أعلن الله ان ما يخلّص الشعب ليس حسابات الفطنة البشرية(52).
– 1: 20
(أين الحكيم؟ (أي الفيلسوف اليوناني)
أين الكاتب؟ (أي عالم الشريعة اليهودي)
أين مجادل (أو مماحك) هذا الزمان (أي السفسطائي)(53) والدنيوي الذي لا يفكّر الا في هذه الأرض ولا يعنيه أمر الاخرة التي ينكر وجودها. ولا عجب ألاّ يتبع يسوع (حكمة هذا العالم) – (عالم الظلمات) (كما يكتب القديس اوغسطينوس) لانه، له المجد (ليس من العالم) وعلينا مثله (ألاّ نكون من العالم وإن عشنا فيه) (عن يوحنا 17: 14).
– 1: 21
بحكمة الله (أي بمخطط معجز(54) لا يقدر البشر أن يسبروا أغواره إذ كما تعلو عن الارض السماء هكذا تعلو أفكار الله عن افكارهم وطرقه تعإلى عن طرقهم، لم يعرف العالم الله عن طريق (الحكمة) البشرية إذ لم يستدلّ معظم الوثنيين (وكانوا مبدئيا كائنات عاقلة) من وجود المخلوقات وجمالها إلى وجود الخالق (عن روم 1: 19 -،23 الحكمة 13: 1 وتابع). ويمكن إدراك عبارة (حكمة الله) بمعنى التدبير الالهي الغريب المتألق في الصليب الذي يسبح في عقلانيه سامية سماوية الهية (مخالفة للمظاهروقالبة للتوقعات).
(حَسُنَ لدى الله أن ينال المؤمنون الخلاص بحماقة التبشير) الذي محوره الصليب، إذ يبشّر الرسل، شاء اليهود والوثنيون واليونانيون أم أبوا، (بمسيح مصلوب، حجر عثار لليهود وحماقة للوثنيين) (الاية 23). والمخلَّصون هم المؤمنون بحماقة الصليب!
– 1: 22
اليهود بشر عمليّون براغماتيّون يطلبون المعجزات (في العبرية (اوتيوت) (في السماء) و(صوتا من السماء) (مت 12: ،38 يو 2: ،18 ثم 6: 30). عقيدتهم (سمعبصرية) لسان حالها شعار التلميذ العنيد توما: (إن لم أبصر، لا أصدّق)!
اليونانيون، رمز الحضارة والثقافة وأهل الفلسفة: يطلبون الحكمة، منهم (الرواقيون والبيثاغوريون ومحبّو الديانات السرانية)(55) وكان بولس في الاريوباغس، في أثينا، قد حاول تقديم المسيحية كحكمة سامية ولم يفلح (أع 17: 22- 31). ويشير بولس لاحقا (2: 7) إلى حكمة الله السّرّية الخفيّة الكامنة في الصليب! (ما كان إخفاقا أصبح أساس الخلاص ووسيلته.. وكأن الله – بحكمة عجيبة – ينطلق من حماقة البشر (في عدم اكتشافهم لوجوده وصفاته تعإلى) لكي يستخدم طرقا غريبة تبدو سخيفة حمقاء.. ان صفحات العهد الجديد حول الحكمة المسيحية، (الصليبانية)، من الكتابات الاكثر عمقا وثورة وتجديدًا: انها نقل لاهوتي للعظة السيدية على الجبل (مت 5: 3- 12)(56).
– 1: 23
المسيح المصلوب حجر عثرة لليهود وحماقة لليونانيين – اي الوثنيين لانهم من الهالكين ولان تفكيرهم مستمد من الطبيعة البشرية التي سقطت في الخطيئة وتدهورت إلى الشر(57). يصدم اليهود صليب يسوع وهم “الطالبون الايات”. لاول وهلة قد يتوهم المرء ان موقفهم ديني، نابع عن الورع، ولكنه وليد الشك واللاادرية(58). انه لا يثق ولا يطمئن ولا يخاطر بل يبحث عن أمانه وراحته. وحكمة اليونانيين الدنيا تنحصر في هذا العالم، لذا تستسحف المصلوب، كما سخرت من سقراط الذي قبل العذاب والاعدام! حكمة العالم حماقة عند الله (1: 19، أيوب 5: 13، مزمور 49: 11)
– 1: 24
المدعوّون (أو: المختارون) هم المخلَّصون (الاية 18)، سواء كانوا من أصل يهودي أو يوناني، فانّهم يؤمنون بالمسيح المصلوب الذبيح (الذي فداهم بدمه من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة) (عن رؤيا 5: 9) أي من كل الشعوب ومن كل قبليّة ونعرة وعنصرية (وكلّها دنيوية!). انهم موقنون ان المسيح المصلوب (آية 23، ثم 2: 2) هو هو قدرة الله وحكمة الله، وكانوا قد سمعوا من الانجيلي الحبيب انه (الكلمة) (يو 1: 1)، (كلمة الله). فكلمة الله وحكمته وقدرته مترادفة، وكلها واحد.
(الكلمة الذي صار جسدًا) (يو 1: 14) ضرب خيمته بيننا وعاش مثلنا ومات مثلنا. والقوّة المعجزة مخفيّة في الضعف العاجز المتجسّد في المصلوب والصليب. فعلا، (يكتب الله باستقامة عن طريق خطوط معوجّة!(59).
المسيح المصلوب يستحق للناس الخلاص و(يفضّ اختام السفر) الغامض (عن رؤ 5: 9 أ)، سفر الاله والانسان، سفر الحياة والموت – وكلّها تعانقت على الصليب، حيث نزل الله إلى جحيم موت البشر (عن فيليبي 2: 5 وتابع)! الصليب والمصلوب: هذه قدرة الله وحكمته، هذا (تجلي المجد) (أورس فون بلتازار)، المصلوب قمة التاريخ ورئيس الايمان(60).
قد يجوز تلخيص ما ورد هنا في 1: 17 – 25 (مع 2 كور 13: 4) بإعلان بطرس زميل بولس: (انّ يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم جعله الله ربّا ومسيحًا!) (أع 2: 36).
– 1: 25: ما يبدو جنونيًا وضعيفًا عند الله (أي صليب يسوع) أوفر حكمة من الناس وقوّة.ولعلّ في قصيدة أمير الشعراء شوقي (يا فاتح القدس)(61) ما يعبّر عن هذه الفكرة العزيزة على بولس رسول الامم والاناء المصطفى:
(يا فاتح القدس، خلّ السّيف ناحية ليس الصليب حديدا كان بل خشبا
إذا نظرت إلى أين انتهت يده وكيف جاوز في سلطانه القُطُبا
عرفت أنّ وراء الضعف مقدرة وأنّ للحقّ لا للقوّة الغلبا).
في المسيح الانسان المصلوب وفي بولس تلميذه وعبده ورسوله المعاني من (شوكة في الجسد) تعلن العزّة الالهية: (في الضعف تكمل القوّة) (2 كور 12: 9)، في الضعف البشري تكمل القوّة الالهية! الصليب قوّة الضعف ويكشف ضعف القوّة. انه حكمة الجنون ويفضح جنون (الحكمة). انه بركة اللعنة ولعنة البركة المزيّفة، انه استراحة التعب ويبيّن كم الراحة متعبة، انه موت الحي الذي يحيي الميت!
– الايات 26 – 30: تم تفسيرها وربطها بسر الصليب الكريم المحيي. فخرنا الوحيد هو الرب المصلوب وصليب الرب، لا بالناس (أيضا 3: 21) لانهم يشمئزّون من الصليب ويتهكمون بالمصلوب.
– 2: 1 – 2
ما عرف العالم الله ب (الحكمة(62) ولا أدركت البلاغة الخالق، لذا لا يعتمد بولس على البيان (لئلا يُفرغ صليب المسيح، آية 17) ولا على الفصاحة لانهما ظاهرتان سطحيتان في حين ان (سر الله) في المصلوب والصليب عميق خفيّ. وما أراد بولس أن (يعرف بين الكورنثيين الا يسوع المسيح واياه مصلوبا). انه يضع (صليبا) على العالم وعلى ذاته، على الفلسفة وعلى البلاغة، (ولا يعرف المسيح حسب الجسد) (2 كور 5: 16) اي معرفة دنيوية بشرية حسية (فالحواسّ تنفر من المصلوب والصليب). ومثل المصلوب، لا يركن بولس المبشر بالصليب إلى (الجسد) وحكمته وفصاحته ولا يستخدم اسلحته (عن 2 كور 10: 3 – 4) من مال وجمال، ومهارة وحضارة، وراحة وإباحة، وعنف وعسف، وحسب ونسب.وعلى مثال معلّمه المصلوب، ينتابه الخوف والرعدة ولكنهما لا يَثنيانه عن عزمه. وسيحمل بولس الصليب مثل رفاقه الرسل ومثل المصلوب سيكونون (آخر الناس) ومن (المحكوم عليهم بالموت)، (مشهدًا) للناس (كما سيحدث مع المسيحيين المضطهدين في المدرجات الرومانية) وللملائكة (4: 9): (حمقى، ضعفاء، مهانون، جائعون، عطاش، عراة، ملطومون، مشرّدون) (4: 10)، مشتومون غير شاتمين بل مباركون لغيرهم (4: ،12 مثل المسيح الذي ما كان يردّ الشتيمة والذي حمل خطايا الناس في جسده على الخشب، عن 1 بطرس 2: 23- 24). وحُسِبَ الرسل، مثل سيدهم المصلوب، (أقذارا ونفاية (4: 13) على مثال العبد المتألم الذي أمسى عارا عند الشعب ونكرة وموضع احتقار) (أشعيا 53: 3 وتابع).
– 2: 4
يكتب بولس: (لم يعتمد تبشيري على أساليب الاقناع بالحكمة) (في اليونانية peiqois: (بيثويس لوغويس). استخدم العقل والمنطق وطلب أن تكون عبادة المؤمنين عقلية (عن روم 12: 1logikh latreia (لوجيكه لاتريا) واجتهد (لاقناع (في اليونانية: epeiqen ايبيثين، نفس الجذر) اليهود واليونانيين (أع 18: 4)، وهو الذي كان (يردّ على اليهود علانية ردّا قويّا، مبيّنا من الكتب ان يسوع هو المسيح) (أع 18: 28). ولكنه لم يتوكّل على منطقه ولا أسلوبه ولا كلامه لانّ في الله وعند الله سرّا رهيبًا عجيبًا: انه تأنّس وتألم وصُلب كإنسان حقيقي وقام من بين الاموات! ولئلا يستند ايمان الناس إلى حكمة الدنيا ولا ورؤسائها (2: 6 ب) ولا سائر الناس القابلين للموت والخطأ بل إلى (قدرة الله) أي المسيح المصلوب (2: 24) الصامد على الصليب والقائم بقوّة الروح وواهب الروح وصانع المعجزات.
– 2: 8 – 9
لم يعرف (أي لم يدرك) حكمة الله السرية الخفيّة (أحد من رؤساء هذا العالم (أو: هذا الدهر، أو: هذه الدنيا). ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد). يلحظ المرء ان المصلوب موصوف بأنه رب المجد مع ان اليهود – ومنهم بولس شاول سابقًا – كانوا يشيرون فقط إلى يهوه بأنه رب المجد (خروج 24: 16- 17) و(ملك المجد) (مزمور 24 (23): 8 و10).
تنفر العقلية اليهودية من صليب يسوع وتتشنّج من الوهيته. ويظهر جليّا هذا النفور في (ترجمة العالم الجديد) – المتأثرة بحكمة هذا العالم الرافضة للصليب المقللة من قدر المصلوب. تحرّف رئاسة (شهود يهوه) الاية (لو عرفوا لما صلبوا رب المجد)بإلغاء صليب المسيح والوهيته وتنقلها هكذا: (لو عرفوها لما علّقوا الرب المجيد على خشبة).
ولكن من (رؤساء هذا العالم) الذين ما علموا الحكمة الالهية؟ بما ان الرسول يكتب انهم هم صالبو المسيح، فالاقرب إلى الصواب انهم بالتحديد بيلاطوس وهيرودس والاحبار ورؤساء الشعب العبري(63). ما رأوا لغشاوة في عيونهم ان المصلوب تجسد لكلمة الله ولحكمته تعإلى وأعماهم الظلم وأسكرتهم نشوة السيطرة والعنف والحسد(64).
لم يعرف الرؤساء حكمة الله لانه تعإلى (اعدّ للّذين يحبّونه ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر). جمع بولس هنا نصوصا عدّة ولا سيما اشعيا 64: ،3 وإرميا 3: 16 وأشعيا 52: 16. الواضح انها مكافأة الحكمة الالهية والانخراط تحت لواء الصليب والمصلوب. صحيح ان صليب يسوع عذاب ما رأت قبله ولا بعده عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على بال انسان. فهل معنى الاية ان الله أعدّ الصليب للذين يحبّونه (كما كان يناجي تيريزيا الافيلية؟) أكيد من ناحية أخرى ان الصليب ليس هدفا في ذاته بل هو الطريق إلى النور(65). فما أعدّه الله – حتى من صليب للمسيح الانسان وللمسيحيين وسائر الناس – وما لم يتوقّعوه قطّ هو مجد الاذلاّء ورفعة المتواضعين وراحة المتعبين!
– 5: 1 وتابع خصوصا 7 – 8
لا ترد في هذه الايات لفظة (صليب) ولا اي من مشتقات فعل (صلب) ولكنّ بولس يحزن لفاحشة عند أحد المسيحيين اسما الذي يجهل أو يتجاهل ان (الّذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا أجسادهم وما فيها من أهواء وشهوات) (عن غل 5: 24).
وفي العهد الجديد فصح جديد، (يروحن) الفطير والخمير جاعلا من الاول رمزا للخلوص ومن الثاني رمزا للخبث والفساد. وعلى المسيحي أن (يعيّد)، فالعيد هو عيد الفصح المسيحي الذي يشمل (ذبح المسيح الحَمَل) وقيامته – بما ان الحمَلَ فصحيّ اي (عبوري)، مرّ من الموت إلى الحياة. لذا، كما في رؤيا يوحنا، (ذبح المسيح) أو (المسيح الذبيح) هو الحَمَل المجيد وهو الحمَل الفصحي للمسيحيين. صليبه عنوان عبوره أي قيامته وبداية فدائه الناقل الناس (من الظلمات إلى ضياء نوره المعجز) ومن النقمة إلى النعمة ومن الذل إلى المجد ومن الوفاة إلى الحياة!