حمل الصليب
حمل الصليب

وعلينا الآن أن نقف هنا وقفة مهمة للغاية، لنفهم بدقة معنى حمل الصليب كما قصده الرب، لأن هذا يلخص موضوعنا كله ويوضحه لكي نستطيع أن نكون تلاميذ أخصاء لهُ، فعلينا أن نضع الآيات في المقابلة مع بعضها لتظهر الصورة كاملة منذ بدايتها لنهايتها:

+ وَإبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ؛إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛
+ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ. فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ.

فلا بُدَّ من أن ندرك معاً معنى كلام الرب وتأكيده، لأن هناك فرق كبير بين الآلام الطبيعية المقبولة وبين الآلام الغير طبيعية والمرفوضة شكلاً وموضوعاً، لأن لو كان الرب قد تألم بحسب الطبيعة فقط من جهة الفقر أو الجوع أو حتى مجرد اضطهاد بسبب الحسد بكونه عظيماً في فكره أو تعاليمه أو منفرداً بشخصيته المُميزة، كان من المحتمل أن يُقبل ويُرحب به كمسيا، بل وكان عطف العالم كله اتجه بالإعجاب بآلامه وصبره عليها، مثل من نراه يحتمل آلام الفقر والجوع بعزة نفس وبشجاعة الرجال، أو احتمال أوجاع الجسد وعجزه وآلامه الشاقة ويحاول أن ينتصر عليها بالصبر دون شكوى أو بإظهار مواهبه لينتصر على الإعاقة الظاهرة قدام الجميع، لأن هذه النوعية من الآلام ينظر إليها العالم كله كمأساة لها قيمتها وشرفها وكرامتها بل وفخرها الخاص، لأن العالم يُكرِّم هؤلاء المرضى، ويشفق عليهم جداً ويعاملهم بالرحمة ويُظهر تمايزهم، لأنه يُحيط بآلامهم هالة من المجد الخاص.

أما المسيح الرب في كلامه أزال هالة المجد المحيطة بشكل آلامه الخاصة، فقد أكد على أن آلامه بدون شرف ولا كرامة، بل ومرفوضة من الناس وسبب عثرة كبرى لكثيرين، لذلك فأننا نجده لم يتكلم على آلامه بشكل مأسوي لاستثارة المشاعر لاستدرار العطف ودموع الناس أو لتكريمه عندهم أو لقبول آلامه، أي أنه لم يغلفها مثلما نُغلف الهدايا لتعطي منظراً جميلاً لتُقبل عند آخذها (كما نفعل اليوم ونحاول أن نغلف كلمة الله ونزوقها وننطق بها بشكل لطيف مُحبب ليتقبلها الناس)، أو حتى سعى أن يكتسب مجد أو شرف، لذلك لحق جملة “أنه ينبغي أن يتألم كثيراً” بكلمة “يُرفض“، لأن الآلام العادية لا تجعل أحد يرفض الشخص المتألم أو يحكم عليه، لذلك نجده أزاد على كلمة “يُرفض” لكي تُفهم بشكل صحيح بعبارة “يحكمون عليه ويهزأون به”.

ففي الألم والنبذ والرفض والاستهزاء والتعيير يتلخص صليب مسيح الله، (ولذلك حتى اليوم من الصعوبة التامة أن يعترف أحد بالمسيح رباً وإلهاً بسبب عار الصليب، لأن من الممكن يتقبل فكرة أن الله يتجسد لكن يُصلب بهذا الشكل المُهين، وفي هذه الحالة من التعيير وعن ضعف، فمن المستحيل أن يتقبل هذه الفكرة أو يستسيغها أبداً، لأن الشرق عموماً يحب فكرة البطل الخارق المنقذ الذي لا يُقهر أو يموت بل يحارب ويدافع وينتصر علناً وبقوة، ويصير محل فخراً للجميع، لكنه لا يتقبل ولا يستسيغ شكل الضعف بهذه الصورة الذي تكلم عنها المسيح الرب في حديثه للتلاميذ)، فالموت على الصليب معناه الموت محتقراً ومرذولاً من الناس، لأن المسيا هو المسيا المتألم، وكل من يتبعه ينبغي أن يسير على نفس ذات النهج، فهذا هو الصليب = “عار” [الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ، وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ – مزمور 69: 20]

لذلك الرسول قال: فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ: [تعييرات مُعيريك وقعت عليًّ (قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ، إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ» متى 27: 40)، أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب، من أجلك احتملت العار، غطى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي، وغريباً عند بني أُمي. لأن غيرة بيتك أكلتني وتعييرات معيريك وقعت علي. وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عاراً عليَّ. جعلت لبُاسي مُسحاً وصرت لهم مثلاً. العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد. ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً). (عبرانيين 13: 13؛ مقتطفات من مزمور 69)

عموماً لهذا أراد المسيح الرب أن يوضح بطريقة تمنع الشك، بأن “ينبغي” المحتمة للألم، تنطبق على تلاميذه الأخصاء أيضاً كما تنطبق عليه هو تماماً، وكما أن المسيح هو مسيح الله بشكل خاص ومُحدد بفضل آلامه ورفض الناس لهُ، هكذا التلميذ هو تلميذ المسيح الخاص على قدر مشاركته لسيده في الضعف أمام الناس، أي في نفس ذات الألم عينه من جهة الرفض والنبذ والتعيير والاستهزاء والتشهير وتلفيق التهم بادعاءات كاذبة حتى الموت، لأن اتباع التلميذ لمعمله يسوع المسيح ابن الانسان ابن الله يعني الالتصاق الكامل به، ومعنى الالتصاق هو الخضوع لناموس المسيح الخاص الذي حين تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم (لوقا 9: 51)، لأنه كان مُصراً على تتميم مشيئة الآب كما هيَّ بكل مسرة، رغم مما فيها من عار لا يقبله أحد لذلك يقول الرسول:

فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ؛ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ؛ وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً. (1كورنثوس 1: 18؛ 21؛ 23)

ومن هنا نستطيع فقط أن نفهم كلام الرب للتلاميذ وبالتالي لنا نحن أيضاً على شكل خاص، فانتبه عزيزي القارئ لكلام الرب بتدقيق شديد لأن كلامه يظهر لنا حياتنا المسيحية في هذا العالم الحاضر، ويُظهر القوة المعطاة لنا منه حسب مسرة مشيئة الآب السماوي:

«إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كلاَمَكُمْ. لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ. اَلَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبْتِدَاءِ»؛ «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا. سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ. وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي. لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ. وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي. لَكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلَأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ؛ فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا 15: 18 – 27، يوحنا 16؛ ورجاء قراءة يوحنا 16 كاملاً بتدقيق)

هل تبحث عن  عندما نحب الفضيلة والخير، سنحب الله تلقائيًّا

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي