لقد أغلق الإنسان على نفسه في انحصاره في ذاته لفعل ما يحسن في عينيه بعيداً عن إرادة الله ومشيئته التي كانت محبوبة لديه وبتلقائية يُنفذها بدون عناء [ وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه ] (قضاة 17: 6)، وهذا يُسمى غلق جداول النعمة الإلهية على الإنسان، فانفصل بنفسه عن الله الحي وبالتالي عن كل إنسان، فتوقف كل شيء عن كونه عطية لهُ من الله، وصار متخبطاً باقي ايام حياته لا يعلم من أين يأتي ولا إلى أين يذهب، فقد سار في كل طريق وذاق كل ما هو ليس من الحياة، فتورط في الموت أكثر وسار نحو الفناء أسرع…
وهذا هو سرّ صيرورة كل الأشياء التي من حولي – أنا الإنسان – موضوع استهلاكي، لأنه أصبح وسيلة لأُحقق من خلاله رغباتي الشخصية وشهواتي التي صارت متعة خاصة أُعبَّر فيها عن نفسي، وبذلك دخلت دائرة مُعيبة من العطش إلى آخر غير الله، عطش إلى شهوة قلبي الخاص، التي بمقدار ما تُشبعني أزداد جوعاً لتلبيتها، لأنها تزداد إلحاحاً عليَّ لكي أُنفذها وأُلبي مطالبيها مني، وبذلك أتورط أكثر في الموت وفقدان العقل والتعقُّل، وعلى قدر التصاقي بالشهوة على قدر رجوعي للتراب وفُقدان القيمة لكل الأشياء التي خُلقت لأجلي، فتشوه العالم بالنسبة لي، وجررته معي إلى مزالق الموت فتوقف عن أن يكون نافذة لأُعاين من خلالها الله، وصار موضوعاً وخاضعاً للفساد والموت كالإنسان نفسه الذي كُتب عنه بسبب السقوط كنتيجة تغلغلت في كيانه كله: [ أنه من التراب، وإلى التراب يعود ] (أنظر تكوين 3: 19)، لذلك فقد صار كل شيء بالنسبة لي يعود للتراب، وبالتالي ابتدأ الخوف يدخل حياتي، إذ أن الخطية ملكت بالموت الذي أخافه لذلك حياتي كلها أصبحت تحت العبودية: [ الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ] (عبرانيين 2: 15).
هذا هو خريف حياتي أنا الإنسان الذي أعيشه وتتساقط فيه أوراق حياتي كلها أمام عيني، لذلك لا أجد سرور ولا متعه في هذه الدُنيا، إلا متعة عابرة وقتية لا تجعلني أعيش مطمئناً، بل في قرارة نفسي أشعر أني في احتياج لآخر، ليُنقذني مما أنا فيه من عبودية وموت وفناء اشعره كلما كبرت ونضجت وسرت في هذه الحياة، لأن عند الكبر في السن والأيام نشعر دائماً اننا صرنا أقرب إلى الموت، ولأن أيامنا مضت بدون أن نجد فيها شيء يُشبع حياتنا لذلك لسان حالنا يقول: [ عبرت السنون وأتت أيام لم يعد لنا فيها سرور ] !!!
وبكون الإنسان في خبرة حياته المُرَّة هذه، يشعر في قراره نفسه من الداخل أنه منفصل عن الله الحي، ويشعر بغصبه الشديد [ لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم ] (رومية 1: 18)، لذلك صراخ حال كل إنسان من أعماق قلبه: [ ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا ] (أيوب 9: 33) !!! الا يوجد مُصالح يُصالحني على الله الحي، ويستطيع أن يؤهلني للحياة معه بل ويضمن عدم خروجي من محضره مرة أُخرى مهما ما كان حالي، إذ يتشفع فيَّ دائماً، ويضمني على حساب بره الخاص ليقبلني الله ويرضا عني ولو مرة !!!
ولكن بكون الله محبة يسمع لصراخ الإنسان الصادق: [ فقال الرب إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مُسخريهم، إني علمت أوجاعهم ] (خروج 3: 7)، [ قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون وتذكرت عهدي ] (خروج 6: 5)…
فالله يرق للإنسان ويسمع أنينه الصامت الذي لم يُصرح به بعد، وبكونه عارف أحواله من قبل أن ينطق فقد أعدَّ له خلاص خاص لكي يدخله في سرّ المُصالحة ليكون له سلام خاص معه، فارسل ابنه الوحيد لأجل خلاصه ليكون وسيطاً له، يدخل به لأقداس الله ولا يخرج منها قط، لأن له دم حمل الله رافع خطية العالم يستمر مغتسلاً فيه فيتبرر دائماً أمام الله ولا شيء يستطيع أن يُخرجه خارجاً مهما ما كان إلا لو هو الذي اراد ان يخرج ولا يدخل لأقداس الله العُليا بالإيمان بالابن الوحيد الذي صار وسيطاً بينه وبين الآب:
[ لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح ] (1تيموثاوس 2: 5)
[ ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكي يكون المدعوون إذ صار موت لفداء التعديات التي في العهد الأول ينالون وعد الميراث الأبدي ] (عبرانيين 9: 15)
[ وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الاقداس فوجد فداءً أبدياً ] (عبرانيين 9: 12)
فقد ترفق الله بنا بمحبة فائقة لا تُقاس وقدم لنا خلاص أبدي وصنع لنا سلاماً وهدم حائط السياج المتوسط ورفع كل حاجز يحجزنا عنه، ولم يعد يظهر لنا بصورة مرعبة يجعلنا نستعفى من أن نقف في محضره أو نسمع منه:
[ لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة. وهُتاف بوق وصوت كلمات استعفى الذين سمعوه من أن تزداد لهم كلمة. لأنهم لم يحتملوا ما أمر به، وأن مست الجبل بهيمة تُرجم أو تُرمى بسهم. وكان المنظر هكذا مُخيفاً حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد. بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة. وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مُكملين. وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل ] (عبرانيين 12: 18 – 24)
لذلك عند ظهور الله الكلمة في الجسد لم يستعفى أحد من ان يسمع ولم يرتعب من المنظر، لأنه صار سلام وفرح عظيم ولم يوجد رُعب بل أناشيد الهُتاف بالسلام: [ وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم. وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أُبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مُقمطاً مضجعا في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله و قائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرة ] (لوقا 2: 8 – 14)
ولكن من الذي يستفيد ويدخل في هذا السرّ العظيم، سرّ الخلاص والحياة الأبدية، وينال هبة الإرادة الصالحة من الله !!!
الذي يستفيد حقاً، هو الذي ينهض الآن ويتوب ويرجع لله الحي [ يقول السيد الرب توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الإثم مهلكة ] (حزقيال 18: 30)، [ توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ] (متى 3: 2)، [ قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ] (مرقس 1: 15)، [ فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب ] (أعمال 3: 19)، [ فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل ] (أعمال 17: 30)، فليتب كل واحد ليسمع له الله ويسكب عليه من غنى الخلاص العظيم ليدخل في سرّ الحياة الأبدية في المسيح يسوع لأنه مكتوب: [ قد سمعت صلاتك قد رأيت دموعك هانذا أُشفيك ] (2ملوك 20: 5).
وأما من ذاق الموهبة السماوية ودخل في سرّ الحياة الجديدة وأخطأ وابتعد عن الطريق لأي سبب مهما ما كان، فمكتوب لأجله: [ هذا وإنكم عارفون الوقت إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم فأن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعُهر لا بالخصام والحسد. بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ] (رومية 13: 11 – 14)
المسيح الرب أتى إلينا فلماذا لا نأتي إليه، وما الذي يُأخرنا أو يمنعنا وهو الذي قال بفمه الطاهر: [ كل ما يعطيني الآب فإليَّ يُقبل ومن يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً ] (يوحنا 6: 37)، فالخلاص مقدم للجميع مجاناً، ويدخل في سره فقط كل من يأتي للرب تائباً ملتمساً وجهه متكلاً فقط على نعمته المُخلِّصة: [ ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح، بالنعمة أنتم مخلصون ] (أفسس 2: 5)، [ لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله ] (أفسس 2: 8)، [ لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس، مُعلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبرّ والتقوى في العالم الحاضر. منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح. الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويُطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة ] (تيطس 2: 11 – 14).
وربنا نفسه يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبنا وأعطانا عزاءً أبدياً ورجاءً صالحاً بالنعمة (2تسالونيكي 2: 16)، يعطيكم السلام بوفرة وسكيب غنى النعمة في قلوبكم آمين.
تم نسخ الرابط