داود
“..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي
(أع 13: 22)

داود النبي
مقدمة
يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: “الرجل المتناقض” الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: “وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية:
داود وشخصيته العظيمة
اسمه داود أو “المحبوب” يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،… ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،… ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات.
داود الحلو الجميل الروح
وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: “وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر”… ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،… لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!… ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: “الذي لم يكن له أين يسند رأسه”.. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!!…
متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!..
داود الرقيق القلب
وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير
في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: “أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف“…
والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،… وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: “فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي”… وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!… وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!… ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: “وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول“.
وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،… لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!..
وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،… وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه”… لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!!
كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،… ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!..
داود الصلب الإرادة
إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: “يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس”.. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،… إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،… عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،… لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: “كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب” حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،… كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!..
داود القوي الإيمان
تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!… إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: “قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك”... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: “اذهب وليكن الرب معك“…
وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم… وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!..
داود الشجاع الجسور
إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: “ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً”.. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: “وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني”.. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،… وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن”.. ترى هل عرفت السر؟!!.
داود الغيور الملتهب
كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!… وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم… ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: “أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب”.. لقد كان ذله الكبير أنه: “لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق” وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: “هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب”… عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!..
داود الواسع الصبر
ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،… فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: “لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها” فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: “وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب”.. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: “لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي“…
وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم”… أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!.
داود الوديع المتواضع
وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: “وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد”.. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!… طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!..
داود المحب الكبير
ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس “رباط الكمال”،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: “أحبك يا رب قوتي” “أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي“..
لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: “من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا”… وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق:باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته”… وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: “قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء”.. لم يكن داود “المحبوب، بل أكثر من ذلك “المحب”، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!.

هل تبحث عن  مديح القديسة العظيمة الشهيدة فيلومينا العجائبية

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي