الآباء الأولين
رؤيا يوحنا اللاهوتي
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
بسم الآب والابن والروح القدس،
الإله الواحد، آمين.
مقدمة
أهمية السفر
بدأ الكتاب المقدس بسفر التكوين الذي أعلن حب الله اللانهائي تجاه الإنسان، إذ خلق لأجله كل شيء وأودعه سلطانًا ووهبه كرامة هذه قدرها! لكن سرعان ما تبدل المنظر وتشوهت الصورة وظهر الإنسان الخارج من الفردوس مطرودًا، مهانًا، يحمل على كتفيه جريمة عصيان مرة، يخاف من لقاء الله، ويهرب من وجه العدالة الإلهية.
لكن شكرًا لله الذي لم يترك الإنسان يعيش في هذه الصورة التي بعثتها الخطية، بل ختم كتابه بسفر الرؤيا مقدمًا لنا صورة مبهجة: بابًا في السماء مفتوحًا، وفردوسًا أبديًا ينتظر البشرية، وأحضانًا إلهيّة تركض مسرعة تجاه البشر، و قيثارات سماويّة و فرحًا وعُرسًا سماويًا من أجل الإنسان!
يا له من سفر مبهج ولذيذ، يليق بكل مؤمن أن يمسك به ويحفظه في قلبه، ويسطِّره في أحشائه ويلهج فيه ليلاً ونهارًا، فهو سفر الرجاء، سفر النصرة، سفر التسبيح، سفر السماء!
1. سفر الرجاء
من يلهج في سفر الرؤيا يتكشف حقيقة العبادة المسيحية، إنها ليست مجرد واجبات تنفذ أو طقوس تؤدى، أو أوامر ونواه تراعى، لكنه يرى خلال هذا كله أيدٍ إلهيّة خفيّة تسرع نحوه لتستقبله وتحوطه وتنشله، وترتفع به نحو السماويات ليعيش شريكًا في المجد الأبدي!
من يتذوق سفر الرؤيا تتحول أصوامه مهما كثرت، وصلواته مهما طالت، وسجوده مهما زاد، وزهده وحرمانه وتركه وآلامه وصلبه كل يوم، إلى فرح وبهجة وسرور لا ينطق به. إذ خلال هذا السفر يهيم في الحب الذي يربط الخالق بخليقته، والمنتصرين بالمجاهدين، والسمائيين بالبشريين، عندئذ ينسى كل ألم وكل ضيق من أجل هذا الحب الخالد!
2. سفر النصرة
وحينما تدخل النفس في سفر الرؤيا كعروس تزور جنة عريسها ترى فيه فردوسًا مبدعًا ومجدًا مذهلاً معدًّا لأجلها. هناك تصادق عريسها، وتصطحب خدامه السمائيين، وتهيم في جو السماويات في عذوبة وحلاوة. عندئذ لا تخاف دهاء عدوها “إبليس”، ولا تضطرب منه، إذ تدرك قوة عريسها وتخطيطاته وتدابيره ومقاصده تجاهها.
3. سفر التسبيح
وإذ يختلس القلب وقتًا هاربًا من الأصوات الداخلية والخارجية، ليدخل مع العريس في داخل السفر في هدوء وصمت، هناك يسمع أصوات تسبيح وترنيم! فيتعلم لغة السماء: لغة الحب والفرح، لغة التسبيح غير المنقطع.
والجميل أنه لا يسمع تسابيح غريبة، بل يحس أنه سبق أن تعلمها في بيت أمه “الكنيسة” إذ يسمع “تسبحة موسى، وتسبحة الحمل، وتسبحه الثلاث تقديسات”. وهذه وغيرها لا تكف الكنيسة عن أن تدرب كل قلب على اللهج بها كما سنرى.
4. سفر السماء
وعندما ينسى القلب كل ما يدور حوله وينسحب من بين كنوز العالم ليدخل إلى سفر الرؤيا يُبهر مما يرى فيه من كنوز. يرى أمجادًا سماويّة قدر ما تحتمل الألفاظ أن تعبِّر: يرى حجارة كريمة وأكاليل ذهب وثياب بيضاء. فيربض القلب هناك، ولا يقبل أن ينحط مرة أخرى إلى الأرضيّات. يبيع كل لآلئه ليقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن.
كاتب السفر
أجمعت الكنيسة الأولى على أن كاتب السفر هو القديس يوحنا الحبيب الإنجيلي، ويظهر صحة ذلك من الآتي:
1. ما ورد في كتابات الكنيسة الأولى إذ نسبت السفر إليه.
2. أنه هو الرسول الذي كان معتبرًا في كنائس آسيا الصغرى المذكورة في السفر.
3. يؤكد لنا التاريخ أن يوحنا الحبيب نفاه الإمبراطور دومتيانوس إلى جزيرة بطمس التي شاهد فيها الرسول رؤياه (1: 9).
4. بالرغم من اختلاف موضوع هذا السفر عن إنجيل يوحنا، لكن وردت ألفاظ خاصة بالسفرين دون غيرهما مثل “الكلمة، الحمل، الغلبة…” وتكررت فيهما كلمة “الحق”.
5. ذكر الرسول اسمه صراحة أربع مرات في هذا السفر ولم يخفِ اسمه، وذلك لأنه يتحدث عن نبوات. فمن أجل الثقة فيها يلزم معرفة الكاتب الذي أوحى إليه بها الله، أما الإنجيل والرسائل الثلاث فلم يذكر اسمه فيها تواضعًا.
مكان كتابته
في جزيرة صغيرة على بعد حوالي 25 ميلاً من شواطيء آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) تُسمى بطمس أو بتمو، وتدعى حاليًا “بتينو”، كتبها الرسول وهو منفي (1: 9).
وترى قلة من العلماء أنه سجل رؤياه التي رآها في المنفي عندما عاد إلى أفسس. إلاّ أن هذا الرأي لا يستند على دليل، خاصة وأنه أمر بكتابة ما يراه بغير تأخير (1: 10-11).
ويوجد في هذه الجزيرة كهف يقول عنه سكانه أنه مسكن الرسول أثناء نفيه.
زمان كتابته
ترى الأغلبية أنها كُتبت بعد خراب أورشليم حوالي سنة 95م، ويقول القديس إيريناؤس عن هذه الرؤيا أنها أُعلنت في نهاية حكم دومتيانوس.
اهتمام الكنيسة به
بالرغم مما أثاره بعض الهراطقة مثل مرقيون من جهة قانونية هذا السفر، لكننا نجد الكنيسة منذ القرون الأولى تعطيه اهتمامًا خاصًا، لذلك قام بعض الآباء بتفسيره أو بكتابة مقالات عنه منهم: الشهيد يوستينوس إيريناؤس، أيبوليطس، ميلتون، فيكتوريانوس، ديوناسيوس الإسكندري، ميثوديوس، باسيليوس الكبير، غريغوريوس النزينزي، كيرلس الكبير، جناديوس.
صعوبته
يعتبر تفسير سفر الرؤيا أمرًا عسيرًا للأسباب:
1. بكونه سفر نبوي (رؤ 22: 7) وهو السفر النبوي الوحيد في العهد الجديد.
2. يتنبأ عن حقائق روحيّة سماويّة، لا يعبر عنها بلغة بشريّة، لهذا جاءت في أعداد ورموز وألوان وتشبيهات.
3. تحدث عن أمور لا شأن للمؤمن أن يدرك دقائق أسرارها، ولا غنى له عن التعرف عليها فلو عرف الأزمنة أو الأوقات لأصابه الخمول أو اليأس، ولو لم يعرف ما سيتعرض له من ضيقات أثناء جهاده لأصابه يأس وقنوط. لهذا يقدم لنا سفر الرؤيا الأحداث بالقدر الذي به يلتهب القلب غيرة ويمتليء رجاء دون أن يبحث عن أزمنة أو أوقات أو يهتم بمجرد حب الاستطلاع للحوادث المقبلة.
4. حملت كلماته معانٍ عميقة، وقف آباء الكنيسة في دهشةٍ أمامها! فقد كتب القديس إيرونيموس إلى الأب بولينوس أسقف نولا يقول: [إن أسرار سفر الرؤيا كثيرة قدر ألفاظها. فكل لفظ يحمل في طيَّاته سرًا. وهذا قليل بالنسبة لسمو شرف هذا السفر، حتى ليحسب كل مديح له قليلاً. لأن كل كلمة فيه تحمل معانٍ كثيرة. وإنني أمتدح فيه ما أفهمه وما لا أفهمه.]
ويقول عنه البابا ديوناسيوس السكندري: [مع أنه يحمل فكرًا يفوق إدراكي إلا إنني أجد فيه الحاوي لفهم سري عجيب في أمور كثيرة… وبالرغم من عجزي عن فهمه غير إنني لا أزال أؤمن أن هناك معانٍ عميقة وراء كلماته. فإنني لا أقيس عباراته ولا أحكم عليها حسب قدرة إدراكي بل أتقبلها بالإيمان وببساطة. أنظر إليها أنها حلوة ولذيذة لفهمي. فلا أرفض ما لا أفهمه بل بالأكثر أقف مندهشًا أمامه.]
مفتاح السفر
في هذا السفر يرافق الروح القدس النفس البشرية في طريق الأبدية، كاشفًا لحواسها الداخلية أن ترى وتسمع وتتلامس وتتقوى حتى تبلغ إلى العرس الخالد!
1. فيبدأ بإظهار “باب مفتوح في السماء”، لنصعد إليه بالرب يسوع الحمل القائم كأنه مذبوح. وماذا نرى؟
2. نرى أولاً “حال الكنائس السبع” التي تكشف عن مقدار الضعف البشري وقوة عمل النعمة في الكنيسة. وهنا يتقدم ربنا يسوع ليُعلن أنه هو العلاج الوحيد لكل ضعف فينا.
3. ثم يرتفع بها كما بجناحيّ حمامة تجاه الأبدية في طريق الصليب، طريق الألم، لترى الخروف يفتح “الختوم السبع”، معلنًا عن حالة حرب دائمة بين الله المهتم بأولاده والشيطان الذي لا يكف عن محاربة أولاد الله.
4. ونسمع “الأبواق السبعة” معلنة إنذارات الله تجاه البشر حتى لا يقبلوا أضاليل إبليس، بل يكونوا مرتبطين بالرب، كما تعلن عن قوة المرأة الملتحفة بالشمس ضد عدوّها التنين ومن يثيره “الوحش البحري والوحش البري”.
5. وترى “الضربات السبع” لتأديب الأشرار لعلهم يتوبون، كاشفًا عن الخراب الذي يحدق بالزانية وعُشَّاقها. وفي كل مرة تتكشف النفس على مرارة تعم البشرية، أو ضيق ينتاب المؤمنين، للحال يظهر شخص الرب يسوع في صورة أو أخرى يشجع ويعزي ويقوي أولاده حتى يتمموا جهادهم بسلام.
6. وأخيرًا يدخل الروح بالنفس إلى “أورشليم السماوية” لترى وتُبهر مما لا بد أن يكون من أجلها، ما أعده الله للبشر، كما ترى بعينيها إبليس عدو البشرية منطرحًا في البحيرة المتقدة بالنار.
أقسام السفر
أولاً: الكنائس السبع 1 -3.
ثانيًا: الرؤى النبوية 4 – 20.
ثالثًا: مجد أورشليم السماوية 21 – 22.
ملاحظة هامة: كثيرون شوَّهوا سفر الرؤيا بتحويل تفسيره إلى البحث عن تفاصيل حوادث مقبلة، وأمور ليس لنا أن نبحث فيها، تاركين المعاني الروحية السامية، التي يريد الرب أن يُعلنها لنا لنحيا بها وننمو روحيًا، لا أن نقيم من أنفسنا أنبياء، لنرى أو نعلن ما لا يمس حياة الإنسان وخلاصه، حتى لا نسمع ذلك التوبيخ “أعلِمونا المستقبلات، أخبروا بالآتيات فيما بعد فنعرف أنكم آلهة” (إش 41: 22-23).