رحبعام ونشأته
رحبعام ونشأته

عندما ولد رحبعام أطلق عليه سليمان هذا الاسم الذي يعني “مرحب الشعب” أو موسع الشعب، ولعله سليمان كان يحلم لابنه ما يحلمه في العادة الأباطرة بالنسبة لأولادهم،.. ولعله فردرك الأكبر الذي جاء بولده قبل أن يموت، وقال له: ها أنا يا ولدي أسلمك امبراطورية عظيمة، فلا تسمح أن يضيع منها شيء، وإلا ضحكت عليك في قبري!!… ولا أعلم إن كان شيء من هذا المعنى في ذهن سليمان، وهو يتوق أن يرى الامبراطورية العظيمة، التي أنشأها، وجعلها حلماً من الأحلام، لا في اتساع رقعتها فحسب، بل في الثروة الخيالية التي ملأ بها أورشليم، والمباني والقصور الشاهقة، والتجارة العظيمة، والفن، والمعمار، والموسيقى،.. وهو يتمنى أن ولده يتسلم هذه جميعاً، ليجعلها أضعافاً مضاعفة،.. على أي حال إن هذا حلم كل أب لابنه، وهو الحلم الذي يتمشى مع أعماق الطبيعة البشرية التي تتغلغل فينا جميعاً، وقد ذكره بناياهو بن يهوياداع لداود في قوله: “كما كان الرب مع سيدي الملك كذلك ليكن مع سليمان، ويجعل كرسيه أعظم من كرسي سيدي الملك داود”… وأغلب الظن أن عيني داود في تلك اللحظة ومضتا بنور لامع، وارتسمت الابتسامة على شفتيه، ولعله رفع صوته إلى الله، ليقول آمين يا رب ليكن هكذا!!… وجاء سليمان ووسع، وفعل، وعمل، الكثير، وولد له الولد الذي على الأغلب كان جميلاً كجمال أمه، وأبيه،.. وأطلق عليه الاسم “رحبعام”، وهو يحلم له بالرحب والسعة، من كل جانب من جوانب حياته ونفسه،.. وقد كان من الممكن أن يكون الشاب هكذا، وقد كانت معه الإمكانيات الكثيرة التي تساعده على ذلك، إذ كان له السهم الذهبي، الذي وضعوه شعار لأمير ياباني قيل أنه كان سيتغرب عن بلده فترة من الوقت، وكان هذا السهم يذكره أينما يتجه ويذهب بالأصل الذي ينتمي إليه، والأسرة التي ينحدر منها، وسواء صحت القصة بالنسبة للياباني أم لم تصح، فإن رحبعام بن سليمان كان يمكن أن يعود إلى آبائه وأجداده ليرفع رأسه، كأعلى ما يكون الارتفاع، وأسمى ما يكون العلو والمجد، ولعله سمع عن جده داود من القصص والأحاديث ما يمكن أن يصنع منه بطلاً لو ترسم خطى هذا الجد أو سار في سبيله، أو سلك سلوكه، وكان يمكنه أن يتوفر على الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد التي خرج بها سليمان إلى العالم، لينهل منها البشر أروع الحكم وأمجد الأمثال، وكان من المتصور أن النبع وقد بدأ من بيته ليجري في تيار الإنسانية كلها، أن يكون هو أول من يرتاده وينهل منه،.. وأعظم من هذا كله، كان هيكل الله على قيد خطوات منه،.. وكان يمكنه أن يجد سبيله إلى هذا الهيكل وهو يغنى: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله”… “ما أحلى مساكنك يارب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي، العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونة عشاً لنفسها حيث تضع أفراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك… لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار“…
على أن رحبعام -رغم هذه الامتيازات كلها- لم يحتج سليمان إلى أن يموت ويضحك عليه في قبره، إن صح أن الموتى يضحكون في قبورهم، فإن سليمان الحكيم بكى في حياته، وهو يرى ابنه يأخذ سبيله إلى الشباب والرجولة،.. لقد خضع الشاب لعوامل أعتى وأقسى وأقدر على الهدم والتحطيم، وكان لسليمان اليد الطولى في كل هذه العوامل،.. لقد تزوج سليمان نعمة العمونية، وهي أميرة عمونية يقطن أهلها الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ويبدو أنها كانت ذات جاذبية وتأثير عميق على الملك، حتى أنه بنى مرتفعة لمولك رجس العمونيين من أجلها،…، وإذا كانوا قد قالوا أن خلف كل ولد عظيم أم عظيمة، وإذا كان الأمريكيون في تقديرهم لهذه الحقيقة قد أقاموا نصباً تذكار ية لأم واشنطون، وأم ابراهام لنوكلن… فمن الجانب الآخر يمكن أن نقيم تمثالاً بشعاً للخراب والدمار لرحبعام بن سليمان، هو في الحقيقة نعمة العمونية الآتية من وراء الأردن تحمل معها ملوك رجس العمونيين، وعجز الشاب رحبعام عن أن يعرف السبيل إلى إله إسرائيل، لأن أمه أرضعته الوثنية على مرتفعة ملكوم رجس العمونيين!!…
وقد ضاعف النكبة والمأساة سلوك الأب تجاه ابنه، ولو سئل رحبعام الأحمق: لماذا جاء في حماقته على العكس من أبيه الحكيم الذي كان مضرب الأمثال في الحكمة؟ لربما جاء الجواب، كما ذكره ذلك الشاب الذي اقتيد إلى المحاكمة لارتكابه جريمة مروعة، وكان أبوه من أشهر القضاة في البلد، وإذ قيل له: كيف يمكن أن يرتكب مثل هذا الجرم، وأبوه من أعظم رجال العدالة والقضاء،.. قال: وهذه هي المأساة… لقد كان أبي غارقاً في كتب القانون دون أن يكون له متسع من الوقت لكي يعلمني ويهذبني وينبهني ويرعاني،.. لقد ترك سليمان الغلام، دون أن يعني به، لأنه كان مشغولاً عنه بالمهام التي تواجهه كل يوم في امبراطوريته العظيمة الواسعة،.. أجل وهذه هي المأساة المحزنة، لقد ترك الأب المجال والميدان للأم العمونية، لتصنع من ابنها الإنسان الوثني القلب، والجالس على عرش يهوذا،.. وهي مأساة تتكرر بهذه الصورة أو تلك في قلب البيوت المسيحية، حتى أن الناس تتعجب. كيف يحدث أن أبناء القادة المسيحيين والرعاة والخدام والشيوخ يكونون على النقيض تماماً من قصة آبائهم أو حياتهم أو سيرتهم،.. وقد نسى بيته وأولاده بالتمام،.. أو أنه لا توجد الأم التي يمكن أن تصنع التعويض، أو تملأ الفراغ في هذا المجال… كان سليمان يحلم لابنه بالأحلام العظيمة الوردية، وكان يمكنه أن يحول هذه الأحلام إلى الواقع، حتى ولو كان مشغولاً، بأن يفعل ما فعله أبوه فيه، عندما سلمه للنبي ناثان، ليتولى إرشاده ورعايته وتهذيبه وتعليمه،.. كان من الممكن أن يجد له المعلم الأمين الصادق الذي يتولى الصغير، بما يمكن أن يجعل حياته متمكنه الشركة والارتباط العميق بالله،.. ولكننا لا نعرف أن سليمان فعل شيئاً من هذا القبيل فإذا أضيف إلى ذلك ما يقولونه: “لقد تزوج سليمان ألف امرأة، وكان له ابن، وكان هذا الابن للأسف أحمق”… ويكفي أن ينشأ أي غلام في قصر فيه ألف امرأة، وهو محاط بالترف، والتنعم، والحياة الشهوانية الصاخبة،… وهو يطلب فيجاب طلبه في الحال، وهو يتكلم فيمتدح كلامه، حتى ولو كان أسخف كلام، وهو يشير بإصبعه، فيجد عشرات أو مئات الخدم والحشم تلبي النداء، مثل هذا الشاب الترف المدلل، كان أحوج الكل إلى ما قاله سليمان في أمثاله: “من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب” “لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية”… ولو أن سليمان مد عصاه إلى ظهر رحبعام، لربما تغير تاريخه وتاريخ المملكة بأكملها لكنه لم يفعل، فمهد له بحياته وتصرفاته وتدليله الطريق الرهيب إلى الضياع الذي وصل إليه فيما بعد!!.. ولا يمكن أن ينسى أخيراً في هذا المجال نكبة المعاشرات الردية، في ذلك المجموع الكبير من الزمان والصحاب الذين خالطوه وداهنوه وتملقوه، ووصفوا بالقول: “الأحداث الذين نشأوا معه ووقفوا أمامه”… هذه هي العوامل المتعددة التي أثرت في رحبعام، لينشأ فتى متكبراً أنانياً ضعيفاً ضيق الأفق، أو كما وصفه ابن سيرا: “وافر الحماقة ويعوزه الفهم!!..

هل تبحث عن  كلمات ترنيمة زاد السرور في هنا الأفراح *

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي