زكريا ورؤاه الثمانى المجيدة

وهى ثمانى رؤى متتالية مجيدة ، يقول البعض إن النبى رآها متلاحقة فى ليلة من الليالى ، وقد نهض الناس لبناء الهيكل وربما كان ذلك فى تمام 520 ق.م. … ومن نعم اللّه على الإنسان أنه يعطيه الرؤيا ، … وهى بركات روح اللّه التى تحدث عنها يوئيل النبى ، عندما ينسكب روح اللّه على كل بشر ، فيتنبأ بنوننا وبناتنا ، ويرى شبابنا رؤى، ويحلم شيوخنا أحلاماً ، والحياة فى الواقع ، لا يمكن أن تكون صحيحة أو مجيدة بدون هذه الرؤى والأحلام ، ومن ثم فإن الروائيين والكتاب والشعراء ، وهم يتخيلون عالماً أفضل وأعظم وأمجد ، تمتد رؤاهم عبر الواقع التعس المحزن الأليم ، … وقد قال أحد الكتاب : « إن الرجل الذى يستطيع أن يتكلم إلى القلوب المهزوزة والنفوس التعسة ، لابد أن يكون ذلك الإنسان الذى يعرف قلبه ونفسه ، ومقدار ما عانى من اضطرابات مماثله لما يعانيه الناس الآخرون فى الحياة ، .. الإنسان الذى خاض معركته ، وجابه الظلام ، ووصل إلى النور الذى أعطاه اللّه إياه فى مواجهة الآلام ،… هذا الإنسان الذى منحة اللّه لمسة الحنان والرفق تجاه الشكوك والتعثرات والتخبطات التى تحيط بالناس حوله » … ولابد لنا أن نرى النبى بهذا المعنى ، إذ أنه ليس الإنسان الذى يتلقى الوحى آلياً ، أو الذى لا يدرك معنى الشكوك التى يكافحها ، أو التجارب التى يندد بها ، أو اليأس ، أو البؤس الذى يريد أن يخلص الناس منه ، … إنه الإنسان الخاضع لنفس الآلام التى يقع تحتها الآخرون ، وقد جرب بتجاربهم ، ولكنه بروح اللّه تعلم الانتصار والغلبة على المصاعب والمشاكل والمتاعب التى واجهها ، وهو من نبع الإختبار ، وبسلام الإيمان ، يمكن أن يحارب فى معارك الرب ، ويقود الناس إلى النصر فيها » … وبهذا المعنى كان زكريا النبى ، وهو يكشف رؤى اللّه للناس !!
فإذا تصور الناس فى زحام الحياة ومتاعب الأيام ، أن اللّه قد ترك الأرض والقوى فيها يأكل الضعيف ، والمستبد يهلك الوادع ، وأن الأمور تسير فى كل شئ وفق الأهواء أو النزوات ، وبدا كما لو أنه ليس هناك إله يحكم الناس ، أو عناية تتمشى فى حياتهم ، فإن ملاك اللّه يظهر لزكريا ليرى شجر « الآس » ، وهو ذلك النوع من الشجر القصير الصغير ، الظليل الجميل الدائم الاخضرار ، العطرى الرائحة ، وهو الاسم العبرى الذى أطلق على أستير الملكة ، وربما أطلقه مردخاى عليهم إشارة إلى جمالها الفائق الفتان ، وقد علته مسحة من الكابة والوحشة والتعاسة التى أورثها إياها الفقر واليتم والسبى ، … وأورشليم كانت بهذا المعنى شجرة آس ، وهى تعود من السبى والمنفى والألم ، ولكنها ما تزال ممتلئة بالتعاسة والوحشة والبؤس ، … وربما خطر على بال الناس فيها أن اللّه قد ترك الأرض ، … ولكنه يؤكد أنه يرسل خيله لتجول فى الأرض كلها ، وهو لا ينسى أحداً ، ولا يهمل أحداً ، ولا يتغاضى عن أحد.
ومهما اختلف لون الخيل الحمر والشقر والشهب ، ومهما كانت ترمز إلى ألوان العناية فى تعدد مظاهرها ، … إلا أن المعنى المقصود هو أن اللّه لا يغفل عن شئ أو يهمل شيئاً فى الأرض !! .. وإذا كانت عناية اللّه تمتد إلى كل الأرض ، فإنها تهتم على وجه الخصوص بشجرة الآس ، التى ترمز إلى أورشليم ، أو إلى كنيسة اللّه العلى ، … التى تحيط بها المتاعب أو الضيقات ولكنها ليست متروكة على الإطلاق من اللّه .
فإذا تحولنا إلى الرؤيا الثانية ، فإننا نبصر هناك أربعة قرون ، هى رمز للشر الذى سيطر فترة من الزمان ، وبدد يهوذا وإسرائيل وأورشليم ، وهذه القرون الأربعة ، فى تصور الشراح ، هى ممالك بابل ، ومادى وفارس ، واليونان ، وروما ، الممالك الأربع العالية التى بددت أورشليم ، والتى خرج فى إثرها الصناع الأربعة وهم قوى اللّه العظيمة الأدبية ، ورآها بعضهم البر ، والعدالة ، والضمير ، والعناية ، وهى التى ستتغلب آخر الأمر ، وتقضى على كل المفاسد والاثام والشرور ، وتؤكد أن اللّه لا يمكن أن يتخلى عن شعبه وأبنائه ، وستسقط كل القوى الطاغية تحت أقدامهم ، ..
فإذا جئنا إلى الرؤيا الثالثة ، فنحن أمام غلام يحاول أن يقيس أورشليم ، ليرى كم طولها وكم عرضها ، وقد بدت أمامه صغيرة ضعيفة مخربة ، ولكن الملاك يمنعه ، لأنه لا يمكن أن تقاس أورشليم التى ستتسع لكل المؤمنين فى الأرض ، وهى ليست أورشليم القديمة ، التى تعرضت للغزو والفتح والتدمير ، بل أورشليم السماوية ، كنيسة اللّه التى ستغزو وتمد أطنابها فى الأرض كلها .
فإذا كان هناك خوف من آثام الماضى ، وهل يمكن أن تتكرر ، فنحن إزاء الرؤيا الرابعة ، والتى يظهر فيها يهوشع الكاهن العظيم ، وهو يمثل شعب اللّه ، لابساً ثيابه القذرة ، وإذا بالنعمة الإلهية تخلع عنه ثيابه ، وإثمه ، وتلبسه ثياباً مزخرفة ، وتضع على رأسه العمامة الطاهرة ، عندما يأتى عبد الرب « الغض » المسيح الذى بنعمته وروحـــه يزيل إثم الأرض وشرها بدم صليبه !! ..
فإذا ظهرت االصعوبات القاسية كالجبال الرواسى فى طريق بيت اللّه وعمله وخدمته، فنحن نرى فى الرؤيا الخامسة منظر المنارة التى كلها ذهب ، وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها ، وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان … إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره ، .. ونحن هنا إزاء بيت اللّه الذى يشع منه النور ليملأ الأرض كلها ، وإزاء النعمة التى تجعله دائماً مضيئاً ومنيراً ، فإذا كانت هناك صعوبات هائلة ، فى طريقه ، فإن الجبل يضحى سهلا لا بقدرة الإنسان ، أو قوته ، أو جهده البشرى ، بل بقوة وعمل روح اللّه .
فإذا قيل : ولكن المدينة ما تزال ممتلئة بالأشرار والمجرمين واللصوص والأثمة والخطاة ، فنحن هنا إزاء الدرج الطويل العريض الذى رآه فى الرؤيا السادسة والذى يحمل اللعنة والملعونين ، لإبادة أسمائهم من الأرض ..
فإذا قيل أيضاً : ولكن إلى متى يكون هذا ، ومتى سيبقى الشر بعيداً عن النهوض مرة أخرى ؟؟ … فنحن نأتى إلى الرؤيا السابعة فى إيفة الشر التي تجلس فيها امرأة ، وقد أغلق على فمها بثقل من الرصاص ، وحملت على أجنحة لتدفن في أرض شنعار ، حيث لا تقوم لها قائمة بعد ..
وحتى يبدو هذا مؤكداً فنحن آخر الأمر أمام الرؤيا الثامنة ، التى تتحدث عن مركبات اللّه المنتصرة التى تخرج إلى كل مكان فى الأرض ، .. ومن الواضح أن الخيل التى تقود المركبات مختلفة الألوان ، فالحمر فى عرف الشراح تشير إلى الدم والمعارك التى يستخدمها اللّه كواحدة من سبل العناية وإتمام مشيئته ، والدهم – وهى أقرب إلى السواد – تشير إلى الحزن والمجاعة ، والشهيب الأقرب إلى البياض ، تتحدث من البهجة والمسرة ، والمنمرة الشقر ، هى مزاج الآمال والآلام والراحة والمتاعب ، … وقيل إن الحمر تتجه إلى الشمال إلى بابل ، وتتبعها الدهم إلى مادى وفارس ، والشهب نحو اليونان !! والنمرة نحو روما ، ..
فإذا أخذت الرؤى جميعها معاً ، فإنها تبدو أمامنا فى صورة الصراع الظاهر فى سفر الرؤيا بين الخير والشر ، وأن الشر مهما يفعل فسيسقط مهما بدت قوته ، ومظهره، وسلطانه ، وعمله !! … وأن الحق والخير والجمال والنور ، مقرر لها الغلبة من أول الأمر ومن ابتداء المعركة !! .. أما زكريا نفسه ، يبدو أمامنا فى صورة الرجل الذى يلمع وجهه بالرجاء ، فى قلب الظلمة الداكنة !!

هل تبحث عن  مناين الكارز

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي