بدأ النص الكتابي فقال: ”وهؤلاء مواليد بني نوح، سام وحام ويافت، ومن وُلد لهم من البنين بعد الطوفان” (تك 10: 1)، وجعل الكاتب نفسه في القرن الخامس ق م، فقدّم لنا لوحة تاريخيّة ولا اروع. فهّمه ان يجمع البشرية في مسيرة تصل بها الى ابراهيم. ففي خط سام، نصل الى تارح الذي ولد ابرام (او ابراهيم) وإخوته (تك 11: 27). هي نقلة جديدة، نقلة نوعيّة. لم نعد على مستوى الشعوب التي تقف البعض بجانب بعضها ، مسالم او مقاتلة، بل امام انطلاقة الايمان في طاعة تبدأ مع ابراهيم والذي رحل كما قال له الربّ (تك 12: 4)، وتنتهي بيسوع المسيح الذي جاء ليجعل الرعيّة واحدة بإمرة راعٍ واحد فاستعد لأن يضحي بنفسه من اجل الخراف.

أ) يافث

اورد الكاتب اسماء ابناء نوح، وجعل ساماً في المقام الأول. ولكن حين وضع السلسلة البشرية التي تتحدّر منه، بدأ بيافت وانتهى بسام، ليصل في النهاية الى ابراهيم. من يضمّ يافت؟ العالم الهندو اوروبي الذي يبدأ بايران ويمرّ في تركيا وفي اليونان وجزرها كي يصل الى إيطاليا. يذكر جومر او القميريّين الذين اقاموا في فينافي روسيا، وذكرتهم الكتابات للمرة الاولى في سنة 714 ق م. وفي النهاية اتوا الى آسية الصغرى الشرقيّة. ويذكر الليديين الذين حكمهم جوج في ماجوج عاصمة ليدية، في تركيا الحاليّة. ماداي شعب اقام على هضاب ايران الحاليّة وتحالف مع الفرس على البابليين. وياوان هي إيونية والمستعمرة اليونانية على شاطىء البوسفور. واقام توبال وماشك على شاطىء البحر الأسود. وقد تعني تيراسُ اجداد الاتروسكيّين الذين تحاربوا مع رومة في القرن الثامن ق م. ويصل بنا الكاتب الى رودس وقبرس والى اسبانيا مع ترشيش حيث وُجدت مناجم الذهب.

هل تبحث عن  مريم فعلت مشيئة الآب: “ليكن لي بحسب قولك”

ب) حام

ممّن تألف نسل حام في الكتاب؟ كوش او بلاد النوبة التي تضمّ جنوبي مصر والسودان والحبشة. ثم مصرايم اي مملكتي مصر الجنوبية والشمالية. نستطيع القول: المصَرين فوط هي ليبيا باسم اول قبيلة اقامت في تلك البلاد. اما كنعان فضمّ صيدون ومعه صور، وجزءاً من الشاطىء السوري، وعدداً من القبائل التي اقامت في فلسطين.

في الواقع، نستطيع القول ان الكاتب تطلّع نحو مصر وما بعدها، فوصل الى القارة الأفريقية. وستُذكر كوش في إش 11: 11 مع عدد من الشعوب التي يفتديها الربّ. ”وفي ذلك اليوم، يعود الربّ فيمدّ يده لافتداء بقيّة شعبه (ولم يقل شعوبه، لأن البشريّة كلها شعب الله الواحد) في اشور ومصر وفتروس وكوش وعيلام وشنحار وحماة، وفي جزر البحر… كان نداء اول مع الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى. وها هو نداء ثانٍ لا يترك شعباً من الشعوب بدون نداء. في هذا المجال، يوسّع اشعيا حدود شعب الله الى ابعد من فلسطين، فيصل الى اشور في الشمال والى مصر في الجنوب، بحيث تعبد مصر الربّ مع اشور، مع حضور الربّ في فلسطين كجسر يجمع الشعبين المتخاصمين: ” وفي ذلك اليوم، يكون طريق من مصر الى اشور، فتجيء اشور الى مصر، ومصر الى اشور” (اش 19: 23). وحين تكون مصر في ضيق، تستطيع ان تصرخ، كما سبق للعبرانيين ان صرخوا، فيأتي الربّ ويخلّصهم: ” فإذا ما صرخ المصريون الى الربّ في ضيقهم، ارسل لهم مخلصاً ومحامياً فينقذهم” (إش 19: 20). عندئذٍ يعرفون الربّ ويعبدونه، وينذرون له نذوراً. لا شك في انه ضربهم حين استعبدوا الشعوب الغريبة، ولكنه ”يشفيهم حين يرجعون اليه ويستجيب لهم” (اش 19: 22). وهذا سوف يتمّ في ميلاد يسوع ووصول الانجيل الى مصر.

هل تبحث عن  ‏عندما تعجز كل طرقك البشرية

ج) سام

وجاء سام في نهاية السلسلة، لأنه هو الذي يتوقّف عليه الكتاب. قال فيه: ”هو ابو جميع بني عابر، واخو يافث البكر” (تم 10: 21). من هم اولاده؟ عيلام او هضاب ايران. اشور او شمال العراق. ارفكشاد او القبائل الحوريّة التي اقامت شرقي نهر دجلة. الأراميّون الذين اقاموا في دمشق وحماة وغيرهما من المدن. وذُكر عوص، موطن ايوب في شرقيّ الاردن. كما ذُكر ابناء الجنوب في الجزيرة العربيّة، ومنهم مملكة سبأ التي جاءت ملكتها في زيارة الى سليمان (امل 10: 1- 13). وحضرموت مع اوفير التي اشتهرت بذهبها.

الساميون هم سكان آسيا، بقدر ما عرف الكاتب منها، ولا سيّما بعد ان وصلت الفيلة من الهند او بعد ان سُمع عن اخبارها. وهم يتوزّعون في عشرة اسماء، كما كان الأمر بالنسبة الى آباء ما قبل الطوفان، وقد ذكرنا منهم انوش واخنوخ ونوحاً… فالعدد عشرة هم ضعف خمسة الذي هو رقم مقدّس. وبين هذه الاسماء ما له معناه. فإن فالج يدل على انقسام الأرض. ورعو يرتبط بالرضى. تارح يجعلنا قريبين من مدينة تل تورحي في حوض البليخ (العراق الحالي). ناصور يشير الى الخصام الذي يجعل الناس يتناحرون.

وانتهت سلسلة الساميين، مع عائلة قارح، التي هي في شمال العراق. مع ابناءهم الثلاثة: ابرام، ناحور، هاران (تك 11: 27). غير اننا نلاحظ ان هاران يرتبط بأور التي هي في جنوب البلاد، والقريبة من البصرة الحالية. فإلى اور مضى المهجّرون بعد هزيمة سنة 587 ق م، ودمار اورشليم وحريق هيكلها. من هناك اتى ابراهيم، ماراً بحاران، في الشمال، قبل ان يصل الى فلسطين. ومن منطقة اور يعود المنفيّون كي يواصلوا الارث الذي تسلّموه من ابي الآباء حين رحل من ارضه وعشيرته وبيت ابيه” (تك 12: 1). في الواقع، كلّ مؤمن هو في رحيل، ولن يتوقّف قبل ان يدلّه الله على الموضع الذي يقف فيه. ذاك كان وضع ابراهيم حين مضى ليذبح ابنه على الجبل، بعد مسيرة ثلاثة ايام. ” رفع ابراهيم عينيه فأبصر المكان من بعيدٍ” (تك 22:4). هذا الموضع هو الموريا حيث يتراءى له الله، وهو الجبل الذي سيُبنى عليه الهيكل كما سوف يقول التقليد اللاحق، ووضع الكاتبُ موسى ايضاً مع القبائل العبريّة: حطوا الرجل عند قدمي جبل سيناء، وهناك رأوا الربّ وسمعوه كلّمهم. ووضع المجوس ايضاً الذين جاؤوا من مكان بعيد، فوصلت بهم المسيرة الى البيت حيث” وجدوا الطفل وامّه مريم، فركعوا وسجدوا له. ثم فتحوا اكياسهم واهدوا اليه ذهباً وبخوراً ومراً” (متى 2: 11).

هل تبحث عن  مزمور67 |يُبَارِكُنَا اللهُ، وَتَخْشَاهُ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي