سبّحوا الله في قدسه
المزمور المئة والخمسون

1. هذا المزمور هو مديح وشكر للرب يدعو فيه المرتّل كل الخلائق الحيّة إلى مشاركته في فعل العبادة لله والانشاد له. وكما أن كل كتاب من كتب المزامير الخمسة انتهى بالمجدلة (41: 14؛ 72: 18؛ 89: 53؛ 106: 47)، كذلك يُنهي هذا المزمور الكتاب الاخير من المزامير وسفر المزامير كله بمجدلة موسّعة: كل نسمة فلتسبح الرب. هللويا.

2. النشيد النهائي في المزامير: هللويا. المجد لك يا رب.
نلاحظ أن المزمور الاخير هو مزمور مديح وشكر. آخر كلمة من كلمات المزامير هي هللويا. فكما أن المزمور الاول طبع السفر كله بطابع البركة الآتية من عند الله، كذلك أراد المزمور 150 أن يجمع كل كلمات المزامير في نشيد مديح وشكر، في كلمة هللويا. ومهما كان الضيق الذي يحسّ به المؤمن، ومهما كانت صرخات الألم والتساؤلات المريرة التي يعبّر عنها، فالكلمة الاخيرة هي كلمة مديح وشكر، ومكان المديح هو الهيكل على الأرض، والفلك في السماء. وسبب هذا المديح هو أعمال الله العظيمة الجبارة. من أجل ذلك، يدعو المرتّل كل آلات الموسيقى والرقص لتشارك المؤمنين نشيدهم وتساعدهم على الصلاة.

3. تتردّد كلمة “هللوا” عشر مرات كما تتردّد كلمات الخلق عشر مرات في بداية العالم (تك 1: 1 ي)، وكما تتردّد كلمات الوصايا العشر التي أعلنها الله لشعبه على جبل سيناء (خر 20: 1 ي) عشر مرّات. ويتوجّه نداء التسبيح هذا إلى جماعة المؤمنين في الهيكل، وإلى جماعة سكان السماء (29، 148)، لأن ليتورجية السماء وليتورجية الأرض هما ليتورجيا واحدة. سبحوا الرب الخالق وعزَّه، سبحوا الربَّ المخلّص وعظمته. إله العهد حاضر دائمًا، والمؤمنون الآتون إلى الهيكل يقفون بحضرته، ينشدون له ويدعون كل نسمة إلى أن تشاركهم انشادهم والتسبيح.

4. إن أعمال الله العظيمة تدفع شعب العهد الجديد المجتمع حول يسوع المسيح إلى إنشاد الرب انشادًا جديدًا وعظيمًا بحسب كلام مز 22: 32 الذي تردده كلمات الرسالة إلى العبرانيين (2: 12): “سأبشّر باسمك اخوتي وأسبحك في الجماعة”. وبما أننا في نهاية سفر المزامير، فنحن نتذكّر كلمات القديس بولس في الرسالة إلى أهل أفسس (5: 19): “تحدّثوا بكلام المزامير والتسابيح والأناشيد الروحية. رتّلوا وسبّحوا للرب من أعماق قلوبكم، واحمدوا لله الآب حمدًا دائمًا على كل شيء باسم ربنا يسوع المسيح”.

هل تبحث عن  مرحضة

5. يقسم سفر المزامير خمسة أقسام. وقد لاحظنا أن كل قسم يرتفع فوق الآخر في تتابع منظَّم مثل درجات سلَّم. ثم تبيَّنا، انطلاقًا من علامات اتفقنا عليها، أن آخر كلمات كل قسم تدلّ على توقّف في الخطاب على إيقاع في الفكر، وتحدد ما يسبق بعبارة مديح وشكر: “مبارك الرب إلى الأبد”. “آمين. آمين”. هذه الكلمات تشير إلى فعل شكر يدوم إلى الأبد، لأننا لا نكتفي بأن نقول مرة واحدة “آمين” بل نردّد مرة ثانية علامة الديمومة في الشكر. وفي كل من هذه الاقسام أعطي لنا أن نلاحظ خيرًا خاصًا تأتينا به السعادة بواسطة عمل الله. وحين تجول نفسنا على التوالي وبانتظام في كل من الخيرات التي تفحصّتها، تجد نفسها دومًا موضوعة في اتجاه خير أرفع لتصل يومًا إلى السعادة السامية.
هذه السعادة هي مديح الله، وهي تتمُّ بكلماتها في كل القديسين حسب ما يقول المزمور الاخير: “سبحوا الله في قديسيه”. فهناك يوجد جلد قوته أي المناعة في الخير. هناك يوجد “ملك الله” لأن الطبيعة لم تعد خاضعة للخطيئة. فحين يتراجع سلطان الانسان يمارس المديح “حسب اتساع عظمته”. وليس هذا بصوت خفيف، بل ينافس ضجيج الابواق. “سبحوا الرب بصوت البوق”، يقول المزمور. وحين يتشابه تآلف الكون بالتنوّع ووجهات الفضائل المختلفة تصبح لله أرغنا كفوءًا لأن توقع الأناشيد. ويستعمل المزمور اسم الكنارة والقيثارة ليعبّر بالصور عن هذه الموسيقى. وبعد أن يضع جانبًا كل عنصر بشري أصم وبلا صوت، يمزج مع الابواق السماوية صوت الآلات الوترية المناسبة حين يقرع ضرب الطبول. فالاوتار المشدودة على آلة تشير إلى الثبات الذي يقاوم الشر في كل فضيلة ولا يلين أبدًا.
حينئذ يُسمع تآلف الصنوج المنضمّة إلى الاوتار. فكل مرة تطن الصنوج تستيقظ الحميّة للرقص الالهي. تتّحد طبيعتنا بطبيعة الملائكة. هذا هو معنى الآية، على ما يبدو لي: “سبحوا الرب بالصنوج المسموعة”. وهذا الجمع بين الملائكة والبشر، وبعد أن يعود هؤلاء إلى الاتجاه الذي وضع لهم في البدء، يتم النشيد الموقع للقائم المشترك في فعل الشكر. ينشدون الله الواحد بالآخر والواحد مع الآخر لرحمته من أجل البشر، ينشدون شكره دائمًا. هذا ما يعنيه تناسق الصنجين. فصنج هو طبيعة الملائكة السماوية وآخر هو طبيعة البشر العاقلة، فصلتهما الخطيئة. وحين تجمعهما من جديد رحمةُ الله للانسان، يرنّ هذا المديح المكوّن من اتحاد أصواتهما والذي يقول عنه الرسول العظيم بولس: “فليعلن كل لسان في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم أن يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب” (فل 2: 10- 11). ثم يكون نشيد الظفر لهذين الصنجين. يتولد تناسقهما من إعدام العدوّ. لقد فني وتحوّل إلى العدم. لهذا سيتمُّ مديح لا ينقطع في كل نسمة بخشوع واحد دائم. فالمديح لا يجد له مكانًا “في فم الخاطئ” كما يقول الكتاب (سي 15: 9). لهذا فكل نسمة تمدح الرب في الدهور الابدية لأنه لن يكون خطيئة ولا خاطئون.
هذا هو سبيل السعادة. إنه كما علمتنا هذه الفلسفة التي تضمَّنتها المزامير والتي تدخل دومًا في درجة أقوى وأعلى في ممارسة الفضائل، أولئك الذين يسيرون نحو القمم. هدفه أن يوصل أولاً إلى هذا القدر من السعادة الذي بعده لا مكان للفكر العاقل مع تخميناته وافتراضاته ولا مكان للعقل الذي يستنتج. أما رجاؤنا الذي أمام رغبتنا ويسبقها في سعيها، فيبقى عاجزًا كل مرة يقترب من هذه الخيرات التي لا مثيل لها. فالذي يتجاوز الرجاء هو أفضل من الرجاء. ويمكننا أن نشهد أنه في تنظيم المسيرة التأملية وفي بداية الخطاب عن الحياة السعيدة، تلعب فلسفة المزامير دورَ باب الدخول. فهو وإن فُتح بخفر يستطيع أن يبعدنا عن الشر.
هذا ما علّمتنا إياه كلماتُ سفر المزامير الاولى فقالت لنا إن بداية السعادة في أن تجعلنا غريبين عن الشر. ثم تمدّ يدها إلى الضالين لتدلهم على طريق الشريعة. وتعدهم بفضل مثل هذه الحياة بالتشبّه بشجرة دائمة الاخضرار. ففي الاحزان التي تأتينا في الصعوبات، ترينا الطريق التي تقود بصعوبات متتالية إلى أعلى قمم السعادة، ذلك الذي يسلّم يده لتقاد في هذا الاتجاه.
هذا ما علّمك إياه فهم المزمور الاخير. فبعد إعدام الشر إعدامًا كاملاً، كل شيء يكون قديسًا في الكائنات، ومديحهم يكون جماعيًا. وهذا المديح يكون في “جلد قوته” مساويًا في الجميع، لأنهم اقتنوا اللامبالاة أمام الشر. وينضم إلى عظمته صوتٌ دينيّ كصوت بوق قوي. فحين تتآلف الخليقة كلها في جوقة واحدة، كائنات السماء وكائنات الدنيا معًا كالصنوح، المخلوقات العقلية والمخلوقات التي تحفظها الخطيئة منفصلة، كل هذه تتفتّح وتحقّق موسيقي سمفونيتنا الجميلة. وحين تتّحد طبيعتنا بطبيعة الملائكة ويتولّد جيش السماء من هذا التزاوج، يرنّ نشيد الظفر لمجد الله المنتصر. حينئذ يرتفع المديح من كل نسمة فيعظّم عمل النعمة إلى الأبد. ونموّ الجوقة السماوية هذا يفيض دومًا السعادة التي هي حقًا سعادة. قربُها يعجز الفكر في تخميناته ويعجز رجاءنا. وهي أن ننال ميراثًا لا نقدر أن نعبّر عنه أو نفهمه. هي حالة أفضل من كل فكر “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن وما لم يحط به قلب بشر” (1 كور 2: 9). هكذا حدّد الرسول الالهي الخيرات المحفوظة في المكان المقدس. (غريغوريوس النيصي).

هل تبحث عن  الإبركسيس فصل من أعمال آبائنا الرسل الأطهار ( 2 : 38 - 47 ) يوم الاثنين

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي