طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قِبَل الرب – لوقا 1: 45
طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما – لوقا 11: 27
+ حملت مريم المجد الغير منطوق به في أحشائها. واحتضنت اللهيب الفائق بين زراعيها، وقدمت لذاك الذي يقوت الجميع لبنها، وأحبته من كل قلبها إذ صار هو كل حياتها وخلاص نفسها وبهجتها ومسرتها الخاصة، فلا عجب أن ظلت تحفظ بتوليتها لهُ وحده، لأنها إناء صار مخصصاً لهُ لا يدخل فيه أو يخرج منه احدٌ آخر سواه قط.
فنحن الآن نقف جميعاً معاً أمام الأرض المقدسة التي صارت فلاحة الله الخاصة، أمام عذراء الدهور، عذراء بسيطة للغاية تحمل إيمان حي في داخلها يفوق قامة الأنبياء والقديسين جميعاً، فقد كرست بتوليتها ببساطة قلب على يد ملائكة وروح الله القدوس الذي تذوقت عمله في باطنها سراً، كما نالته يوم الخمسين أيضاً فصارت في كل الأحوال مقر حقيقي وسكنى دائمة لله.
أنها العذراء التي صارت سماء جسدانية مملوءة بالنور الفائق للطبيعة، فصار نورها منفرد من نوع خاص، ذات سرّ عظيم أدهش الملائكة وقوات السماء كلها، بل والبشرية احتارت واندهشت جداً أمام تواضع قلبها وبساطة قبولها عطية الله بتصديق الإيمان الصريح العميق، الإيمان البسيط بساطة الأطفال الصغار، والعميق عمق حكماء الناظرين الله، هذا الإيمان الحي الذي يفتقر إليه الكثيرون اليوم!!!
أننا اليوم نقف أمام إناء من نوع خاص ممتلئ نعمة، مُكرس ومخصص لله الحي عن طيب خاطر وببهجة في صمت عجيب حير كل من أقترب منه، وهنيئاً لمن يقترب بهدوء ليشاهد وينظر معنا كيف يكون الإيمان الحي، الإيمان الصادق الصريح، وكيف تتقبل النفس عطية الله بدون جدل أو فحص، بل بالبساطة الطفولية وبالثبات والعزم الرجولي بأمانة للنفس الأخير حتى الموت.
يا إخوتي أننا حقاً أمام سرّ عميق عظيم متسع، فلا ينبغي أن نعبر عليه أو نراه ونشكر الله ونَمُرَّ عليه مرور العادة ونتعجب ونندهش قليلاً ثم نمدح ونُعظم وفي النهاية نمضي كالكثيرين وكل شخص يذهب إلى حاله، ثم في كل سنة نأتي في مثل هذه الأيام (مرة أُخرى كالعادة) ولا نتعلم ما ينبغي أن نحيا به، لأن عادةً معظمنا يأتي وينظر نظرة سطحية ويُكرِّم العذراء مريم ويمدحها بكلمات الفم ويفلت منه السرّ فلا ينال شيئاً لأنه لم يغوص بعد في هذا السرّ العظيم الظاهر فيه تقوى يشتهي أن تكون في قلبه على مستوى واقع حياته اليومية.
حقاً أننا أمام سرّ جليل أُريد أن أغوص فيه معكم لأنه أعمق من كل عمق نعرفه أو نسمع عنه، أننا أمام انفتاح سماوي عريض وعميق ومتسع جداً على كل إنسان بل والبشرية كلها، لأننا أمام سرّ الخلاص الجليل الذي انتظرته البشرية بلهفة وشغف عظيم في تاريخ مُضني من التعب والمشقة ومزلة الإنسان تحت سلطان موت الخطية وفجور الإثم الذي أتعب البشرية وجعلها تسير من حزن لضيق عظيم ومن موت لموت، ومن ظلمة إلى ظلمة أشد سواداً، حتى أُغلق على الجميع في العصيان، ولم يفلت واحد من أن يمسه الموت على كل وجه، لأنه ليس بار ولا واحد (رومية 3: 10)
فاليوم تحسسوا معي موضعنا من هذا السرّ الجليل، ولا تظنوا أبداً أن العذراء القديسة مريم مجرد إناء عادي، أو خاص لله الكلمة وبعد الولادة أصبح فارغاً من الله وقد انفصل عنه كما يظن بعض الذين لم يستوعبوا سرّ الخلاص بعد، ولم يعرفوا – عملياً – قوة عطية الله التي تُعطى وتتسع جداً لأنها عطية بلا ندامة أو رجوع، بل تعمل بسرّ عجيب عميق يمتد للأبدية ويثبت الحياة الإلهية في النفس بلا افتراق.
+ في الواقع – حسب إعلان الإنجيل – فأن لنا جميعاً نصيباً وافراً في هذا السرّ الفائق، لأنه هو سري وسرك يا صديقي ويا أخي ويا أختي ويا أبي ويا أمي ويا كل إنسان دُعيَّ عليك اسم مسيحي، فالعذراء تخصنا، فهي خرجت من صُلب آدم وبطن حواء حسب تسلسل البشرية المُتعبة، وهي عينة أفرزتها البشرية بتدخل إلهي عجيب لتحمل في أحشائها ابناً جديداً للإنسان موطنه حضن الآب كما بشر الملاك عذراء الدهور كاشفاً عن سرّ المولود قائلاً: “ابن العلي يُدعى” (لوقا 1: 26 – 33)، حتى كل من يؤمن به يصير له نفس ذات المصير عينه إذ يدخل فيه لحضن الآب.
فالعذراء إناء مقدس أغرى الله ببساطته ليحل فيه ويصير مكان راحته الخاص، ولما خرج من أحشاء هذا الإناء الذي قدسه وكرسه الروح القدس الرب المحيي، تقدست به البشرية كلها (أي بشخص ربنا يسوع). فإن كانت العذراء القديسة مريم استضافته تسعة أشهر ولم تنفصل عنه قط بل صارت أماً وعبده له إلى الأبد، فقد استوطنت فيه البشرية أبد الدهر، فقد صار ابناً للإنسان وهو ابن الله بالصدق والحق بالطبيعة: “لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه” (إشعياء 9: 6)
وكما انفتح بالسرّ الإلهي بطن العــــذراء القديسة مريم وحلَّ فيها، فقد أنشق جنبه على الصليب بالحربة، ومات وأماتنا معه بسرّ وحدتنا وقرابتنا له وقام من الأموات وأقامنا معه، فصرنا فيه وهو فينا، نحمل سماته كما حمل سمات بشريتنا بتجسده من عذراء التكريس فخر البتولية؛ فكما أخذ جسدنا مولوداً من عذراء بتول، أخذنا جسده قائماً من بين الأموات في سرّ الإفخارستيا العظيم لتتبتل نفوسنا وتتكرس لهُ.
حقاً يا أحباء يسوع والقديسين، أننا أمام عذراء عظيمة بنت إبراهيم عن جدارة، لأنها جسدت إيمان إبراهيم البسيط في طبيعته إذ آمنت وقالت للملاك مبشرها: “ليكن لي كقولك”، ففي الحال صار إيمانها براً، فحلَّ في أحشائها ذاك الذي به تتبارك كل أمم الأرض وتتبرر بقوة وسلطان فائق أعظم من إبراهيم أب الآباء بل وكل الأنبياء، بل لا يُقارن بأي برٌ آخر لأن “برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون؛ لأن فيه (في المسيح) مُعلن برّ الله بإيمان لإيمان، كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا” (رومية 3: 22؛ 1: 17)
فهل – أنت عزيزي القارئ – أدركت السرّ الذي أتكلم عنه الآن، فأن كنت أدركت واستوعبت الكلام وما فيه من سرّ، فستجد قلبك يتحرك بشوق ولهفة نحو مسيح القيامة والحياة تطلب مجده أن يحل فيك ويُساكنك روح الحياة، فتكرس قلبك وإنائك ليكون مقراً لسكناه الخاص، لتحيا في شركة الثالوث القدوس، لذلك فلنتقدم كلنا معاً بقلب طاهر بالمحبة في ثقة الإيمان وبساطته قائلين للرب ليكن لي كقولك: أحييني وأقمني من موت ذاتي يا من اقمت لعازر وسكنت في أحشاء عذراء الدهور الذي اخترتها لتكون منارة التكريس الذي تهدي كثيرين لطريق الحياة الجديدة بتطبيق عملي لأنها كانت تحفظ كلامك في قلبها فصار لها الطوبى في كل شيء، فاجعلني مقراً لسكناك يا الله بري وحياة نفسي، ولتُشكلني على صورتك حافراً وصياك في عقلي وقلبي، وبروحك ذكرني بكلماتك يا ابن الله الحي لكي أكون بالحق والفعل ابناً لله فيك ايها القدوس البار وحدك آمين