موقِفْ الآريوسيين تِجاه مجمع نيقية
إنهم جهلة وعديمي التقوى إذ يُحاوِلون أن يخالفوا مجمعاً مسكونياً ؛ ما حدث في نيقية ؛ يوسابيوس وقَّع عندئذٍ على ما يعترِضون عليه الآن ؛ عن إجماع المُعلِّمين الحقيقين وعملية التقليد ؛ تغيُّرات وتقلُّبات الآريوسيين .
ولتدرِس أنتَ أيها المحبوب ما إذا كان الأمر غير ذلك . إن كانوا – بعد أن بذَّر الشيطان قُلوبِهِمْ بهذا الضَّلال – يشعرون بِثِقة في اختراعاتِهِمْ الشِّرِّيرة ، فليدافعوا عن أنفسهم ضد براهين الهرطقة التي قد قُدِّمت ، وعندئذٍ سيحين الوقت ليجدوا خطأ – إن استطاعوا – في تعريف الإيمان الذي صيغَ ضدهم . إذ ليس هناك أحد ، بعد أن يُدان بالقتل أو الزِنا ، يكون حُراً بعد المُحاكمة في أن يُناقِش أو يُجادِل القاضي ، مُتسائِلاً لماذا تكلَّم بهذه الطريقة وليس بتلك ، لأنَّ ذلك لن يُبرِّئ الشخص المُدان بل بالأحرى يزيد من جُرمه من جهة الفظاظة والوقاحة . وبالمثل لِنَدع هؤلاء إمَّا أن يثبتوا أنَّ آرائِهِمْ تقية ( لأنهم في ذلك الوقت اتُهموا وأُدينوا وجاءت اعتراضاتِهِم بعد ذلك ، ومن العدل أن يأخذ هؤلاء الذين يُتهمون على عاتِقهم الدِفاع عن أنفسهم ) وإمَّا إذا كان لهم ضمير نَجِسْ ، وهم واعون بفجورِهِم ، فعندئذٍ يجب ألاَّ يعترِضوا على ما لا يفهمونه ، وإلاَّ جلبوا على أنفسهم تُهمة مُزدوجة ، أي الجهل والفجور . وليفحصوا بالأحرى الأمر بروح مَنْ يرغب في التعلُّم ، ويتعلَّموا ما لم يعرِفوه حتّى الآن ، ويُطهِّروا آذانِهِمْ عديمة التقوى بنبع الحق وعقائِد الدين .
3) إنَّ ما حدث لِيوسابيوس ورُفقائه في مجمع نيقية كان كما يلي :
عندما قاوموا بِعِناد في مروقهم وحاولوا أن يحاربوا ضد الله ، كانت التعبيرات التي استخدموها مليئة بالفجور ، إلاَّ أنَّ الأساقفة المُجتمعين ، والذين كانوا نحو ثلاثُمائة ، طلبوا منهم بِلُطف ومحبة أن يشرحوا ويدافعوا عن أنفسهم على أُسُس تقية ، وبِصعوبة بدأوا يتكلَّمون ، وعندئذٍ اختلف الواحد منهم عن الآخر ، وإذ أدركوا ساعتها الشِدَّة والضِيقة التي وقعت فيها بِدعتهم ، ظلُّوا خرسى ، وبِسكوتهم اعترفوا بالعار والخِزي الذي حل على هرطقتِهِم . وبُناء على ذلك ، فإنَّ الأساقفة ، بعد أن رفضوا التعبيرات التي كانوا قد اخترعوها ( أي الآريوسيين ) أعلنوا الإيمان الصحيح والكنسي ضدهم ، وإذ أقره الجميع ، أقره يوسابيوس وأتباعه بهذه الكلِمات عينها ، والتي عليها يعترِضون الآن ، أعني ” من جوهر “ و” مُساوِ في الجوهر “ وأنَّ ” ابن الله ليس خِلقة أو صنعة ولا هو ضِمن الأشياء المُبتدِئة ، بل أنَّ الكلِمة هو مولود من جوهر الآب “ .
والأمر الغريب حقاً هو أنَّ يوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين ، الذي رفض في اليوم السابق ، ثم أقر بعد ذلك ( تعريف إيمان نيقية ) ، أرسل إلى كنيسته رِسالة يقول فيها أنَّ هذا هو إيمان الكنيسة وتقليد الآباء ، وجاهر برأيه علانيةً قائِلاً كانوا قبلاً مُخطئين وكانوا يُقاتِلون بتهور ضد الحق . فرغم أنه كان خجِلاً في ذلك الوقت أن يتمسَّك بهذه التعبيرات ، واعتذر عن نفسه للكنيسة بطريقته الخاصَّة ، إلاَّ أنه بالتأكيد كان يقصِد أن يُضمِّن كلّ هذا في رِسالته ، وذلك بعدم رفضه لـ ” مُساوِ في الجوهر “ و” من جوهر “ . وبهذه الطريقة صار في مأزق ، إذ بينما كان يُقدِّم الأعذار عن نفسه ، مضى قُدُماً لِيُهاجِم الآريوسيين في قولِهِمْ بأنَّ ” الابن لم يكُنْ موجوداً قبل ميلاده “ رافضين بذلك الاعتراف بوجوده قبل ميلاده في الجسد . وأكاكيوس واعِ ومُدرِك لذلك أيضاً ، رغم أنه هو أيضاً بسبب الخوف ، ربما يدَّعي غير ذلك بسبب الظروف الحادِثة ويُنكِر الحقيقة . ومن ثمَّ فقد أُلحِقت بهذه الرِسالة رِسالة يوسابيوس لكي تعرِف منها مدى الإزدراء الذي يُظهِره أعداء المسيح تِجاه مُعلِّميهم هم أنفسهم ، وبالأخص الذي يُظهِره أكاكيوس .
4) ألا يرتكِبون إذاً جريمة في تفكيرهم ذاته بأن يُقاوِموا مجمعاً عظيماً جداً ومسكونياً ؟ أليسوا في تعدِّي عندما يجرأون على أن يتحدُّوا تعريف الإيمان الجيِّد هذا ضد الآريوسية ، والذي أقرُّه – كما هو الحال – هؤلاء الذين في البِداية علَّموهم الفجور وعدم التقوى ؟ وإذا افترضنا ، حتّى بعد قبولهم ( لِتعريف الإيمان ) أنَّ يوسابيوس وأتباعه تغيَّروا ثانية وعادوا مثل الكِلاب إلى قِئ مروقهم ، ألا يكون المُقاوِمون الحاليون ما يزالوا مُستحقين لِمقت أكثر لأنهم يضحُّون هكذا بحُرية نِفوسِهِمْ إلى آخرين ، ويقبلون أن يتخذوا من هؤلاء الأشخاص قادة لِبِدعتهم ، هم الذينَ كما قال يعقوب ” ذَوِي رأيين مُتقلقِلِين في جميع طُرُقِهِمْ “ ( يع 1 : 8 ) ، ليس لهم رأي واحد ، يتغيَّرون على الدوام . والآن يُفضِّلون تعبيرات مُعيَّنة ، لكن سُرعان ما يُهينونها ، وفي المُقابِل يُفضِّلون ما كانوا يلومونه الآن تواً ؟ لكن هذا كما قال الرَّاعي ( هِرماس ) هو ” ابن الشيطان “ وسِمَة الباعة المُتجولين وليس المُعلِّمين اللاهوتيين ، أن يعترِفوا بنفس الأمر كلّ واحد مع الآخر ، وأن لا يختلِفوا لا عن بعضِهِمْ البعض ولا عن آبائِهِمْ . أمَّا هؤلاء الذينَ ليس لهم هذه السِمة فيجب ألاَّ يُدعوا مُعلِّمين لاهوتيين حقيقين بل أشرار . وهكذا فإنَّ اليونانيين ، إذ لا يشهدون لِنَفْس العقائِد بل يتشاجرون الواحد منهم مع الآخر ، ليس لِتعليمهم أيَّة صحة ، أمَّا مُعلني الحق القديسين والحقيقين فيتفِقون معاً ولا يختلِفون ، فبالرغم من أنهم عاشوا في أزمنة مُختلِفة ، إلاَّ أنهم جميعاً يتبعون نفس الطريق ، لكونِهِمْ أنبياء لإله واحد ويُبشِّرون بِنَفْس الكلِمة في هارمونية واتفاق .
5) وهكذا ما علَّمه موسى هذا حَفَظُه إبراهيم ، وما حَفَظُه إبراهيم هذا أقرُّه نوح وأخنوخ ، مُميِزين الطاهِر من النَّجِسْ ، صائرين مقبولين لدى الله . لأنَّ هابيل أيضاً شهد بهذه الطريقة ، عارِفاً ما قد تعلَّمه من آدم الذي كان قد تعلَّمه من الرب الذي قال عندما أتى في مِلء الزمان لإبطال الخطية ” لستُ أكتُبُ إليكُمْ وصيةً جديدةً بل وصيةً قديمةً كانت عِندكم مِنَ البدء “ ( 1يو 2 : 7 ) . لذلك أيضاً فإنَّ الرَّسول المُبارِك بولس – الذي تعلَّمها منه – عندما يصِف الرُّتَبْ الكنسية ، منع الشمامسة – وكم بالأحرى الأساقفة – من أن يكونوا ذوي لِسانين ( 1تي 3 : 8 ) . وفي توبيخه لأهل غلاطية ، أدلى بتصريح مُستفيض : ” إنْ بشَّرناكُمْ نحنُ أو ملاكٌ مِنَ السَّماءِ بغير ما بشَّرناكُمْ فليكُنْ أناثيما . كما سبقنا فقُلنا أقولُ الآنَ أيضاً إن كانَ أحدٌ يُبشِّرُكُمْ بغير ما قبلتُمْ فليكُنْ أناثيما “ ( غل 1 : 8 – 9 ) . وطالما أنَّ الرَّسول يتحدَّث هكذا ، فلتدع هؤلاء الناس إمَّا أن يحرِموا يوسابيوس وأتباعه ، لأنهم على الأقل مُتقلبين في آرائِهِمْ ويُجاهِرون بإيمان مُخالِف لِمَا قد أقروه ، وإمَّا إذا اعترفوا بأنَّ إقرارات يوسابيوس وأتباعه كانت صحيحة ، لا ينطِقون بأيَّة اعتراضات على مجمع عظيم كهذا . لكن إذا لم يفعلوا أيّاً من هذا ، سيكون من الواضِح تماماً أنهم هم أنفسهم أُلعوبة كلّ ريح وموج ، ويتأثَّرون بالآراء ، ليس آرائِهِمْ هم أنفسهم بل آراء الآخرين . وإذ هم كذلك ، لا يستحِقون أي اهتمام – الآن كما قبلاً – بما يزعمون ، بل بالأحرى دعهم يكُفُّوا عن انتقاد ما لا يفهمونه ، لئلاَّ – لكونِهِمْ لا يعرِفون أن يميِّزوا – يدعون بِبساطة الشر خيراً والخير شراً ، ويظُنون أنَّ المُرْ حُلو والحُلو مُرْ . وبلا شك هم يتمنون أن تسود العقائِد التي حُكِمْ عليها أنها خاطِئة وشُجِبَتْ ، وهم يبذِلون جهوداً كبيرة لِيُقاوموا ما قد عُرِف تعريفاً صحيحاً . وكذلك لا يجب أن يكون هناك أي سبب من جانِبنا لأي توضيح أكثر أو إجابة لأعذارِهِمْ ، ولا من جانِبهِمْ لأي مُقاومة أكثر ، بل يجب أن يكون هناك سبب لِقبول ما قد قبله وأقرُّه قادة هرطقتهم . إذ رغم أنَّ التغيُّر اللاحِق من جانِب يوسابيوس وأتباعه كان مُريباً وغير أخلاقي ، إلاَّ أنَّ قبولهم وإقرارِهِمْ ( للإيمان المُستقيم ) عندما أُتيحت لهم فُرصة – على الأقل – لِبعض الدِفاع القليل عن أنفسهم ، لهو دليل قاطِع على مروق عقيدتهم . فهم لم يكونوا لِيُوافِقوا قبلاً ما لم يكونوا قد أدانوا الهرطقة ، ولم يكونوا لِيُدينونها لو لم يكونوا مُحاطين بالمشقة والخِزي . ولذلك فإنَّ تغيُّرهم ثانية ورجوعهم إلى ما كانوا عليه لهو دليل على حماسهم المُشاكِس للفجور وعدم التقوى . لذا يجب على هؤلاء الناس – كما أسلفتُ – أن يلزموا الصمت ، لكن طالما أنهم بسبب افتقارِهِمْ الشديد للإتضاع ، يأملون أن يستطيعوا الدِفاع عن هذا المروق الشيطاني أفضل من الآخرين ، لذلك رغم أنني في رِسالتي السابقة إليك كتبتُ باستفاضة ضدَّهم ، فمع ذلك ، تعال ودعنا الآن أيضاً نفحصهم في تعبيراتِهِمْ كلٍّ على حدة ، كمثل سابِقِيهم ، لأنَّ الآن ستُظهِر هرطقتهم أنها خالية من الصحة بدرجة ليست أقل مِمّا كانت في الرِسالة السابقة بل سيتضِح أنها من الأرواح الشِّرِّيرة .