فبَقىَ يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر.
ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه.
فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه
( تك 32: 24 ،25)
يتصوّر البعض هذا الصراع الذي استمر ليلة بأكملها، كان من جانب يعقوب ليحصل على البركة من الله، لكن مَنْ يقرأ الحادثة بدقة سيفهم أنه ليس يعقوب الذي صارع الله ليأخذ بركته، بل إن الله هو الذي صارع يعقوب ليأخذ منه قوته، ويستأصل منه اتكاله على ذاته، ويفرغه من كل ثقة في الجسد. وهذا ما يوافقه تماماً معنى كلمة “يبوق” ـ حيث مكان الصراع ـ والتي تعني “إنه سيُفرَغ”، وفي قاموس آخر تعني “استأصل ليحل محل”، وهذا عين ما حدث هنا إذ كان الله يستأصل من يعقوب قوته ليحل هو فيه بقدرته، يُفرغه من الاتكال على الجسد ليملأه بشعور الضعف الذي يجعله مسكيناً بالروح مستنداً على الله ( 2كو 12: 9 ، 10).
وكان خلع حق فخذ يعقوب هي الوسيلة التي استعملها الله أخيراً لينهي هذا الصراع الذي طال، فيا ترى ماذا يعني خلع حق الفخذ؟
إن حق الفخذ هو مفصل الفخذ، وهو أهم مفصل يجعل الإنسان ينتصب واقفاً ويمشي معتدلاً؛ فهو المفصل الذي ينقل كل ثقل الجسد على الرِجْل لكي تحمل صاحبها، وبدونه ليس فقط لا تستطيع الرِجْل أن تحمل صاحبها، بل تصبح هي نفسها ثقلاً على صاحبها، عليه أن يحملها، وعندئذ لا بد لهذا الإنسان من آخر يستند عليه. فمخلوع الحُق لا يقدر أن يسير بمفرده، لكنه يحتاج لآخر.
ومع نسمات الفجر المُنعشة، وضوئه المطمئن، أجرى الله امتحاناً ليعقوب ليرى هل فهم الدرس أم لا؟ أو قُل هو اختبار أجراه الجرَّاح لمريضه ليرى هل نجحت العملية أم لا؟ فقال له “اطلقني”، أي أن الرب كان يريد أن يعرف مِن يعقوب هل يستطيع يا تُرى أن يسير بعد اليوم بمفرده؟ هل يستطيع أن يخطط لنفسه كما كان يفعل من قبل مستنداً على ذكائه ومكره؟ هل سيتخذ قراراته بنفسه؟ أم أنه سيُظهر احتياجه لله؟ وفي الحقيقة كان النجاح عظيماً، إذ نرى يعقوب قد تحوّل من مُصارع رهيب إلى غريق مسكين، يتشبث بمن يقوى على إنقاذه، بل يبكي أمامه ويسترحمه ( هو 12: 4 ) قائلاً له: لن أطلقك إن لم تباركني. وعندئذ أعلن الرب نهاية المباراة. ورفع يد يعقوب على الحلبة مُعلناً فوزه الكبير مُسجلاً هذه العبارة الخالدة “جاهد (صارع) مع الملاك وغلب. بكى واسترحمه” ( هو 12: 4 ).