طعنة فى جنب المصلوب

أسلم مخلصنا روحه الطاهرة، لينقضِِ يوم الصلب العجوز متنهداً أنفاسه الأخيرة، فتوارى النور الضئيل، وغمرت الظلمة الأودية والأكواخ الحقيرة فى الفضاء الرمادى، فنشر الموت أجنحة السواد على الصليب، وانقطعت أصوات العصافير المغردة، وهتاف الطرب والسرور من سماء الجلجثة.

ها الحزن قد طلى جدران الطبيعة، فجفت دموع الفرح من سكانها، والحدائق التى حمل هواءها أنفاس يسوع وأسراره، خيّم عليها الحزن هى الأُخرى، فتنهّد النسيم بين الأغصان تنهّد يتيم بائس، وذرفت الأزهار قطرات الندى دمعاً ساخناً ثم أغمضت عينيها، وناحت جداول المياه وتوقفت عن المسير كأنّها أُم فقدت وحيدها، وأنشدت الطيور لحن الموت ثم نامت بين قضبان الأشجار الذابة، أمَّا الشمس فلمت أذيالها متألمة، والقمر ظهر شاحباً كميت ينتحب ولم يعط هو الآخر ضوءه!!

الطبيعة كلها قد راودها الحزن والنعاس، ولم يوجد فيها سوى دموع الشتاء وحزن الخريف! وساد صمت عجيب، بعد أن تفرق الجمع الذى كان محتشداً فى مكان الصلب، ولم يبقَ سوى الحراس الرومان ومعهم يوحنا الحبيب، الذي بعد أن أوى مريم أُم يسوع فى بيته حسب وصية سيده، لم يستطع أن يُقاوم الرغبة الشديدة فى العودة للجلجثة، حيث كان من تُحبّه نفسه، مُعلّقاً هناك على الصليب، وقد دون لنا هذا الشاهد الأمين ما قد رآه (يو35:19).

وكانت عادة سائدة في إسرائيل، تقضي برفع أجساد المذنبين من على الصلبان، ليُدفنوا قبل أن تغيب الشمس، وهذه العادة تستند إلى وصية إلهية تقول: ” وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباًً ” (تث23:22،21).

هل تبحث عن  الأصحاح الثاني عشر سفر الخروج نسخة تفاعلية تحوي التفاسير و معاني الكلمات مقسمة بالآيات

وهكذا نظروا إلى يسوع على أنَّه ملعون من الله!! ومرفوض من السماء والأرض!! ولكنهم لم يعرفوا أن أنَّه وهو على الصليب حمل اللعنة نيابة عنَّا، ولهذا يشبّه العلامة أوريجانوس اللعنة بدائرة لها بابان، الأول هو: كسر الوصية وقد دخل منه آدم وبنيه، لكن المسيح لم يكسر الوصية فدخل من الباب الثانى وهو: الصليب، فأصبح فى دائرة اللعنة مع البشر، إلاَّ أنَّ الدائرة لم تحتمله فتفجرت، وبهذا أصبحنا خارج دائرة اللعنة لأنَّ المسيح حملنا إلى السماء!

ويذهب اليهود إلى بيلاطس البنطيّ، ويطلبون منه أن تُكسر سيقان المذنبين الثلاثة كما اعتادوا ويُرفعون ليُدفنوا (يو31:19)، فيجيب بيلاطس طلبهم ويُرسل مجموعة من العسكر إلى ساحة الصلب، لكي يكسروا سيقان المذنبين ويتأكدوا أنَّهم قد ماتوا، وكان هذا يُعد عمل رحمة للمصلوبين لكي يعّجلوا بموتهم.

فكسروا سيقان اللصين المذنبين وبعد أن أتمّوا هذا العمل جاءوا إلى يسوع، وكانت الأدلة تُشير بوضوح إلى أنَّه قد مات، ولم تعد بعد حاجة إلى كسر ساقيه، خاصة وأنَّ واحداً من العسكر طعن جنبه بالحربة، الأمر الذى يكفي بمفرده أن يقضى على القدوس، حتى لو لم يكن قد فارق الحياة، فلمَّا طُعن بالحربة للوقت خرج من جنبه دم وماء!

وكأن بئراً جديدة انفتحت على الجلجثة لكـى تروينا بماء الحياة وتخلصنا بدم الفداء، وكما يقول القديس مارإفرآم السريانيّ: ” لقد تدفق من الجنب الإلهيّ قوة سرية حطّمت الشيطان مثل داجون ” (1صم1:5-5).

ويبدو أنَّ مُعلمنا يوحنَّا قد حرص على تدوين هذه الحادثة، لأنَّه يرى فى عدم كسر ساق المسيح وفى طعنه بالحربة فى جنبه تدخلاً إلهياً، تمت به نبوتان من العهد القديم فيقول: ” لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ ” (يو36:19)، وهذا قد ذُكر عن خروف الفصح الذى كان رمزاً للمسيح، فخروف الفصح كان ينبغي أن يكون ذَكَراً وبلا عيب، ليُشير إلى قداسة المسيح ولا يُكسر عظم منه إشارة إلى أنَّه سيُقدّم نفسه كفارة كاملة عن البشرية (خر12).

هل تبحث عن  القراءات اليومية ( يوم الاثنين ) 29 يونيو 2015

وفى طعنة الحربة يرى البشير إتمام نص كتابى أخير فيستطرد قائلاً: ” وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: ” سَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ ” (يو37:19)، أمَّا الكتاب الآخر فهو سفر زكريا النبيّ الذى جاء فيه: ” وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ ” (زك10:12).

لقد طعنوا ابن الإنسان بحـربة ،
ولكن من قبلهم قد طعنـه الدهر،
عندما أفرغ سهام الألم فى صدره!

هذا وقد تأمل كثيرون من آباء الكنيسة القدامى فى خروج الماء والدم من جنب المصلوب البار فقال القديس كيرلس الأورشليميّ: ” إنَّ المُخلّص إذ قد فدى العالم بالصلب، لمَّا طُعن فى جنبه أعطى الدم والماء، حتى إنَّ البعض فى أيام السلام يعتمدون بالماء، والآخرين فى أيام الاضطهاد يعتمدون بصبغة دمائهم، أي بدم موتهم “.

أمَّا القديس أُمبروسيوس فقد قال: ” بعد الموت يتجمّد الماء فى أجسادنا، ولكن من الجسد الذي لا يفسد مع أنَّه ميت نبعت حياة للكل، الماء والدم اللذان خرجا منه، الماء للاغتسال والدم للفداء “.



مشاركة عبر التواصل الاجتماعي