عقيدة انتقال سيدتنا مريم العذراء
العقيدة في الكنيسة هي تعاليم إلهيّة مُوحاة، وممحّصة، وثابتة لا تقبل النقاش ولا تتغيّر. العقيدة هي حقيقة إيمانيّة، تخبرنا عن سرّ خلاصنا وعن عمق محبّة الله لنا.
لا يحتوي العهد الجديد على أي نص صريح عن موت أو انتقال مريم، لكن تمَّ تفسير بعض المقاطع الكتابية لاهوتياً لوصف المصير النهائي لوالدة يسوع، حيث تلتقي عقيدة انتقال العذراء بمختلف أشكالها مع النظرة المسيحية بكونها أولى المُخلَّصِين.
ليس في الكتاب المقدس إثبات قاطع وصريح لانتقال العذراء مريم، إنما هناك دلائل في الإثبات: مريم هي “ممتلئة نعمة” (لوقا 1: 28) . هذه النعمة تضم نعمة عدم التعرض لفساد القبر. فساد القبر هو عاقبة الخطيئة واللعنة التي استوجبتها . ومريم اشتركت في انتصار نسلها يسوع على الشيطان والخطيئة والشهوة والموت، كما جاء في سفر التكوين ” أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ (الحيَّة الشيطانية) وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه ” ( التكوين 3: 15) ألا يكون من الإنصاف أن مريم التي اشتركت مع يسوع في الانتصار على الخطيئة والشهوة، أن تشترك ايضا في انتصار على الموت في ثمرته التي هي فساد القبر ؟
وبناء على الوصيّة الرّابعة: “أكرم أباك وأمّك!” يسوع الفتى “كان خاضعاً” للعذراء وخطّيبها العفيف القدّيس يوسف. وأكيد أنّ السيّد المسيح، أراد أن يكرم والدته الطّهور، وأن يحفظ من فساد القبر وانحلاله ذلك الجسد البتوليّ الّذي حمله، وحفظها من فساد القبر تلك العذراء الوالدة التي كان قد نزّهها عن انحلال الخطيئة، إذ إنّ “أجرة الخطيئة هي الموت”، ” فمَن زَرَعَ لِجَسَدِه حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَساد، ومَن زَرَعَ لِلرُّوح حَصَدَ مِنَ الرّوحِ الحَياةَ الأَبدِيَّة” (غلاطية 6: 8)، علمًا أنه ذُكر في الكتاب المقدس عددٌ من الشخصيات التي رُفعت أو انتقلت بدون موت إلى السماء كالنبي إيليا (2 ملوك 2-11) واخنوخ (التكوين 5: 24).
أشار نص سفر الرؤيا إلى مصير سيدتنا مريم العذراء، مصير مجد فائق الوصف لأنها متحدة بشكل كبير بالابن الذي تلقته بالإيمان وولدته في الجسد، وقاسمت بالكمال مجده في السماوات. وفي هذا الصدد جاءت روية القديس يوحنا الرسول “ظَهَرَت آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّماء: اِمرَأَةٌ مُلتَحِفَةٌ بِالشَّمْس والقَمَرُ تَحتَ قَدَمَيها، وعلى رَأسِها إِكْليلٌ مِنِ اثَني عَشَرَ كَوكبًا، حامِلٌ تَصرُخُ مِن أَلَمِ المَخاض …. فوَضَعَتِ ابنًا ذَكرًا، وهو الَّذي سَوفَ يَرْعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِن حَديد” (رؤيا 12، 1 – 2؛ 5). إن عظمة مريم، أم الله، الممتلئة نعمة، والخاضعة بالكامل لعمل الروح القدس، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نفساً وجسداً. ويعلق البابا بولس السادس ” الآية العظيمة التي شهدها يوحنا الحبيب في السماء، قد فهمتها الليتورجيا الكاثوليكية بالنسبة إلى العذراء مريم ” (م7/7).
هكذا آمنت الكنيسة على مر العصور “أن أُمَّ الله الطاهرة، في ختام حياتها الأرضية، قد نُقِلَتْ نفساً وجسداً إلى المجد السماوي”. وهذا ما حدَّده البابا بيوس الثاني عشر في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني عام 1950، سنة اليوبيل، عقيدةً إيمانية بشأن انتقال مريم المجيد إلى السماء، الذي يُشيد به عيد اليوم. فقال البابا حينها: “إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، أن مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزَّهة عن كل عيب، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي”. ويبيّن البابا أن هذا العيد “لا يذكر فقط أن الفساد لم ينلْ من جسد مريم العذراء بل يذكر انتصارها على الموت أيضاً، وتمجيدها في السماء، على مثال ابنها وحيدها يسوع المسيح” (Munificentissimus Deus).
توافق هذه العقيدة ما جاء في الكتاب المقدس عن غاية فداء المسيح، الممثلة بالاشتراك معه في قيامته. كما توافق هذه العقيدة تقليد جليل يرجع إلى الكنيسة الأولى يشير إلى “رقاد مريم”. فكانت مريم أولى من تحقَّق فيهم عمل الفداء على أكمل وجه، فإنها لم تختبر فساد القبر بل نُقلت إلى مجد السماء، وغدت فجر الكنيسة المنتصرة في العلياء، وصورتها الكاملة، وعنوان رجاء المؤمنين وتعزية لهم في مسيرتهم على دروب الأرض.
نستنتج مما سبق أنَ انتقال العذراء بالنفس والجسد إلى السماء هو ثمرة قيامة المسيح المنتصر على الموت. ونحنُ نرى في انتقال سيدتنا العذراء آية خلاصنا وعلامة رجاءٍ وطيد، بأنّ يسوع المسيح قد غلب الموت فعلا، وأنّه لا سلطان للموت على المؤمنين به.