“لا صالح إلا الله وحده”

يتقدّم إلى يسوع شاب غنيٌ جداً ويسأله “أيها المعلّم الصالح ماذا عليّ أن أفعل لأرث الحياة الأبدية؟”. أغلبيتنا، نحن المسيحيّين، نرى في هذا الشاب المثال الصالح. يتمنى كثيرون أن يكونوا على صورته، لأنه كان، بنظرنا، قد ربح الدنيا والآخرة. فقد حفظ الوصايا وكان غنياً جداً.


لكن المفاجأة، التي تخيّب آمالنا، هي أن هذا الشاب المثالي والصالح خرج من حواره مع يسوع حزيناً. فإذا كان شابٌ كهذا، قد حفظ كلّ الوصايا من صباه وحقّق في الدنيا أكثر ما يمكن تحقيقه من نجاحات وصار غنياً جداً، لم يستطع أن يرضي يسوع، فمن هو الصالح إذاً؟ وما هو المثل الذي يجب أن نضعه لنا هدفاً ويرضاه الرب؟


الصلاح، مسألة ليست فقط مهمّة، لكنّها الأهمّ في حياة الإنسان. وهي مسألة نسبية وشخصيّة تتعلّق برأي كلّ إنسان وذهنيّته وبحريّة اختياره لمثُله وأهدافه. يحاول الإنسان دائماً أن يختار ما هو أصلح، و”صالح” له، وذلك بحسب معرفته ومعتقداته. لكن للناس هناك تعاريف متعددة في الصلاح. جواب يسوع هنا “لا صالح إلاّ الله وحده” يؤكد على أمرين. الأوّل هو رفض التعددية في تحديد الصلاح، والثاني هو التأكيد على ان الله هو الصلاح الحقيقيّ المطلق.


فالصلاح للبعض يتحدد بالمتعة مثلاً، أو بالمصلحة واقتناء الخيرات الدنيويّة الكثيرة وتجميع الأموال والغنى، أو في السلطة والمجد والمراكز… وذلك دون ربطه أحياناً حتّى بأيّة قيمة أخلاقيّة أو شروط أدبية.


والصلاح لسواهم نجده في الأشخاص أو الأشياء أو الأمور التي تسبب لنا إحساسات ممتعة. ومنها الطعام والأولاد والممتلكات والخيرات، أو الأدبيات، وما يمكن أن يترك لنا شعوراً نفسانياً مريحاً، أو كلّ ما يسبب السعادة أو يسهّل الحياة، على الصعيد الجسدي والنفسي. وذلك مع ربطه ببعض الشرائع أو المبادئ الأدبية. فتتغربل هنا بهذا الشرط نوعيات الصلاح ويسقط منها الكثير مما كان في الخيار الأسبق صالحاً.


يتحدّد الصلاح في الأديان والنظم الاجتماعيّة بحفظ الوصايا، وفي ممارسة الفضائل. وهذه كلّها من نظم الفكر الديني. والانضباط في هذا النظام الديني، بنظر الأديان، هو “الصلاح”.
في العهد القديم كان تحديد “الصلاح” يحمل لوناً كهذا. فالصلاح هو في حفظ الوصايا الإلهيّة والمحافظة على العهد، أي في تطبيق الشريعة. وهذا الصلاح كان يترافق مع الخيرات. فمن علامات الرضى الإلهيّ، نتيجة تطبيق الوصايا، كان الغنى والأولاد والممتلكات. وعكس ذلك كالفقر والمرض وسواهما… لم يكن صلاحاً، وأيضاً لم يكن علامة بركة إلهيّة بقدر ما كان لعنةً. لهذا كان اليهود يربطون بين الخطيئة والعمى –كما في قصة الأعمى منذ مولده. وقصةُ أيوب في سِفْرِه بأكمله ما هي إلا محاولة إلهيّة لتطهير “الصلاح” من ارتباطه بالخيرات الأرضيّة في ذهن اليهود.
الصلاح في العهد الجديد أنقى. والربّ يسوع هنا في حواره مع هذا الشاب “الصالح” أو المثالي، والغني والمتديّن، يوضح تماماً هذه النقلة في تحديد الصلاح بين العهدين. فالصلاح الحقيقيّ لا يُقاس بالنسبة إلى خير مجرّد، كان مادياً أو خلقياً أو أدبياً أو اجتماعياً أو فلسفياً، بل بالنسبة إلى الله الذي وحده يعطي الأشياء إمكانية حسنها وصلاحها.


فالغنى كما الفقر، والخيرات أو العوز والصحة أو المرض، والحياة أو الموت وكلّ شيء في الوجود، هو مجرّد أمر “حيادي”، في طبيعته لا صالح ولا سيّئ. ما يحدد صلاحه هو أسلوب استخدامه. من هذه النظرة، الصلاح ليس في ممارسة الفضائل ولا الشر في غيابها. وإن كان هذا الكلام معثراً، فهو للتأكيد على جوهر الصلاح. فأين صلاح فضائل الفريسي؟ وما هو الضرر من فقدان البصر عند الأعمى منذ مولده أو في تلك الشوكة بالجسد عند بولس الرسول؟ كان أيوب صالحاً في غناه وبقي كذلك دونه. الفضائل هي نتائج من الصلاح وليست تحديده. هناك في الكتاب حوادث عديدة، حيث ظهرت بعض الفضائل ليست صالحة. الدين ذاته لم يكن دائماً صالحاً. حفظ السبت وهو أهم الوصايا لم يكن هو الصلاح، لأن السبت وُجد للإنسان وليس العكس. لذلك لا صالح إلا الله وحده. كلّ شيء لا يعود إليه ليس صالحاً. وكلّ شيء من أجله يصير صالحاً.
لذلك لم يكن الصلاح عند هذا الشاب لا غناه ولا حفظ الوصايا. بل ما كان ينقصه حين قال له يسوع واحدة تنقصك: بع كلّ “الصالحات”، وهي ليست الصلاح، وتعال “اتبعني” وهذا هو ما يعطي لكلّ أمر صلاحه.


إنَّ بيع كلّ شيء يعني عدم تعددية التعاريف في الصلاح، “وتعال اتبعني”، يشير بوضوح إلى مصدر الصلاح وتحديده. بيع كلّ شيء لا يعني رفضه. في تعليق للقدّيس يوحنا الذهبيّ الفم على عبارة بطرس الرسول التي وجهها إلى يسوع: “يا سيد ها نحن (الرسل) قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا”؟ ويقول، ماذا ترك بطرس؟ لم يترك شيئاً لأنه لم يكن يملك أكثر من مركب وبعض الشباك. لكن بطرس ترك كلّ التعاريف بالصلاح ومضى يلتمس “الصلاح” الحقيقيّ. “البيع” لكلّ شيء، هو بالحقيقة وضع كلّ شيء في استخدام يليق بخدمة الواحد – الربّ. وكلّ صلاح لا يدخل في هذه الخدمة يُسرق، وبالتالي يفسد.


الغنى في خدمة الربّ صلاح، وبدون هذه الخدمة شرٌّ يمنع عن دخول الملكوت. والفقر كذلك. السلطة في خدمة الإنسان وبالتالي، الرب؛ هي صلاح، وفي غياب ذلك شرٌ لا يطاق. الدين يخضع أيضاً لهذا المقياس. لا بل علينا أن نفحصه دائماً بهذا المنظار حيث الخسارة فيه تكون مضاعفة. “لا شيء صالح إلا الله وحده” يعني أن “كلّ شيء بدون الله غير صالح” وأن “كلّ شيء بالله وحده صالح”.

آميـن …

من كتاب سفر الكلمة- الجزء الثاني

للمطران بولس يازجي
هل تبحث عن  إسأل ما تريد

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي