في الليل على فراشي
(نش 3: 1)
نود ان نتأمل في قول عذراء النشيد:
“في الليل على فراشي، طلبت من تحبه نفسي- طلبته فما وجدته. إنى أقوم وأطوف في المدينة, في الأسواق وفي الشوارع, أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته” (نش3: 1, 2).
عبارة “في الليل” لها معنيان: إما الليل بمعناه الحرفى. وإما الليل بمعناه الرمزى, أي في الظلمة, في الحيرة وفي ظلمة القلب, في التعب الروحي الذي أنا فيه..
“وعلى فراشي” تعنى: في كسلى, في تهاونى, في رقادى, في بعدى عن الله.. في كل هذا “طلبته فما وجدته”.. أو يقصد بها معناها الحرفي.
والتى تقول هذا, إما أنها إنسانة أممية وسوداء, ليست من شعب الله. وهى نفس خاطئة كسلانة, راقدة على فراشها, لم تفتح بعد قلبها للرب, “فتحول عنها وعبر”
وهى نفس تعيش في مرحلة التخلى. لقد تخلى عنها الرب- ولو جزئيا- لذلك هى تصرخ وتقول “طلبته فما وجدته”.
في الليل على فراشي
في الليل على فراشي

مرحلة التخلى واسبابها:

عجيب أن إنسانا يطلب الله فلا يجده. بينما قال الرب “أطلبوا تجدوا” (مت7: 7). وهو الواقف على الباب يقرع لنفتح نحن له! (رؤ3: 20). وأيضا هو القائل “من يقبل الى ,لا أخرجه خارجا” (يو6: 37). إذن لماذا هذا التخلى منه تجاه نفس تطلبه؟!
إن التخلى يأتى أما بسبب الإنسان, ولحكمة الله في التدبير.
قد يأتى بسبب قسوة الإنسان, وعناد وإصراره على الخطية, ورفضه أنذارات الله المتكررة, ورفضه عمل النعمة, كما سلك فرعون.. وبسبب عدم استسلامه للروح القدس, وعدم استجابته لنداء الله ونداء الضمير.. فيصل إلى مرحلة التخلى, التي قد تتطور إلى حالة الرفض الكامل..
في الليل على فراشي
وربما يتخلى الرب جزئيا ومؤقتا عن إنسان, حتى لا يرتفع قلبه في بره. فيقود هذا التخلى إلى الإتضاع.
إنسان سالك في البر. وربما يظن أنه قد وصل! فيرتفع قلبه.. ويحارب بهذا. فيتخلى الرب عنه- ولو قليلا –لكى يعرف ضعفه.
أو قد يكون بارا. وفي عدم سقوطه, لا يشفق على الساقطين. فيتخلى عنه الرب فيسقط وحينئذ يحنو على الخطاه, إذ قد جرب حروب العدو وشدتها. ويعرف حكمة الرسول في قوله “أذكروا المقيدين أنكم مقيدين معهم و(أذكروا) المذلين كأنكم أنتم أيضا في الجسد” (عب13: 3)
إذن ليس كل الذين يتخلى عنهم الرب أحيانا, كانوا أشرارا وساقطين!
في الليل على فراشي

من تحبه نفسي:

“في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته”.
إن عبارة “من تحبه نفسي”, قد تكررت هنا كثير..
وعجيب أن هذه العروس- على الرغم من كسلها وسوادها وتهاونها- لا تزال تكرر القول بأنها تحب الرب!! وكأنها تقول:
إننى أخطئ, ولكننى احبك.
المحبة موجودة “لم تسقط أبدا” (اكو 13: 8) على الرغم من الضعف البشرى, الذي بسببه قد اسقط أحيانا. مثلما حدث للقديس بطرس الرسول الذي “أنكر الرب ثلاث مرات” (مت26: 75). ومع ذلك قال له بعد القيامة: “انت تعلم يا رب كل شيء. انت تعلم انى أحبك” (يو21: 17). ومثلما قال القديس بولس الرسول “الإرادة حاضرة عندى. أما أنا افعل الحسنى فلست أجد لانى لست افعل الصالح الذي أريد, بل الشر الذي لست أريده, فإياه أفعل” (رو7: 8, 19).
في الليل على فراشي
“انا يا رب نائمة حقا, ولكنى أحبك. إننى أخطئ حقا ولكنى أحبك. انا أحبك من أعماقى. ولست أفعل الخطية عن نقص في محبتى. بل عن ضعف, وتعود, وعثرة, ولشدة الحرب, ولدوافع خارجة عنى..
حقا اننى لا أعمل اعمالا تليق بمحبتى لك. ولكنى على الرغم من ذلك أحبك. إن حبى لك يشبه بذرة حية, فيها عناصر الحياة. ولكن لها حياة كامنة لم تظهر بعد.. ربما لو توفرت لها التربة الخصبة والماء والرى وكل ظروف الإنبات, لظهرت هذه الحياة في خذور وساق وفروع وأوراق أزهار وثمار.. هكذا أنا.
ولكن عدم ظهور حياة الحب في, لا يمنع أنها موجودة.. !
في الليل على فراشي

في الليل على فراشي:

· زكا العشار طلب الرب في الليل, وهو على فراشه, في الظلمة الظلم (لو19). لم يترك اعمال العشارين ويطلب الرب. بل طلبه وهو رئيس العشارين. حتى أن اليهود تذمروا على السيد كيف يدخل بيت رجل خاطئ! (لو19: 7).
· واللص اليمين, طلب الرب بالليل, على فراشه على الصليب (لو23: 42).
· أوغسطينوس طلب الله وهو في عمق الليل, في عمل الخطية والشك!
· مريم القبطية, بيلاجية, موسي الأسود.. كل أولئك طلبوا الرب في الليل!
المهم أن كل هؤلاء طلبوا الرب في الليل وعلى فراشهم فوجدوه. أما هذه العذراء فقط طلبته, ولم تجده!
وعلى الرغم من ذلك ظلت تسعى وراءه حتى وجدته (نش3: 3, 4).
في الليل على فراشي
هناك نوعان من الناس في طلب الله, وهم خطاة..
خاطئ يجاهد, وينتظر حتى يتطهر ويتقدس, فيجرؤ أن يتصل بالله.
وخاطئ اخر لا ينتظر ذلك, بل – في خطيئته وسقوطه – يطلب الله, لكي يطهره الله ويقدسه. وكأنه يقول للرب:
لست أنتظر حتى أتطهر فأطلبك. إنما أطلبك لكي تطهرنى.
لست أنتظر حتى أصير مجتهدا وقويا في الروح ثم أطلبك, إنما وأنا كسلان, سأطلبك الآن لكي تنجينى من كسلى وتقوينى.
هل أتوب أولآ ثم أطلبك؟! أم أطلبك وأقول “توبنى فأتوب” (ار31: 18)
في الليل على فراشي
نعم, ساطلبك وانا بعيد عنك, لكي تقربنى أنت إليك.
سأطلبك وانا على فراشى, لكي توقظنى من نومى. أطلبك وانا في الخطية, لكي تنجينى منها.. النية موجودة عندى. ولكنى لم أسر بعد في الطريق, بل أطلب نعمتك لكي تقودنى.. إن الابن الضال لم يلبس الحلة الأولى وهو في كورة الخنازير, إنما ألبسه أبوه إياها (لو15: 22). وقد رجع هو إليه بثيابه المتسخة..
إن الله يريدك أن تأتى إليه كما أنت, فلا تنتظر.
لا تنتظر حتى تصل إلى الصلاة الطاهرة, ثم بعد ذلك تصلى! كلا, بل صل حتى وأنت في طياشة الفكر, وعدم الفهم وعدم القابلية! حينئذ يمنحك الله الصلاة الطاهرة, مكأفاة على ثباتك وأنت في ضعفك.
في الليل على فراشي

· “في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي”.

لو كان الذين يطلبونك يا رب هم القديسون وحدهم, لضعنا جميعا.. ولكن الخطاة أيضا يطلبونك. وهذا يعطينا رجاء.
جميل جدا, ومعز للغاية, أن يشعر الواحد منا أن الله في وسط الليل, أوجد نجوما وكواكب تنير ظلمة الليل..
كذلك, وأنت في ظلمة الخطية, هناك أضواء تحيط بك, يكفى أنك مازلت تحب الله وتطلبه.
في الليل على فراشي
أنا يا رب أريد أن أكون معك, حتى وانا في الخطية!! إن الخطية تحطم النقاوة في حياتى, ولكنها لا تحطم عواطفى نحوك. مثل ابن يخالف أباه لتحقيق شهوة ما, ولكنه لا يزال يحب أباه..
“في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي”. طلبته وانا على فراشي. ليس في الكنيسة, ولا في أماكن العبادة, ولا في أجتماع روحى.. لذلك لا تحتقر الذين لا يحضرون الكنيسة. ربما يطلبون الله على فراشهم.
في الليل على فراشي
ربما كلمة (الليل)، تعنى أيضا الليل بمعناه الحرفى.
فقد لا أجد فرصة التقى فيها مع الله, خلال ضوضاء النهار, وزحمة الناس, وكثرة اللقاءات, وكثرة المشغوليات, وما يقدمه النهار من مشاكل وأحداث وأخبار, أكون في وسطها مثل التائه..
ولكننى في الليل, في هدوئه وسكونه, أجد فرصة للإنفراد بك. وهكذا “في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي” حسب قول المزمور:
في الليالى أرفعوا أيدكم أيها القديسون, وباركوا الرب (مز 134).
نعم, في الليل على فراشي. ولذلك حسنا قال الرب عن الصلاة: “أدخل الى مخدعك” (مت6: 6). كذلك قول المرتل في المزمور ” الذي تقولونه في قلوبكم, أندموا عليه في مضاجعكم” (مز4).
في الليل على فراشي
إذن ما معنى: طلبته في الليل, فما وجدته؟
انا أتيت في الليل, وفكرى مشغول بأحاديث وأحداث النهار, فلما طلبتك لم أطلبك بفكر مركز فيك, بل وانا مهتم ومضطرب لأجل أمور كثيرة, “بينما الحاجة الى واحد” (لو10: 41, 42). لهذا ما وجدتك!
في الليل على فراشي
أو ربما لم أجدك, لأن هناك حواجز بينى وبينك.
لهذا أنا أدعو, وأنت لا تستجيب. وأشعر أنه تقف أمامى عبارتك التي تقول فيها “حين تبسطون أيديكم, استر وجهى عنكم. وإن أكثرتم الصلاة, لا أسمع. أيديكم ملآنة دما” (اش1: 15).
توجد حواجز بينى وبينك, لأننى تركت محبتى الأولى, وفقدت الدالة التي كانت تربطنى بك, وخنت عشرتك.. وأشعر في مذلة نفسي ان كلماتى لا تدخل إليك, وكأننى لست ابنك!!
أريد أن اصطلح معك, واسترجع المحبة القديمة التي كانت بيننا. أريد أن أعتذر إليك, وأطيب قلبك من جهتى. نعم أريد.
في الليل على فراشي
عذراء النشيد, كانت أحكم من أبينا آدم حينما أخطأ.
أبونا آدم أخطأ, فهرب من الله, وأختبأ خلف الشجر (تك3: 8). أما عروس النشيد, فإنها تسعى إلى الله لكي تجده, حتى لو كانت في حالة سيئة! لكي يوجد حديث وسعى وبحث في الشوارع والأسواق عنه.
حقا يا رب إننى في مرحلة تخلى. ولكنى سأسعى وراءك بكل قوة لكي أرجع علاقتى بك. سأبحث عنك, واسأل الناس عنك, حتى أجدك..
في الليل على فراشي
احترس يا أخى إذن من جهة علاقتك بالله. لا تقل قد تخلى الرب عنى, سأتخلى أنا أيضا!! لا صلاة ولا كنيسة ولا اعتراف.. !
قل له: أنت لو تخليت عنى, فلن تخسر شيئا. أما أنا فسوف أفقد كل شيء. إن تخليت عنى سأضيع. لأن فيك وجودى وحياتى ومصيرى.
لو تخليت عنى, سأجرى وراءك في الشوارع والأسواق, وأقوم وأطوف في المدينة أطلب من تحبه نفسي (نش3: 2) سأفتش عليك في كل موضع, لأننى بدونك لا أستطيع شيئا (يو15: 5). وإن كنت غاضبا منى, وغاضبا على, سأحاول أن أصالحك وأعتذر إليك. لن أهرب منك كما فعل جدى آدم, إذ “بك نحيا ونوجد ونتحرك” (اع17: 28). وكما قال عبدك الرسول بولس “لى الحياة هى المسيح” (في1: 21).
في الليل على فراشي
نفسي على فراشها. ولكنها فترة مؤقتة, ستزول بعد حين.
مجرد كسل عارض, فلا تحسبه صفة العمر كله. حقا إننى تركتك يا رب بعض الوقت, وجريت وراء شهوات العالم. ولكنها مجرد شهوات وليست حبا. فالحب بحقيقته هو لك وحدك, الحب كله في عمقه.
أما ما يربطنى بالعالم, فهو مشاعر طارئة زائلة, مجرد ملاذ وقتية لا يمكن أن ترتقى إلى مستوى الحب. لأن الحب هو عاطفة عميقة عميقة, في عمق أعماق القلب, الذي هو لك, وأنت له.
العالم بالنسبة لي كان عرضا لا جوهرا. أما الحب فهو لك, والقلب هو لك, أنت الذي تحبه نفسي, حتى إن اشتهت غيرك أحيانا.
في الليل على فراشي
تقول عروس النشيد: طلبته فما وجدته. ولكن ليس معنى هذا أننى سوف لا أجده طول العمر! فإن لم أجده اليوم سأجده غدا.
ذلك لأن نفسي لا تستطيع أن تحيا إن لم تجده, فهى لا تحيا بدونه. كما أنه- فيما أبحث عنه- هو يبحث أيضا عنى حتى يجدنى. ومتى وجدنى, سوف يضعنى على منكبيه فرحا, كما فعل مع خروفه الضال حينما وجده (لو15: 4, 5).
إن هذه العروس تعطينا مثالا للنفس التي لا تيأس مهما فقدت الرب! وكما يقول الرب “بصبركم تقتنون أنفسكم” (لو21: 19).
في الليل على فراشي
هذا التخلى من الله كانت له فائدته, لأن النائمة قامت.
تركت فراشها, وظلت تبحث عنه. تحركت وتقدمت وطلبت (نش3: 2).
وهكذا بتخلى الله الجزئى, يجعلنا نتحرك. إذ لا يصح أن نستلقي على ظهورنا وننام, ونطلب من النعمة أن تعمل كل شئ!!
إن كان روح الله يعمل فينا, فيجب علينا أن نشترك مع روحه في العمل. فهذه هى “شركة الروح القدس” كما يذكرها الكتاب (2كو13: 14).
إنك قد قلت يا رب “من يحبنى يحفظ وصاياى”.. وأنا أحبك, ولكننى لم أحفظ وصاياك بعد!! إذ لم أصل حتى الآن إلى هذه الدرجة. ومع ذلك فإننى أطلبك, لكي تعطينى القوة التي أحفظ بها وصاياك. فأحبك حينئذ بالعمل, وليس بمشاعر القلب فقط.
هل تبحث عن  جاذبية الأرثوذكسية القمص أثناسيوس فهمي جورج

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي