قيافا

«والذين امسكوا يسوع مضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة»

(مت 26 : 57)

مقدمة

لا تستطيع أن تفهم أو تعرف عصر المسيح في الجسد، دون أن تقرأ أو تسمع عن عصابة السبعة الذين كانوا من عائلة واحدة، ولا تستطيع أن تعرف مدى خراب النفس، وإلى أي حد تصل، قبل أن تعلم أن السبعة كانوا رؤساء كهنة، ولم يأخذ هؤلاء الكهنوت من الله أو لمدى الحياة، كما كان رئيس الكهنة المعين من الله يبقى حتى نهاية حياته، بل كان السبعة يصلون الكهنوت بتعيين الرومان الوثنيين لهم، هذه العائلة أو العصابة بالتعبير الأدق، بدأت بحنان رئيس الكهنة الذي كان له خمسة أولاد أضحوا أيضًا رؤساء كهنة، وانضم إليهم قيافا الذي كان صهرًا له، وكانت لعبة الكهنوت لعبتهم، وعندما دخلوا بيت الله، كان يلبسون الزي المقدس الذي كان يغطيهم، وهم لصوص من هامة الرأس إلى أخمص القدم، كانوا يطرودن من الكهنوت، يعودون إليه بشتى الأساليب، ابتداء من السنة السابعة للميلاد حتى خراب أورشليم، فقد عين حنان رئيسًا للكهنة في ذلك الوقت على يد كيرينيوس الوالي، وعين قيافا في السنة الثامنة عشرة للميلاد على يد فلاريوس جراتوس حتى السنة السادسة والثلاثين، وحولت العصابة بيت الله إلى مغارة لصوص، فإذا كان لنا اليوم أن ندرس قيافا الذي رأس السنهدريم في الحكم على المسيح بالموت، فإننا ندرس قصة رئيس الكهنة الذي لم يكن لصًا فحسب بل كان قاتلاً أيضًَا!! ولعلنا من خلال دراسة هذه الشخصية، نعلم كيف يمكن لرجل ينتسب إلى الله، أن يكون أبشع صورة لمن يعبد الشيطان، ويضحى رئيسًا لكهنته، ويمكن بعد هذا أن نراه فيما يلي :

قيافا وأنانيته

قَيافا 	Καϊάφας


في اختبارات واتشمان ني المسيحي الصيني العظيم يقول : في عام 1929 عدت من شنغهاي إلى فوتشاو مسقط رأسي، ويومًا ما كنت أسير في الطريق متوكئاً على عصاي، وقد استولى على الهزال والضعف الشديدين، وفي تلك اللحظة التقيت بأحد أساتذتي القدامى في الكلية، فأخذني لنجلس في محل نشرب فيه الشاي، ونظر إلي من هامتي إلى قدمي، ومن قدمي إلى هامتي، وقال : كنا نعلق عليك آمالاً كبارًا في الكلية، فهل انتهيت إلى هذه الصورة، واعترفت أنني أحسست في تلك اللحظة بحاجتي إلى البكاء لسوء حالتي الصحية، وها هو أستاذي القديم في القانون يسألني : «هل ترضى بحالك هذه، بلا نجاح أو تقدم أو الحصول على شيء!!…» لكن شيئًا عجيبًا استولى على، وفاض في إحساس الإنسان المكرس لله، وصرخت دون تحفظ : «ربي أشكرك، إذ أن هذا اعظم شيء في الوجود، وما سلكته كان الطريق الصحيح»، كان شعار وتشمان ني أمام المسيح : «لا أنا … بل المسيح» وكان شعار قيافا على العكس تمامًا : أنا… لا المسيح، وقد نطق بهذا الشعار في قوله: «خير لنا أن يموت إنسان واحد» (يو 11 : 50).. وإذا كان المعمدان قد فقد الذات أمام المسيح في القول : «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقض» (يو 3 : 30) وإذا كان بولس وهو يتحدث إلى الغلاطيين أجمل قصته في العبارة، «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غل 2 : 20) … فإن قيافا، وقد استيقظت فيه أنانيته الكاملة ذهب إلى الاتجاه الآخر، فإذا كان الأمر يتطلب : هو أو المسيح، فإن مهمته الصحيحة التي لا يمكن أن يهدأ قبل الوصول إليها هي أن يزيل المسيح من طريقه مهما كان الثمن، ومن هنا نتبين مبلغ أنانية الرجل. وماذا تفعل الأنانية في حياته، إنها تكسبه قسوة ما بعدها قسوة، وهو لا يبالي بموت المسيح أو تهتز له عضلة ألمًا أو شفقة، بل إنه لا يبالي أيضًا بمصير يهوذا، الذي إذ جاء نادمًا على فعله، لاقاه بابتسامه السخرية، والقول : «أنت أبصر» ولا حاجة إلى القول إن مثل هذا الإنسان لابد أن يكون وصوليًا لا مبدأ له أو أخلاق على وجه الإطلاق، فهو من أصحاب الرأى : إن الغاية تبرر الوسيلة، كان ميكافيليًا قبل أن يولد ميكافيلي بعشرات القرون، ولعله هنأ نفسه على الطريقة التي حاكم بها يسوع المسيح وجر السنهدريم معه إلى هذا الحكم، الذي أصدره من قبل : «فقال لهم واحد منهم وهو وقيافا كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئًا. ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها» (يو 11 : 49 و50) وعندما تم الاتفاق مع يهوذا، وقبض على المسيح ليلاً، دعا السنهدريم على عجل، وكان السنهدريم يتكون من واحد وسبعين عضوًا برئاسة رئيس الكهنة، وكانت اللائحة القانونية تحدد إجراءات المحاكمات، وكان يشترط بموجبها أن تنظر جميع التهم نهارًا، ويجب إنهاؤها خلال النهار، ولا يجوز أن تتم المحاكمة ليلاً، ولا يجوز أن تتم محاكمة خلال أيام عيد الفصح، فإذا كان الحكم بالبراءة فإنه يجوز إصداره في ذات اليوم الذي تنظر فيه القضية، أما إذا كان بالإدانة فيجب أن تنقضي ليلة كاملة قبل إعلان الحكم حتى تكون هناك فرصة كافية لمشاعر الرحمة!! ولا يجوز أن ينعقد السنهدريم إلا في مكانه الرسمي، في إحدى قاعات الهيكل، وينبغي أن تكون الشهادة ثابتة من شاهدين على الأقل، يفحصان على إنفراد دون أن تكون لأحدهما فرصة الاتصال بالآخر، فإذا كانت الشهادة متعلقة بجناية من الجنايات، فقد كان لابد أن يقال للشاهد : «لا تنسى أن هناك فارقًا بين الشهادة في الأمور المدنية، والشهادة في الجنايات التي يعاقب عليها القانون بالموت، ففي قضايا المال إذا كانت الشهادة خاطئة، أمكن تعويض الخطأ بالمال، أما في هذه المحاكمة لأجل الحياة أو الموت، فإنك إن أخطأت في شهادتك، فانك ستحمل وزر المتهم ودمه ودم نسله عليك إلى الدهر».

هل تبحث عن  سافك دم الإنسان

كانت لقيافا القدرة العجيبة على أن يفعل كل شيء مخالفًا للقانون، فإذا كان الأمر يحتاج إلى استخدام المال، فمن الممكن شراء تلميذ المسيح، وإذا كانت هناك حاجة إلى شهود، فلا مانع من جلب الشهود بأي ثمن يمكن أن يشتروا به، وليس من الضروري توجيه التنبيه عليهم بخطورة الشهادة التي سيقدمون عليها، فإذا لم تفلح هذه الشهادة، فلا مانع من الاستغناء عنها، والاتجاه مباشرة إلى المتهم، ومحاولة الحصول منه على ما يدينه، مع أن من حقه الامتناع عن الجواب فيما يمكن أن يؤخذ دليلاً عليه!! وهو يستطيع أن يصل بالتمثيلية إلى آخر مداها، عندما يمزق ثيابه إزاء استجوابه ليسوع المسيح، وما حاجته بعد إلى شهود، وقد أقر معترفًا بما استحلفه به!!

والسؤال الذي ينهض أمامنا لماذا أجاب المسيح على سؤال الرجل، وهو يعلم أنه يقصد به إيقاعه، لقد وقف المسيح هنا موقفًا غير عادي، أمام سؤال مرتبط بقسم، وهكذا وقف المسيح أمام الحقيقة المجردة التي جاء من أجلها إلى هذه الأرض، والتي سار في طريقه وهو يعلم أن الصليب أمر لابد منه، لا يحكم قيافا، بل بحكم الله لفداء الجنس البشري، وهو لابد أن يعترف بهذا الحقيقة، ولو في لحظة الموت، ليعلم أتباعه أنه توجد حقائق عليا في الحياة لا يحمل التهاون أو التهادن في الاعتراف بها، مع اليقين بالموت المؤكد تجاهها، لقد تفادى المسيح أسئلة كثيرة بالحكمة، وهو يعلم قصد قاتليها، وخداع ألفاظهم المعسولة، لكن الموقف هنا مختلف، والأمر هنا إما أن يكون هو المسيح أو ليس المسيح، وهو لا يستطيع أن يقول : «لا» فينكر شخصيته، ولا يقبل أن ينال نجاته على أساس هذا الإنكار، وهو لابد أن يقول : «نعم» مهما كانت النتيجة حتى ولو قادته هذه النتيجة إلى الموت، لو أنه كان مسيحًا مدعياً أو مزيفًا، لداور في الحقيقة، وحاور في الجواب! أما هو فحاشاه – هو الصادق الأمين أن يفعل ذلك،… كلا لقد أجاب المسيح وأضاف إلى الإجابة. مما يؤكد أنه يرى في الصليب سلمًا إلى المجد العظيم إذ أشار إلى نبوة دانيال : «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتي وجاء إلى قديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» (دا 7 : 13 و 14) ومن العجيب أن يرى السيد ذات المحاكمة والصليب مرتبطين بمجده الأبدي العظيم، فإذا عجزت كل هذه الاتهامات والمحاكمات عن أن تنفذ حكم الموت في المسيح، إذ أنها في جوهرها اتهامات دينية لاتسمح بالقضاء عليه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى تهمة سياسة ملفقة، فلتلفق له هذه التهمة، وليرغم بيلاطس على قبولها، وهي تهمة التمرد على قيصر، فإذا تراخى بيلاطس على الأخذ بها، فهو لا يصلح أن يكون واليًا وهو يهمل في حق مولاه والثورة على عرشه ومركزه، وهنا يصبح قيافا إمامًا من أثمة المنافقين في كل التاريخ، وماكرًا من أبرز الماكرين وأكثرهم خبثًا ودهاء!.

قيافا والدوافع الكامنة وراء شخصيته البشعة


قَيافا 	Καϊάφας

والأمر هنا يحتاج لا أن نقف عند شخصية الرجل بما حفلت به حياته، من أبشع التصرفات وأشرها على الأخلاق، بل أن ونتغور إلى أعماقه، لنرى الدوافع التي سيطرت على حياته لينتهي إلى ما أنتهى إليه.

قيافا وصهره

قَيافا 	Καϊάφας



قال التلمود : «ويل لبيت حنان، ويل للبيت الذي اضطهد شعب الله، ويل للبيت الذي كان يضرب العابدين بالعصى، ويل للذين استولوا على الهيكل، فأخذ أبناؤهم الخزائن، وأقاموا أصهارهم على الحراسة» ولعلنا بعد ذلك نفهم كيف كان أثر حنان وبيته في قيافا، كان حنان عند صلب المسيح في السبعين من عمره، ومع أنه كان مخلوعًا، وكان قيافا يقوم بالرئاسة، في مظهرها الشكلي والرسمي، لكن حنان كان مشيره الرهيب والقائد غير الرسمي للسنهدريم، وهذا هو السبب في أن قضية المسيح طرحت على حنان أولا، وكان لابد لها أن تستكمل مظهرها الرسمي على يد قيافا، لكننا نرى الاثنين معًا، في الظاهر وفي الخفاء، في النور والظل، ونرى تأثير حنان على قيافا، فإذا كان البعض يعتقد أن قيافا لم يكن شيئًا في ذاته، إنما كان يدفع دائمًا بتأثير حنان، فإن الأمر على أي حال يكشف عن أقوى المؤثرات التي كانت تحرك رئيس الكهنة، لقد دخل قيافا دائرة البيت بالمصاهرة، وأضحى واحدًا من العصابة التي باتت تحكم وتتحكم في كل شيء، لقد كان الظاهر في صلب المسيح اجتماع السنهدريم، ليصدر القرار الخاص بذلك، لكن الذي دار وراء الكواليس، وفي الخفاء هو الذي كان الأساس في كل شيء.

منذ سنوات عديدة قام نزاع حاد في الكونجرس الأمريكي من أجل قرار هام، وفي غرفة الشباب، تقدم أحد الأعضاء نحو عضو جديد كان قد أعطى صوته للناحية الأخرى بوسيلة غير نبيلة وقال له : لماذا أيها الأخ الشاب أعطيت صوتك للناحية الأخرى؟ فأجاب : يامستر مادن – اسم السائل – كنت مضطرًا إلى ذلك، لقد كنت تحت ضغط شديد، ووضع رجل الكونجرس يده على كتف العضو، وقال : ولكن أيها الأخ الشاب أين طاقاتك الداخلية، إن ضغط الحياة من قديم الزمان على طاقات النفس الداخلية رهيب، وسيذهب الكثيرون إلى أعماق الهاوية لأن إيزابل بنت اثبعل خلف أخاب، … فإذا قالوا فتش على المرأة، فإننا لا نملك إلا أن نقول أيضًا : اختر صهرك، وافتح عينيك جيدًا قبل أن تتقدم وتضع يدك في يده، … هناك أسطورة عن رجل وقع في ضائقة شديدة، فنادى شياطين الجحيم لتساعده في ورطته، فجاءوا إليه راكضين ضاحكين هاتفين، وأخرجوا الرجل من الورطة، وعندئذ سألهم أن يعودوا إلى الجحيم، ولكن الشياطين أجابوا : نعم نعم سنذهب إلى أسفل السافلين، ولكننا سنأخذك معنا، لكي نكون هناك في مستقر واحد! ولابد أن العصابة التي عاشت على الأرض على هذا المستوى، لابد أن تعيش هناك معًا أيضًا في العذاب الأبدي، يقول النبي ميخا : «ويل للمفتكرين بالبطل والصانعين الشر على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه لأنه في قدره يدهم» (مي 2 : 1) وأي قدرة هذه أو جرأة على فعل الشر، والتي يحسد عليها إنسان!! …. هرب أحد الأسود من السيرك، وخرج الرجال الذين يعملون في السيرك بحثًا عنه، غير أنهم قبلما بدأوا البحث وقفوا عند حانة وطلبوا كلهم خمرًا، ما عدا مدربًا مشهورًا اسمه دكستر فيلوز، وعندما طلب منه رجاله أن يأخذ معهم كأسًا، قال الرجل : لا لا… إن المسكر يعطيني جرأة أكثر من اللازم، … ونحن لا نعلم كم من الكؤوس شر بها قيافا مع صهره، حتى انتهى إلى أشر قرار يمكن أن يصدره إنسان على الأرض…!!

هل تبحث عن  المزامير الحكمية Wisdom Psalms

قيافا الصدوقي

قَيافا 	Καϊάφας


كانت رياسة الكهنوت أيام المسيح قد وصلت إلى أتعس صورة من صور المهانة، لأن الوالي الروماني هو الذي كان يعين رئيس الكهنة، أو يخلعه متى أراد، ولم يكن يعين في هذا المنصب أي فريسي، يؤمن بإلهة وكتبه، ويعيش ليحقق الأماني اليهودية أو يموت في سبيلها، كان الرجل الذي يختار لابد أن يكون صدوقيًا، والصدوقيون كما نعلم لايؤمنون إلا بالله، وكتب موسى الخمسة، أما الملائكة والروح والقيامة، فقد كانت بعيدة عن إيمانهم، ولم يكن إيمانهم في الواقع بالله إلا إيماننا عقليًا، فهم والملحدون على حد سواء، أي أن الدين أضحى مظهرًا يختفي وراءه اللص والفاسق والزاني، وبيت الله تحول إلى مغارة لصوص!! من المحزن حقًا أن ينحدر الصدوقيون والفريسيون في أيام المسيح إلى الدرك الأسفل، إلى الدرجة التي يفقد فيها الدين معناه وفاعليته، ويتحول عند الصدوقيين إلى نكران للأبدية، وعند الفريسيين إلى تعصب شرير أحمق يحق فيه قول المسيح : «لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون، ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل. ولعلة تطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم، ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتسكبوا دخيلاً واحدًا ومتى حصل تصنعونه لجهنم أكثر منكم مضاعفًا» (مت 23 : 13-15).

هناك أسطورة قديمة عن الخلق، لاشك في أنها غير صحيحة، لكنها تحمل معها رمزها العظيم، والأسطورة تقول : إن الله جمع أمامه جراثيم الحياة، وطلب منها تختار ما تريد أن تكون، واختار البعض أن يكونوا أفيالاً أو نمورًا وهكذا الحيوانات، والبعض قال : بما أن أغلب سطح الأرض مغطى بالماء لذلك نطلب أن تكون لنا زعانف، وصنع الله الأسماك، والبعض رأى عالم الهواء وطلب الأجنحة، فخلقت الطيور، وبعد ما تكلمت الجراثيم، بقي واحد صغير متواضع قال : إنه لا يطلب زعانف ولا أجنحة ولا أنيابًا.. ولكنه يطلب أن يكون على شبه الله، وسر الله، وقال : كن إنسانًا!! وسيظل الإنسان إنسانًا، طالما بقي فيه الاحساس بالله، والشبه الكامن في أعماقه، فإذا قتل الشر أو الخطية، حياة الله فيه، أو بعبارة أخرى لم يكن قد تمتع بالولادة الجديدة التي تعيده إلى صورة الله وشبهه، فمن الغريب أنه سيمتليء بالزعانف والأجنحة والأنياب، ليتحول أشر وحش على الأرض!! ومع أننا لا نقصد هنا أن نخوض في أبحاث لاهوتية أو عقائدية، لكننا نود فقط أن نفرق بين الإنسان الذي تترك الحياة الروحية طابعها العميق فيه، وذاك الذي لا يزيد الدين عن أن يكون مظهرًا لحياة تعيش وتمارس الإلحاد فعلاً!! … عندما كان الدكتور دانيال وايز راعيًا لكنيسة في مدينة اسبرنج فيلد في ولاية ماساشوستس، ذهب إلى متجر وبينما هو يختار بعض مشترواته، سمع أحداهم ينطق بكلمات تجديف، وقد اجتمع حوله بعض الشباب الذي تأثر بكلامه. وبينما الدكتور وايز في طريقه إلى الباب قال للملحد : هل أفهم ياسيدي أنك تنكر وجود الله؟ وأجاب الرجل : نعم أنا أنكره. قال القس : إذًا لا يوجد كائن تحس أنك مدين له بشيء، ولا كائن تصلي أمامه، ولا كائن تأمل منه شيئًا! وقال الرجل : كلا. وقال القس : بما أن الأمر كذلك، فأظن أنه لا يوجد عندك مانع أن توقع على وثيقة بذلك، فقال الرجل : بكل تأكيد لا يوجد! وكتب الدكتور وايز : بما إني لا أؤمن بوجود إله. فأنا أجحد كل علاقة به في الحاضر والأبدية، في الفرح والحزن في الحياة والموت، ولكي أثبت حقيقة اعترافي، أوقع باسمي على هذه الوثيقة، قرأ الرجل الوثيقة وتردد قبل أن يوقع عليها ولكنه وقعها أخيرًا وأخذها دكتور وايز وطبقها ووضعها في جيبه ومشى، على أنه سمع خطوات الرجل خلفه، وسمعه يقول : إذا لم يكن عندك مانع فإني أرجو أن تعطيني الورقة. وأجابه القس : إنها أصبحت ملكي لكن ماذا تريد أن تعمل بها؟ وقال الرجل : أمزقها!… ألا تؤمن بصحة ما جاء بها؟ نعم أؤمن ولكني أحس بأني أستريح أكثر إذا مزقت الورقة!!… من المؤسف جدًا أن قيافا مزق ثيابه، ولم يمزق الورقة التي سلم بها يسوع المسيح!! ولست أعلم إلى أي حد كان قلقًا وهو يفعل ذلك، وهل استطاع لكونه صدوقيًا أن يستريح!!؟ هذا هو السؤال!!؟

هل تبحث عن  وقد اعتبر الرسول طول الأناة من ثمر الروح

قيافا والمال

قَيافا 	Καϊάφας



وضع المسيح إصبعه على نقطة الضياع في حياة الرجل أو في حياة العصابة ولم يتردد في هذا الوصف الرهيب الذي ذهب على مدى العصور كلها : «بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت 21 : 13). وفي اللغة الإنجليزية هناك كلمتان متقاربتان نطقًا ولفظًا وهما Prophets بروفتس أي «أنبياء» وProfits أي «مكاسب» وكان هم عصابة حنان وقيافا – وهم قادة الدين في عصرهم – الوصول إلى المال، بكل وسائل اللصوص دون أدنى تردد، وعند خراب أورشليم وجد الرومان داخل الهيكل ما قيمته مليونان ونصف من الجنيهات، تمامًا كما وجد الشيوعيون بعد ظهور راسبوتين مثالاً للفساد البشع الرهيب الذي دخل إلى الكنيسة، مبلغ خمسة ملايين من الجنيهات في كنيسة بطرسبرج عند اقتحامها ودخولها. إن المال واحد من أقسى الامتحانات أو المحكات للإنسان في الخير أو الشر على سواء.. ذكر أحد الرعاة أن غريبًا حضر إلى كنيسته وكان في ختام كل ترنيمة وفي أثناء العظة يرفع صوته بالقول : «آمين» بصوت يجلجل في المكان، وقد سأل الراعي نفسه، ترى هل هذا الشخص مخلص أم هي حركات تمثيلية، إلى أن جاءه في أحد الليالي، وهو يبدي اهتمامًا كبيرًا بالنفوس البعيدة عن الكنيسة في هذا العمل، فأدرك أن الرجل لمن يكن مزيفًا فيما يقول!! وعلى العكس من ذلك، عندما يتحول أقدس مكان على الأرض إلى مغارة لصوص!! لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة (2تي 6 : 10)!!

قيافا الحسود


قَيافا 	Καϊάφας



على أن الطاقة الكبرى والتي تركت طابعها العميق على حياة الرجل، كانت الحسد، وقد وضع بيلاطس إصبعه على موضع الداء : «لأنه علم أنهم أسلموه حسدًا» (مت 27 : 18).. لقد اضطرب قيافا لشهرة المسيح الآخذة في الذيوع، والتي لم يفلح وعد أو وعيد في القضاء عليها، وهو يفزع إذ يأخذ المسيح مكانته بين الجماهير الذين التفوا حوله، وبالتالي ينفضون عنه، وعن رئاسته وزعامته، إنه الحسد ذلك الداء الوبيل، فانهما لا يمكن بأي حال أن تتسع لقيافا ويسوع المسيح، فلابد لأحدهما أن يذهب ليبقى الآخر، وهي محبة الذات التي تقدم المسيح على مذبح الأنانية والحقد والكراهية والحسد!!.

والآن هل يقول واحد من الناس : مسكين هذا الرجل الذي ذبح الدين باسم الدين، والذي صلب المسيح، وهو يعلم أو لا يعلم و أنه ارتكب أعظم جريمة في كل التاريخ! على أن أي إنسان يقف عند هذا الحد، هو أيضًا مسكين، لأن تتويج المسيح ملكًا على القلب أو صلبه هو القضية المطروحة على كل قلب بشري!! ولا يمكن أن ننسى في هذا المقام قصة الملكة فيكتوريا في حفل تتويجها، إذ كان التقليد يقضي أن تظل الملكة الفتاة جالسة على عرشها، ولو وقف جميع الحاضرين، بينما يرتل الجميع ترنيمة «المسيا» لهاندل، وكانت هذه الترنيمة هي آخر ترنيمة في الحفل، فلما بدأت فرقة الترنيم في ترنيم وقف النواب والأشراف ورجال الدين برؤوس عارية، والملكة جالسة على عرشها، ولكن ما أن وصل المرنمون إلى القول : «وملكه الآن وإلى الأبد» حتى بان التأثير العميق على وجهها، ولكن عندما دوى صوت المرنمين : «ملك الملوك ورب الأرباب» انتصبت الملكة واقفة على قدميها، ورفعت التاج، والدموع تتألق في عينيها لأنها شعرت أنها في حضرة ذاك الذي ملكه إلى أبد الآبدين فهو على الكل يسود!!

مسكين قيافا لقد اشترى مركزه بموت المسيح، ولم يعلم بأن الخراب الآتي قريب، وأنه سينتزعه هو والعصابة وأورشليم واليهود جميعًا، ويطوح بهم في هاوية لا قرار لها، ويجعل منهم على مدى ألفي عام من الزمان أبشع قصة تروي في عظة للأجيال كلها لمن يمكن أن يتعظ! لقد مات المسيح فعلاً ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد، وللأسف لم يكن بينهم الرجل الذي تحدث بهذه النبوة القديمة : «فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا. كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة، أنتم لستم تعرفون شيئًا ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد»!! (يو 11 : 49 – 52).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي