كتاب وصايا الآباء

كتاب
وصايا الآباء

(عهود
الاباء
)

Teastments Of The Patriarch

من كتابات وادى قمران

نص وصايا الاباء

عُرفت
“وصيّات الآباء الاثني عشر” منذ زمن بعيد. في القرن الثالث عشر نُقلت
إلى اللاتينية. سنة 1698، طُبع النص اليوناني مرة الاولى على يد غرايي ومرّة ثانية
على يد سنكر، ومرّة ثالثة على يد شارلس. استند الناشر إلى شهادة تسعة مخطوطات
يونانيّة، واستعمل ترجمة أرمنيّة قرأها في تسعة مخطوطات، وبترجمة سلافية. بعد ذلك،
اكتُشفت تسعة مخطوطات يونانيّة استفاد منها يونغي لينشر الوصيّات في نسخة حديثة.

واكُتشفت
أربعون مخطوطة أرمنية بالإضافة إلى التسعة التي استعملها شارلس. وقد درسها
بورتشارد وستون.

وُجدت
أربعة أجزاء أراميّة صغيرة عن وصيّة لاوي في مغارة قمران الاولى.

وعرّفنا
ميليك إلى جزء أرامي لهذه الوصيّة، ثم إلى جزء آخر يعود إلى المغارة عينها. ووُجد
في المغارة الرابعة جزء من النصّ العبريّ لوصيّة نفتالي. وحُفظت وصيّة نفتالي
العبريّة في مخطوطين متأخرين.

نص
الوصيّات الذي بين أيدينا هو ترجمة عن الأراميّة أو العبرية. ووجود مخطوطات في
مغاور قمران هو أكبر برهان على ذلك.

مدخل الى وصيات الاباء

1-
الوصيّة كفن أدبي

ترتبط
الوصيّة (وصيّات) بفن أدبي غير واضح المعالم، نستطيع أن نسمّيها “الخطبة
الوداعيّة”. من الواضح أن مضمون مثل هذه الخطبة يتنوّع فلا ينحصر في تعبير
بسيط. وما يميّز هذا النوع الأدبي في الدرجة الأولى هو وضع انسان قريب من الموت:
يعبّر عن ارادته الأخيرة. وبعد هذا يرد خبر موته. وما يميّز هذا الفن هو: مقدمة،
خطبة وداعيّة، إشارة أخيرة إلى الموت.

أ-
إطار وصيّات الآباء

نتذكّر
أولاً أن الوصيّات هي مجموعة مؤلّفة من اثنتي عشرة وصيّة، بدون مقدّمة ولا خاتمة
عامة. هناك إطار خاص بكل وصيّة، وليس من إطار يشمل كل الوصيّات. أما المقدّمة
(رأوبين 1: 1- 5؛ شمعون 1: 1- 2: 1؛ لاوي 1: 1- 2؛ يساكر 1: 1؛ زبولون 1: 1- 2؛
دان 1: 1- 2؛ نفتالي 1: 1- 5؛ جاد 1: 1؛ أشير 1: 1- 2؛ يوسف 1: 1- 2؛ بنيامين 1:
1- 2 أ) فتتضمن بشكل عام العناصر التالية: (1) عبارة مقدّمة ثابتة في كل وصية:
نسخة أقوال (وصيّة) الأب التي أوصى بها أبناءه. (2) الاعلان بأن موت الأب قريب.
(3) إشارة إلى عمر الأب. (4) اجتماع أبناء الأب عند فراشه. (5) الأمر بسماع ما
يقوله الأب. لن نتوقّف عند الاختلافات الخاصة بكل وصيّة، ولكن نشير إلى أن نفتالي
هيّأ وليمة لابنائه، وفي اليوم التالي أنبأ بموته فلم يصدقوه (نفتالي 1: 2- 3).

وكيف
تنتهي كل وصيّة؟ هناك بنية مشتركة مؤلّفة من اربعة عناصر. (1) عبارة تعيدنا إلى
الخطبة التي قيلت وتدلّ على نهايتها. (2) يعلّم الأب أبناءه الترتيبات التي يجب أن
تتّخذ من أجل جنازته. (3) الاشارة إلى موت الأب. (4) حملت عظام الأب إلى حبرون
وهناك دُفنت مع الآباء. رج رأوبين 7: 1- 2؛ شمعون 8: 1- 9: 1؛ لا 19: 4- 5؛ يهوذا
26: 2- 4؛ يساكر 7: 8- 9؛ زبولون 10: 6- 7؛ دان 7: 1- 2؛ نفتالي 9: 1- 3؛ جاد 8:
3- 5؛ أشير 8: 1- 2؛ يوسف 20: 2- 6؛ بنيامين 12: 1- 4. نشير إلى أن نهاية وصيّة
يوسف تعطي تعليمات من أجل دفن أسنات، وتذكر فضائل يوسف لترفعها.

إن
الاطار الذي هو في كل هذه الوصيّات يتضمّن وحدة الكاتب. أمّا الاختلافات بين وصيّة
فتدلّ على عبقريّة الكاتب الخلاّقة. ولكن هذا لا ينفي أن تكون يد بدّلت بعض الشيء.
فمقدمة وصيّة لاوي الطويلة والمطبوعة بالطابع الساميّ قد نالت إضافات ثانوية.
ويبدو أن نقطة انطلاق المجموعة نجدها في وصيّات لاوي ويهوذا ونفتالي.

ب-
وصيّات الآباء والعالم اليهوديّ القديم

أولاً:
وصيّات مستقلّة

هناك
كتابات وصلت إلينا تحت عنوان “وصيّة” وما هي بوصيّة. مثل وصيّة كل من
آدم وابراهيم واسحاق وسليمان، جاءت متأخرّة ونالت عدداً من التحويرات، فلا ترتبط
بالوصيّات كفنّ أدبي. وما سمّي “وصيّة ابراهيم” يبدأ باعلان موت ابراهيم
بفم ميخائيل رئيس الملائكة. ثم نقرأ خطبة ابراهيم الوداعيّة. غير أننا نرى ميخائيل
يقوم بزيارة ثانية إلى ابراهيم ويقوده برحلة إلى السماوات، وهذه الرحلة هي الموضوع
الأساسيّ في الكتاب.

و”وصيّة
اسحاق” التي هي قريبة من “وصيّة ابراهيم” لا تقع في اطار
“الوصيّة” مع أن ف 3- 5 تتضمّن رسمة مريعة لخطبة وداعيّة. ونقول الشيء
عينه عن “وصيّة سليمان”، مع أن هناك إشارة إلى سليمان الذي كتب وصيّته
(26: 8). وإذا توقفنا عند جزئين يشكّلان “وصيّة آدم السريانية”، يروي
الجزء الثاني موت آدم ويقول بعد ذلك إن شيتاً كتب هذه الوصيّة. ونجد في لوائح
المنحولات “وصيّة موسى” التي تشبه “صعود موسى”. وحدها
“وصيّة أيوب” تدخل في إطار “الوصيّة” كفن أدبيّ. نقرأ العبارة
المقدمة: كتاب أقوال أيوب المسمّى يوباب. ثم نقرأ: مرض أيوب فدعا أبناءه لكي يروي
لهم حياته مع “اسمعوا اذن يا ابنائي”. وتنتهي “وصيّة أيوب” مع
ف 52- 53 اللذين يصوّران صعود نفس أيوب، ساعة كان جسده يُوضع في القبر.

ثانياً:
من التوراة

نجد
في التوراة أو العهد القديم خطبة يعقوب الوداعيّة (تك 47: 29- 50: 14)، وأقوال
يوسف الأخيرة (تك 50: 22- 26). في مقدمة بركة يعقوب (تك 49) نجد الوضع الذي نجده
في كل وصيّة: يعقوب على فراش الموت، يدعو أبناءه ليقول لهم ما ينتظرهم من مستقبل.
ثم يأتي الأمر بأن يسمعوا أباهم يعقوب: “اسمعوا يا بني يعقوب، اسمعوا اسرائيل
أباكم” (تك 49: 2). وأوصل يعقوب (ويوسف) لأبناءه ارادته الأخيرة في شأن
جنازته (تك 49: 29- 32؛ 50: 25). ويقدّم 1 مل 2: 1- 10 إطار وصيّة. “أحس داود
أن قد قربت ساعة موته، فحثّ سليمان ابنه قائلاً”. ونجد في سفر طوبيا مقطعين
يرتبطان بالوصيّة. نجد في الأول (4: 1- 21) المقدمة فقط، التي ترتبط بالخاتمة (14:
3- 11). وفي هذه الخاتمة يدعو طوبيت ابنه عند ساعة موته ليوصّيه. وبعد ذلك يموت
ويُدفن دفنة مجيدة. ويذكر النص الاسكندراني والنص الفاتيكاني عمر طوبيت حين مات.
ونذكر أخيراً وصيّة متتيا في 1 مك 2: 49- 70 مع مقدّمة شبيهة بمقدّمة طوبيا (طو
14: 3- 11).

2-
أصل “الوصيّة” كفن أدبي

أ-
الوصيّة كفن أدبي والوصيّة القانونيّة

إن
اسرائيل القديم لم يعرف الوصيّة المكتوبة. ولكننا نكتشف لدى قراءة بعض النصوص أن
الأب كان ينظم بشكل شفهي توزيع أمواله قبل موته (2 صم 17: 23؛ 2 مل 20: 1). والعبارة
هي “ص و ه (أوصى) ب ي ت و” (بيته)، وكلمة “ص و ه” تعني
“رتّب”. نجد هنا أصل الوصيّة الروحيّة والخلقيّة في الأدب الرابيني
واليهوديّ الوسيط.

في
العالم اليهوديّ القديم، كانت شرائع الإرث ثابتة، سواء كانت شفهية أو خطيّة، بحيث
انتفت الحاجة إلى كتابة وصيّة. وسوف ننتظر زمن التلمود لنجد وصيّات قانونيّة. هنا
نكتشف تأثير الشريعة الرومانيّة.

في
أي 42: 5 نقرأ أن أيوب أعطى ارثاً لبناته، وهذا ما يتعارض مع شرائع الارث حين يكون
للأب أولاد ذكور. وفي طو 8: 21 يعطي رعوئيل، والد سارة، إلى طوبيا نصف أمواله
ويعده بالقسم الثاني بعد موته وموت امرأته. هذا ما يفترض وصيّة. ونقرأ في سي 14:
13: “قبل موتك أحسرا إلى صديقك وأعطه ما اقتنت يداك” (رج سي 42: 3).

وقد
نجد في “الوصيّة” الروحية تلميحاً قانونياً إلى ما يتركه الأب من خير
لأبنائه. فحسب “وصيّة اسحاق” التي نقرأها في يوب 36: 1- 18، يوزّع الأب
أمواله على ولديه (آ 12- 13). وف 45 من وصية أيوب، الذي هو ملخّص لتحريضات أيوب
الأخيرة، ينتهي بتدبير ذي طابع قانوني: “ها أنا يا أبنائي أقسم بينكم كل ما
أملك” (آ 4 أ). ونجد أيضاً في وصيّات الآباء تلميحاً إلى الوجهة القانونيّة
في وضع الميت. يأتي هذا التلميح في سياق تحريضات الآباء الأخيرة. مثلاً، أراد
بنيامين أن يوجز كل التعليم الذي أعطاه كاتب “الوصيات”. “هذا ما
أعلّمكم إياه بشكل ميراث”. وهكذا نترك القول بأن أهمّ شيء في الوصيّة هو
الخيرات الماديّة.

ب-
الوصيّة في العالم اليونانيّ

إذا
كانت “الوصيّة” قد وُجدت في زمن الهيكل الثاني، يبقى أنها أخذت الكثير
من العالم المحيط بالعالم اليهوديّ. لهذا، نتوجّه إلى العالم الهلنستي. هناك
البرديات اليونانيّة المصرية، ثم بعض الكتابات اليونانيّة ووصيات الفلاسفة. فمع
اختلاف الزمان والمكان، بقيت مقدّمة الوصيّة هي هي، فتبدو على الشكل التالي: (1)
تاريخ الوصيّة. (2) مصدر الوصيّة. (3) عبارة الوصيّة. (4) اسم الموصي مع تحديد
“ابن”. (5) ذكر عمر الوصي. (6) عبارة تسبق الترتيبات. أما العناصر التي
تشكّل نهاية الوصيّة فهي ذكر الشهود والتاريخ.

نذكر
في هذا المجال “آخر أيام الاسكندر” أو “وصيّة الاسكندر” التي
تعود إلى القرن الأول ق. م. والتي هي مزيج من الوصيّة الأدبيّة والوصيّة
القانونيّة. ونذكر أيضاً خطبة قمبيز الوداعيّة التي أوردها هيرودوتس فتضمّنت دعوة
الأقارب ليتسلّموا إرادته الأخيرة. عاد قمبيز إلى خطاياه الخطيرة وقدّم توجيهات لخلفائه.
وهناك أيضاً خطبة كورش الوداعيّة التي دوّنها اكسينوفون والتي تبدو قريبة من
الوصيّات.

وهكذا
بدا فن “الوصيّة” بشكل خطبة وداعيّة، حاضراً في كتب ليست بوصيّة، في كتب
يونانيّة، وتشابهاتُها مع وصيات الآباء لافتة للنظر.

محيط
وصيّات الآباء الثاني عشر

1-
المحيط الاصليّ وهدف الكتاب

حين
ننظر إلى بنية “الوصيّات” ووظيفتها، نكتشف عملاً مشتركاً. فكاتب الكتاب
هو الذي عبّر عن التعليم والأفكار التي نجدها في محيط الوصيات. فما كان هذا
المحيط؟

أ-
طابع يهوديّ

إن
الطابع اليهوديّ للوصيّات ظاهر جداً. فمن الصعب أن نعتبر النصّ الاساسي تقميشاً
مسيحياً استعمل مواد يهوديّة. فالمواد التي تعود إلى الكاتب الأول تكشف عن محيط
يهوديّ. فاذا كنا أمام كاتب مسيحيّ أصيل، كيف نشرح أنه لم يتحدّث بوضوح عمّا يميّز
المسيحيّة في أصولها، أي موت المسيح وقيامته.

حين
نبحث عن المحيط اليهودي الذي أعطانا الوصيّات، يجب أن نحدّد وظيفة الكاتب الأولى
في مجملها. فالهدف الارشاديّ والتعليمي المسيطر يدلّ على أن وظيفة الوصيّات
الاساسية هي أن تعلّم وأن تبني. والطابع العام الذي التعليم يجعلنا نفكّر أن
الكتاب يتوجّه إلى يهود عاديين. فكل أب من الآباء يكلّم أبناءه عند موته، وبالتالي
يكلّم اليهود في عصره. وبما أن هدف الوصيّات هو التعليم، نتساءل: من امتلك مهمّة
التعليم والتفسير في الشعب اليهوديّ؟ لهذا سنبحث في هذه المجموعة عن
“كاتب” وصيّات الآباء.

ب-
الكاتب الحكيم

رأى
العالم اليهوديّ المرتبط بالهيكل الثاني نموذجاً دينياً جديداً، هو الكاتب (س و ف
ر) الحكيم الذي يفسّر وحي الله ويعلّمه، يفسِّر “ت و ر ه” التي تدلّ على
أسفار موسى الخمسة كما تدلّ على الكتاب المقدس كله (رج أش 2: 3؛ ملا 2: 8- 9؛ 2 أخ
6: 16؛ 12: 1؛ دا 9: 11؛ فحب 1: 10؛ مد 4: 10؛ 5: 11 حيث تدلّ “ت و ر ه”
على الوحي أو التعليم). أما مثال هذا الكاتب فنجده لدى عزرا. والوظيفة التي نُسبت
إلى عزرا في عز ونح، تدلّ بوضوح على طابع “س و ف ر” اليهوديّ. هو ينسخ
الكتب المقدسة، ويتلوها في قراءة جمهوريّة. هو يتبحّر في “توراة” الله.
يدرسها (د ر ش) ليعلّم (ل م د، تلميذ) شعب اسرائيل فرائض الله (عز 7: 6، 10- 12؛
نح 8: 1- 2. يُعطى لقب “س و ف ر” لعزرا في نح 12: 26، 36).

وتظهر
صورة “س و ف ر” اليهودي أيضاً في وجه أخنوخ. ففي الكتابات المرتبطة
باسمه، يُسمّى “كاتب الحق” (1 أخن 15: 1)، “كاتب البرّ” (1
أخن 12: 4) والكاتب الفهيم (س ف ر. ف رش ا، الذي يميّز). تعود التسميتان الاوليان
إلى مضمون التعليم الذي يُنقل إلى أخنوخ. ويلخّص “الحق” (ق و ش ط ا)
و”البر” (ص د ق ه) (هنا توراة الله في المعنى الواسع)، كما تدلاّن على
سياق إرشادي يظهر أخنوخ في دور الواعظ الذي يكشف الآتيات ويحثّ الناس على البرّ.
ويرتبط هذا الدور ارتباطاً واضحاً بنشاطه ككاتب (1 أخن 93: 1- 3؛ 97: 6؛ 98: 7- 8؛
103: 2؛ 105: 12). وتسمية “الكاتب الفهيم” تدلّ على أن أخنوخ هو كاتب
لامع ينقل تعليم الله برفعة ومهارة. وما يميّز الكاتب هو أنه ينقل كتابة تفسيراته
لتوراة الله، وينشر هذه التفسيرات (يوب 4: 17- 19؛ 1 أخن 92: 1؛ 100: 6، 12. هنا
يذكر أخنوخ كتاباته). واخنوخ ككاتب فهيم يمتلك أيضاً قوّة تفسير (ف ش ر) الأحلام.
هذه القوة هي جزء من حكمة (ح ك م ه) الكاتب، ومدلول لا نجده في وجه عزرا، بل في
وجه أخنوخ الذي يبدو كاتباً وحكيماً (ح ك م). وحسب يوب 4: 17، كان أخنوخ أول من
تعلّم فنّ الكتابة، وأول من اقتنى الحكمة. سمّي في 1 أخن “الكاتب”
و”أحكم الناس” (ح ك م. ن و ش ا). ووجه أخنوخ ككاتب وحكيم كما رسمناه، قد
تنظّم بين القرن الثالث وبداية القرن الأول ق. م. ونحن نجد في ذلك الوقت تلميحات
أخرى إلى الكتبة أو السفرة (1 مك 7: 12؛ 2 مك 6: 18).

يجب
أن نبحث عن المحيط الأول للحكيم في بلاط الملوك في الشرق الأوسط بشكل عام في أرض
اسرائيل بشكل خاص. ومن نتاجه سفر الامثال، سفر الجامعة، سفر دانيال. وفي الحقبة
البعد منفاويّة ارتبط مثال الحكيم بتوراة الله وبتفسيرها (رج إر 8: 7- 9؛ أم 13:
14؛ جا 7: 5). اذن، تتطابق وظيفة الحكيم مع وظيفة الكاتب، وفي الحقبة الهلنستية
مثّل السفرة والحكماء النموذج الدينيّ الواحد. هذا ما بيّنه ابن سيراخ الذي يعود
إلى بداية القرن الثاني ق. م.

يمثّل
يشوع بن سيراخ نفسُه نموذج الحكيم، فيصوّره في بعض مقاطع كتابه. هذا المثال هو
مثال “س و ف ر” (سي 38: 24: حكمة كاتب تكثر الحكمة). وأهم شيء بالنسبة
إلى الحكيم هو أن يدرس توراة الله وينشرها ويعلّمها (سي 6: 36: أدرس توراتات العلي
وتأمّل دوماً في وصاياه؛ رج 38: 34؛ 39: 1، 8). وعلى التعليم أن يتوجّه، لا إلى
التلاميذ وحسب، بل إلى أولئك الذين يجتمعون في مدارس الحكمة، بل إلى الشعب أيضاً
(سي 37: 23: الحكيم يعلّم الحكمة لشعبه “ي ح ك م” وتكون لهم ثمار
معرفته؛ رج 37: 26 حيث يربح الحكيم ثقة شعبه). وما يلفت النظر هو أن تفسير توراة
الله يُعتبر وظيفة نبويّة. فابن سيراخ يعلّم وكأنه نبيّ (سي 24: 33). هذا يعني أنه
يفسّر ما يوحي إليه الله ويعبّر عنه (سي 39: 1، 6). وخاتمة الكتاب تدلّ على أن سي
هو تعليم حكمة (م و س ر. ش ك ل) تنبّأ به (ن ب ع).

إن
صورة الكاتب الحكيم الذي يعلّم فن الكتابة والقراءة وينشر التعليم في الحكمة
الممثَّلة هنا في توراة الله، قد طبّقت أيضاً على أشخاص آخرين في القرن الثاني ق.
م. ففي المحيط الكهنوتي، قُدّم يوسف كمثال الكاتب اليهوديّ. وبيّن لنا “منحول
لاوي” (آ 90: انظروا يا بنيّ يوسف أخي الذي يعلّم الكتابة ويلقِّن الحكمة)
لاوي ينصح أبناءه بأن ينظروا إلى يوسف الذي يعلّم (ا ل ي ف) الكتابة والقراءة
ويعطي تعليمه في الحكمة (ح ك م ت ا). وامتلك دانيال “كحكيم” معرفة
الكتابة والقراءة، والفهم، والحكمة التي أعطاها الله له (دا 1: 17). فدانيال
الحكيم عرف تفسير الأحلام (1: 17 ب)، وبدا حاملاً وحي الأسرار الالهيّة. ونال
الحكيم هنا أيضاً الموهبة النبويّة في وحي يمنحه الله (دا 2: 19- 23). فدانيال
وأخنوخ ها بالنسبة إلى الأتقياء (حسيديم) في القرن الثاني ق. م. نموذج الكاتب
الحكيم. أما عند الاسيانيين فداود كان في الوقت عينه نموذج الحكيم والكاتب الملهم
(مزامير داودية 37: 1).

وما
كان الكاتب الحكيم يعمل عمله كشخص منعزل، بل كان ينتمي إلى جماعة. ويبدو أنه كانت
مدارس حكمة ينال فيها الكاتب التعليم.

ج-
الحكماء

خلال
القرن الثاني في. م. ظهر الحكماء (ح ك م ي م) كمعلّمي الشعب. وخاتمة سفر الجامعة
(12: 8- 14) التي كتبها أحد التلاميذ لاحظت أن الحكيم “ظلّ يعلّم الشعب
المعرفة”. ومقدّمة ابن سيراخ التي دوّنت حوالي سنة 130، أكدّت أن تعاليم
الجدّ لا تتوجّه فقط إلى مدارس الحكمة، بل إلى الشعب اليهودي أيضاً (مقدّمة 4- 6)،
وفي بداية القرن الأول ق. م. دلّ 1 أخن (98: 1، 9) على الحكماء كمجموعة مهمّة داخل
جماعة فلسطين اليهوديّة، وظيفتها تعليم الشعب توراة الله ونشر أفكارها.

وبدأ
العالم اليهوديّ يتقسّم في القرنين الاولين ق. م.، فقدّمت كل فئة تفسيرها للديانة
اليهودية، فمثلت وسطاً مختلفاً عن سائر الأوساط. لا شكّ في أن مفهوم الحكيم الذي
يفسّر التوراة ويعلّمها ظلّ هو هو، ونحن نجده في مختلف الحركات اليهوديّة. فابن
سيراخ مثلاً يدلّ على الاوساط الكهنوتيّة في أورشليم. وسيكون للصادوقيين حكماؤهم
فيما بعد. وكذا نقول عن محيط قمران. والأوساط التي رأت في أخنوخ ودانيال نموذج
الكاتب الحكيم انتمت إلى حركة الحسيديم الذين سيتفرّع منهم الفريسيون. وفي نهاية
القرن الأول ب. م. وُجد مجمل الحكماء بين الفريسيين. ومزامير سليمان هي نتاج جماعة
حكماء أورشليم في القرن الأول ق. م.، الذين لا نستطيع أن نجعلهم في أن حركة من
الحركات التقليديّة في ذاك العصر.

د-
الحكماء ووصيّات الآباء الاثني عشر

نلاحظ
لدى دراستنا الوصيّات أن هدف الكتاب العام ومرماه الارشادي، يجعلاننا في خطّ
الحكماء (ح ك م ي م). ونلاحظ في التفاصيل مشابهات دقيقة مع مثال الكاتب الحكيم
الذي يفسّر شريعة الله ويعلّمها للشعب. فصاحب الوصيّات يهتمّ أولاً ب “شريعة
الرب” (وص زبولون 10: 2. هناك “شريعة الرب” و”وصايا زبولون
أبيكم”. الأولى هي وحي الله. والثانية هي تفاسير الحكماء. رج وص رأوبين 3:
8). ويلمّح إلى تفاسير حرّة يقوم بها الحكماء حين يدرسون تعليم الله. وتحريض وص
رأوبين 4: 1 على تعلّم القراءة والكتابة يقابل مثالاً انتشر لدى الكتبة الحكماء.
والدروس حول التوراة هي جزء من تكوين اليهوديّ التقيّ في تعليم الحكماء (وص أشير).
وتشدّد وص لاوي 13: 2 على أهمية تعليم القراءة والكتابة للحصول على الفهم الذي
يميّز الحكيم. ويدلّ هذا المقطع على أن قراءة التوراة أمام الشعب كانت مهمّة
اساسيّة لحكماء الوصيات. فالكاتب الحكيم قد نال من الله موهبة النبوءة، وهذا ما
يتوافق مع تعليم الوصيّات. فالإنباءات والرؤى تشكل عنصراً لافتاً في هذه الكتابات،
فاعتبر حكماء الوصيات أنبياء (وص يهوذا 18: 5)، والإشارة إلى أخنوخ كموحي الآيات
تتوخّى التشديد على تواصل النبوءة في أوساط الكتبة الحكماء.

إذا
كان طابع التعليم والبناء في الوصيَّات يفسَّر بارتباطه بحلقة الحكماء، فهو يفسَّر
أيضاً بارتباطه بوجه لاوي. فالايديولوجيا اللاويّة تشكّل إعادة تفسير النصوص في
محيط لاوي. وما يلفت النظر هو الدور الذي يلعبه تعليم يعطيه بنو لاوي (وص رأوبين
6: 8؛ لاوي 8: 9؛ 13: 2؛ 14: 4: أعطيت التوراة اللاويين لإنارة كل انسان). وما
نعرفه عن اللاويين في زمن الهيكل الثاني يثبت القول بأن الوصيات هي نتاج الحكماء
اللاويين. ففي الحقبة الفارسيّة وفي بداية الفترة الهلنستية، كان اللاويون أوّل من
علّم الشعب التوراة، وسوف يواصلون هذا العمل فيما بعد. وبما أنهم من قبيلة لاوي،
فسيكونون امتداداً لوظائف الكهنوت النبويّة. فالكتبة خرجوا من محيط اللاويين كما
قال منحول لاوي الذي يعود إلى القرن الثاني ق. م.

هل
ارتبط حكماء الوصيّات بالصادوقيين؟ ولكنهم هاجموا الارستوقراطيّة الكهنوتيّة. وهل
ارتبطوا بالاسيانيين؟ هناك نقاط تماس بين كتابات قمران والوصيات، وهذا ما يدلّ على
تقارب بين محيط ومحيط. هناك نقاط تبدو ارثاً مشتركاً في الوسط الكهنوتي. وهناك
نقاط أخرى يبدو فيها التأثير الاسياني واضحاً على حكماء الوصيّات. ولكن في أي حال،
لا نستطيع أن نعتبر الوصيّات نتاج الجماعة الاسيانيّة في قمران.

في
الختام نقول إن الوصيّات هي نتاج الحكماء اللاويين الذين أرادوا أن ينشروا تفسير
الديانة اليهودية كما كانوا يرونها. ما أرادوا أن يدخلوا في تفصيل الوصايا،
فاكتفوا بأن يعلّموا الشعب أهميّة التوراة مشدّدين على الجوهر فيها، وقد تكون
الوصيات في الاصل كتاب تعليم ديني نشره الحكماء في المجامع. فهناك كانوا يقرأون
التوراة (لاوي 13: 2) ويفسّرونها. وهكذا تعكس وصيّات الآباء الاثني عشر كرازة
المجامع الفلسطينية في القرن الأول في. م.

2-
موضع تأليف الوصيّات وتاريخ تأليفها

إن
الاصل السامي لكتاب الوصيات، والخلفية التاريخيّة، يجعلاننا نفكّر أن هذا الكتاب
قد دوِّن في وسط فلسطيني. وقد يكون شمال فلسطين هذا الموضع بالتحديد، لقربه من
سورية وفينيقية. فالدور البسيط الذي لعبه هيكل أورشليم، يدلّ على أن الكاتب كان
بعيداً عن أورشليم. كان في الجليل الذي سكنه عدد من اليهود في الحقبة الهلنستية.

وها
نحن نلاحظ الأمور التالية. موضع رؤى نفتالي يحدّد في أرض نفتالي، أي الجليل. تجري
الرؤية الأولى (نفتالي 5: 1- 8) على تلال الزيتون في الجليل. ونقول الشيء عينه عن
الرؤية الثانية (نفتالي 6: 1- 10). و”البحر” المذكور في هذه الرؤية، لا
يدلّ على البحر المتوسط، بل على بحيرة كبيرة، قد تكورا بحيرة جنسارت. هناك يتمّ
الصيد (6: 2). ولا ننسى أن هذه البحيرة سمّيت بحراً في عد 34: 11؛ رج مت 15: 29؛
مر 1: 16؛ 7: 31.

ونشير
أيضاً إلى أن آباء قبائل الجليل هم الذين يمجَّدون في الأخبار وفي الارشادات.
يساكر هو مثال البساطة. ويرتبط بزبولون موضوع الرحمة. نفتالي هو مرسل اسرائيل
وصاحب رؤى، وهو يقدّم الأفكار الرئيسية حول اسرائيل ومستقبله في خطّ الحكماء
اللاويين.

ومتى
دوّنت الوصيات؟ هنا ننطلق من الاتجاهات والأفكار الأساسيّة. السياق السياسي
والاجتماعيّ يجعلنا في عهد آخر الحشمونيين (رأوبين 6: 10- 12؛ لاوي 10: 2- 3؛ 14:
1- 8؛ 16: 1- 3؛ يهوذا 21: 6- 9؛ 22: 1- 2). هناك نقد لهؤلاء الأمراء الذين
استولوا على الملكيّة المحفوظة لنسل داود، الذين يضيّقون على الشعب، الذين يضطهدون
المقاومين، ويكدّسون الغنى. وكان هجوم قويّ على الكهنوت الأعلى والارستوقراطيّة
اليهوديّة. هذا ما يجعلنا قريبين من وثيقة صادوق ومزامير سليمان، وبالتالي في ذات
السياق التاريخي.

وموضوع
“لاوي ويهوذا” (أي الكهنوت والملك) الذي هو فكرة أساسيّة في الوصيات،
يشدّد على تمييز بين كهنوت لاوي وملكيّة يهوذا، مع هجوم على الحشمونيين الذين
استولوا على الملكية. وهكذا نكون في عهد ارسطوبولس الاول واسكندارة. وهكذا تكون
الوصيّات قد ألّفت في النصف الأول من القرن الأول ق. م.، وذلك قبل سنة 63 ووصول
بومبيوس الروماني إلى فلسطين.

3-
إعادة قراءة النصّ الأصلي

حين
نُقل الكتاب من أصله السامي إلى اللغة اليونانيّة، تكيّف النصّ الجديد مع الواقع
الجديد. وهكذا يستطيع اليهود المتكلّمون اللغة اليونانيّة أن يجدوا نفوسهم قريبين
من أفكار ونظرات هذا الكتاب. أعيد تدوين عدد من المقاطع الاسكاتولوجيّة ودخل مثال
الكاهن المخلّص. وهكذا برزت معتقدات مسيحانيّة. كما برزت أفكار نسكيّة، ونظرة
جديدة إلى المرأة، وإلى الانسان بشكل عام. وتلامس نصّ الوصيات مع أفكار رواقيّة فاتخذ
وجهاً جديداً.

وتأثّرت
وصيّات الآباء بالمحيط المسيحيّ الذي عاشت فيه. (1) ذُكر أن الله أخذ جسداً أو ظهر
بشكل انسان (شمعون 6: 5، 7؛ 7: 2؛ زبولون 9: 8؛ أشير 7: 3). (2) سيرفع الكهنة يدهم
على “مخلّص العالم” أو على ابن الله ويقتلونه (لاوي 4: 4؛ 10: 2؛ 14: 1-
2؛ 6: 3). (3) ذلّ الله واتضاعه (دا 5: 13؛ يهوذا 24: 1). جُعل يهوذا قبل لاوي
(دان 5: 10؛ جاد 8: 1) والأمم قبل اسرائيل (شمعون 7: 2). وهكذا شدّد النص على
لاهوت المسيح الذي قتله اليهود، كما جعل يهوذا يمرّ قبل لاوي لأن يسوع يرتبط بداود
وبتالي بيهوذا، كما أشار إلى مياه المعمودية (لا 16: 5)، وإلى الدور الذي ستلعبه
الأمم بعد أن رفض اليهود الاعتراف بيسوع على أنه المسيح المنتظر.


تم نسخ الرابط

هل تبحث عن  الملك صار طفلا👶

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي