مردخاى
مردخاي الذي كان يعمل في شوشن القصر،
وهو يهودي سُبى من أورشليم في أيام يكنيا ملك يهوذا بواسطة نبوخذ نصر ملك بابل.
والأمر الذي يلفت أنظارنا أن البطل الخفي في قصة أستير هو “مردخاي” الذي إتسم بالأمانة في تربيته لأستير وأرشاداته لها، وأمانته في عمله لدى الملك الغريب الجنس منفذًا حياته من مؤامرة شريرة، كما إمتاز بالتصرف الروحي العميق المملوء إيمانًا وثقة في عمل الله.
فقد إتسمت أستير بروح الطاعة والخضوع لمربيها مردخاي حتى بعد أن جلست كملكة على أعظم عرش في ذلك الحين، إذ قيل:
“وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده”
إتسم مردخاي بالأمانة، فكان أمينًا في حياته الخاصة، كما في تربيته لأستير، وفي خدمته للملك كما في حبه لشعبه
عرف مردخاي أن خصيين حارسي الباب يدبران مؤامرة لأغتيال الملك فأخبر أستير التي أخبرت الملك، وإذ فحص الأمر وتحقق منه صلبهما على خشبة، وكتب الأمر في كتاب أخبار الأيام الخاص بملوك الفرس.
في تتمة أستير يروي لنا أن الملك قدم هبات لمردخاي، لكن فيما بعد إذ طار النوم من الملك وقرأ ما سبق أن كتبه حسب أن ما ناله مردخاي كلا شيء (6: 1-11)، وأراد تكريمه بصورة فائقة.
ونحن أيضًا إذ نجاهد هنا من أجل خلاص إخوتنا من العقاب الأبدي يحسبه الرب دينًا، مع أنه هو العامل فينا ومعنا، فيهبنا بركات ونعم،
لكن هذا كله يحسبه كلا شيء عندما يتوجنا بأكليل الحياة الأبدية ويدخلنا إلى شركة أمجاده لنحيا معه وجهًا لوجه في حضن الآب.
هنا نقف قليلاً لنرى مردخاي كرمز للسيد المسيح،
الذي بسببه أراد هامان (إبليس) إبادة كل شعبه.
يقول الأب أفراهات
بأنه كما كان مردخاي يضطهده هامان الشرير، هكذا كان الشعب الشرير يضطهد السيد المسيح.
وكما صلى مردخاي من أجل شعبه ليخلصهم من هامان، يشفع السيد المسيح عن شعبه (بدمه) ليخلصهم من إبليس.
وكما خلص مردخاي من مضطهده لم يستطيع المضطهدون أن ينتصروا على السيد المسيح.
وكما جلس مردخاي في المسوح وأنقذ شعبه، هكذا نزل كلمة الله وحمل جسدنا كما في المسوح وفي إتضاع خلصنا.
بمردخاي صارت أستير مرضية لدى الملك عوض وشتى، وبالمسيح يسوع صارت كنيسة العهد الجديد موضع رضى الآب عوض المجمع اليهودي.
وكما حث مردخاي أستير على الصوم مع فتياتها هكذا يحث السيد المسيح كنيسته بكل أولادها على الصوم.
أخيرًا نال مردخي مجد هامان، ونودى قدامه:
“هكذا يُصنع بالرجل الذي يُسر الملك بأنه يكرمه” (6: 11)
وأما يسوع المسيح فتمجد بالمجد الذي له منذ الأزل وقد شهد له الحراس:
“حقًا كان هذا إبن الله” (مت 27: 54).
إن كان مردخاي يمثل السيد المسيح، فطريق الخلاص إنما بدأ بشق مردخاي ثيابه ولبس المسوح وخروجه إلى المدينة ليصرخ صرخة مرّة تهز أبواب السماء، فتخلص أستير الملكة وشعبها من الابادة.
هكذا خلع السيد المسيح مجده مخليًا ذاته من أجلنا (تمزيق الثياب)، حاملاً جسدنا (لبس المسوح)، وحالاً في وسطنا على أرضنا (خروجه إلى المدينة) وصرخ على الصليب ليسلم روحه من أجل خلاصنا.
وكما يقول الأب أفراهات:
[إذ جلس مردخاي والتحف بالمسوح أنقذ أستير وشعبها من السيف، إذ لبس المسيح جسدًا… خلص الكنيسة وأولادها من الموت
لنتأمل شخص مردخاي الذي قدم أصوامًا وتذللاً وصرخ بمرارة في وسط المدينة، لنجده يعود إلى القصر بعد فترة التذلل، ولا ينحني بالسجود لهامان، فهو لا يقبل أن يسترضي إنسانًا على حساب الحق ولا يُقدم لإنسان ما يليق بالله وحده.
هنا يليق بنا أن نقف قليلاً فنرى صلوات مردخاي تُستجاب في الوقت المناسب وحين أقول صلواته لا أقصد مجرد الكلمات الخارجية من فمه، وإنما حياته كلها.
فكل عمل روحي وكل أمانة وكل تقديس يحول حياتنا إلى صلوات مقبولة لدى الله.
فما فعله مردخاي منذ سنوات حين خدم الملك بأمانة وانقذه من المؤامرة الرديئة إنما كان صلاة لله نفسه الذي يقبل كل عمل روحي وأمانة كرائحة بخور طيبة.
بهذا نفهم قول المرتل: “أما أنا فصلاة” (مز 109: 4)،
مدركين أن كل عضو في جسدنا وكل عاطفة وأحساس إنما يكون بتقديسه وجهاده في الرب أشبه بلسان عملي يفتح أبواب السماء ليدخل بنا إلى حضرة الله.
فالبار صلاته تقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16)، لأن ما ينطق به لسانه من طلبات يخرج متناسقًا مع ما تعلنه حياته كلها بكونها صلاة. وعلى العكس صلاة الأشرار مكرهة أمام الرب، لأنه ينطق بشيء بينما تنطق حياته بشيء آخر فيكون نشاذًا لا يستريح له الرب.
إستجاب الرب لصلوات مردخاي التي قدمها بحياته العملية كما بلسانه، فبينما كان هامان يحكم خطته ليهوى بمردخاي حتى التراب، إذا بالله “يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملكهم كرسي المجد، لأن للرب أعمدة الأرض” (1 صم 2: 8).
فطلب أن يلبس المحبوب من الملك الثوب الملوكي ويركب فرس الملك وتتوج رأس الفرس بتاج كعادة الأشوريين والفارسيين، وأن يُنادي أمامه في ساحة المدينة: هكذا يُصنع بالرجل الذي يُسر الملك بأن يكرمه.
يا للعجب تذلل مردخاي فرفعه الملك إلى كرامة فائقة،
وتكبر قلب هامان فهوى إلى تحت قدميه.
من أجل تذلل مردخاي فارتفع لكي ينقذ حياتهم ويحول يوم هلاكهم القاتم إلى عيد الفوريم المفرح، وأما هامان فبتشجيع أحبائه تكبر فسقط وهلك مع بنيه وكل عائلته.
ماذا نرى في مردخاي الممجد إلاَّ عمل المسيح الممجد الذي رفعنا معه إلى مجده بعد أن تذلل من أجلنا وصرخ بسببنا على الصليب صرخة مرّة.
لبس مردخاي الثوب الملكي أما السيد المسيح فأعطانا ذاته لكي نلبسه (غل 3: 27) فنختفي فيه.
ركب مردخاي فرسًا ملوكيًا أما السيد المسيح فوهبنا نعمته الإلهية لتحملنا من مجد إلى مجد وتنطلق بنا إلى حضن أبيه.
نال مردخاي تاج الملك أما السيد المسيح فوهبنا فيه شركة الطبيعة الإلهية وجعلنا ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو 8: 27)، فيه صرنا موضع سرور الآب، وكان يُنادي أمامنا: “هكذا يفعل بالرجل الذي يُسر الملك بأن يكرمه”.
على كلٍ
عاد مردخاي إلى بيت الملك كأنه بيته الخاص به، إذ أعلن الملك أنه المحبوب لديه،
وعاد هامان إلى بيته مملوءًا عارًا وخريًا.
وكأن مردخاي يُشير إلى النفس الممجدة في الرب الغالبة بالروح القدس فإنها تنطلق إلى السموات “بيت الملك” كما لو كانت بيتها ومسكنها الخاص، أما النفس الشريرة الساقطة كهامان فلا ترجع إلى الحياة الفردوسية إنما تسرع إلى بيتها، أي إلى (الأنا)، فتحيا متقوقعة حول ذاتها، مملوءة حزنًا وخزيًا. تعيش بغطاء الرأس، فتضع برقعًا على عقلها كي لا ينطلق ليرى الإلهيات ويعاين السموات ويسبح في الأبديات.
وقد تم عمل عيد الفوريم لهذه المناسبة لليهود على مدى الايام …
فماذا تعرف عن عيد الفوريم؟؟؟ وماهو استعدداته ؟ وماهو طقسه ؟
كلمة “فوريم” هي جمع “فور” وتعني (قرعة).
وقد اُقيم عيد الفوريم تذكارًا لعمل الله الفائق مع شعبه،
إذ انقذه من المذبحة العامة التي أعدها هامان ضد اليهود في الإمبراطورية الفارسية بعد أن ألقى السحرة (الحكماء) القرعة وحددوا لهامان اليوم المناسب لتنفيذ المذبحة وهو اليوم الثالث عشر من الشهر الثاني عشر أي آذار (فبراير – مارس).
إذ خلص الله شعبه على يد مردخاي وأستير تحول يوم المذبحة إلى يوم لهلاك أعدائهم، وعوض الخزي تمتعوا بالمجد،
فعيد اليهود بهذا العيد في يومي الرابع عشر والخامس عشر من هذا الشهر.
وكان هذا العيد يمارس في أيام المكابيين في القرن الثاني ق.م بإسم
“يوم مردخاي” (2 مك 15: 37).
وذكر يوسيفوس المؤرخ أنه في أيامه كان اليهود يحفظون هذا العيد في العالم كله[42].
ويتلخص طقس هذا العيد في الآتي:
1. يصوم اليهود في اليوم الثالث عشر من شهر آزار، فإن كان سبتًا يبدأون بيوم 11 من الشهر.
2. في المساء حيث يبدأ اليوم الجديد حسب الطقس اليهودي، يجتمع اليهود في مجامعهم في العالم، وبعد تقديم الصلاة المسائية يقرأون سفرأستير.
عند ذكرهم إسم هامان أثناء قراءة السفر، يصرخ كل المصلين، قائلين:
“ليُمح إسمه”، أو “سيُبيد إسم الشرير”!
كانت أسماء أبناء هامان تتلى بسرعة في نفس واحد إشارة إلى صلبهم معًا.
3. يعود الشعب إلى المجمع في اليوم التالي لإتمام فرائض العيد الدينية ثم يصرفون النهار بابتهاج وفرح أمام الرب، وكان الأغنياء يقدمون عطايا للفقراء.
الإستعداد للعيد
تحوّلت المذبحة العامة لليهود إلى عيد مفرح يمتد في حياتهم إلى أجيال
وقد هيأ الله لهذا العيد الأحداث التي تمت بعد وليمة أستير،
جميعها تكشف عن مفهوم العيد الحقيقي للفوريم.
“ونزع الملك خاتمه الذي أخذه من هامان وأعطاه لمردخاي”
وراى الاباء الاوليين
عندما عاد الإبن الضال إلى أبيه قال الأب:
“إجعلوا خاتمًا في يده” (لو 15: 22)، علامة البنوة الحقة وتأكيد لسلطانه البنوي.
هكذا يتمتع المؤمن – مردخاي – بخاتم الملك كقول الإنجيلي:
“كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون بإسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 1: 13).
هذا هو الخاتم الملكي “السلطان البنوي” الذي نناله بالروح القدس في مياه المعمودية.
لهذا تحدث آباء كثيرون عن المعمودية كختم للنفس، مثل القديس أكليمندس الروماني[45]، وهرماس[46]، والعلامة ترتليان[47]، والقديس يوحنا الذهبي الفم[48].
يقول القديس أغسطينوس عن هذا الختم:
[تمسك بما نلته فإنه لن يتغير، إنه وسم ملكي
بهذا الختم ندخل في ملكية الله كقول الأب ثيؤدور المصيصي: [العلامة التي تتسمون بها الآن إنما هي علامة أنكم قد صرتم قطيع المسيح[50]].
بهذا الختم أيضًا ندخل في الجندية الروحية، وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم[51]].
بهذا الختم إذ ننعم بسلطان البنوة فنحيا في ملكية الله كأولاد له، ونعيش مجاهدين روحيًا كجنود له ننعم بالعيد الأبدي،
إذ نرث المجد الذي لا يفنى. وكما يقول الرسول:
“الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولادًا فإننا ورثة الله، ووارثون مع المسيح” (رو 8: 16-17).
عظمة مردخاي
قدم لنا هذا الأصحاح صورة عن عظمة أحشويروش الذي خضعت له كور كثيرة تقدم له الجزية، وكان الرجل الثاني مردخاي “عظيمًا بين اليهود ومقبولاً عند كثرة إخوته طالبًا الخير لشعبه ومتكلمًا بالسلام لكل نسله” [3]. وكان سرّ عظمته هو إتساع قلبه بالحب لإخوته، وحديثه بالسلام من أجل أولاده. لقد صار سرّ بركة لجيلة وللأجيال المقبلة خلال محبته الفائقة.
إن كان الشعب كله قد تمجد بخلاصه من العدو، فمردخاي وهو لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين تمجد أكثر فأكثر.
وفي تتمة أستير يكمل هذا الأصحاح باستعراض حلم مردخاي الذي فيه أكد الله له أنه يعمل به وبأستير لخلاص إخوتهما، وقد سبق لنا الحديث عن هذا الحلم.
إلهنا الصالح الذي أعطى لأستير ومردخاي نعمة الفم المفتوح والقلب المتسع بالحب من أجل إخوتها يفتح قلوبنا لبنيان كل نفس لمجد الله!