مريم العذراء على أقدام الصَّليب (يو 19/ 25 – 27)
في عرس قانا قال يسوع لأمّه: “ما لي ولك يا امرأة، إنّ ساعتي لم تأتِ بعد”. وقبل آلامه قال: “لقد حانت الساعة التي يُمجَّد فيها ابن البشر. الحقّ الحقّ أقول لكم: إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمت فإنّها تبقى وحدها، وأمّا إن ماتت فإنّها تأتي بثمرٍ كثير… الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ يا أبتاه، أنقذني من هذه الساعة ولكن لأجل هذه الساعة قد جئت. أيّها الآب، مجّد اسمك”. فجاء صوت من السماء : “قد مجّدته، وسأمجّده أيضًا”. وسمع الجمع الواقف هناك، فقالوا: “هو رعد!”. وقال آخرون: “قد كلّمه ملاك!”. لإاجاب يسوع، وقال: “ليس من أجلي كان هذا الصوت، بل من أجلكم. الآن دينونة هذا العالم. الآن رئيس هذا العالم يلقى خارجًا. وأنا متى رُفعت عن الأرض اجتذبت إليَّ الجميع”. قال يسوع هذا ليدلّ على أيّة ميتة كان مزمعًا أن يموتها” (يو 12/ 23 – 33).
ساعة يسوع هي ساعة عودته إلى السماء أي دخوله مجد الآب: “فإنّه لم يصعد أحد إلى السماء إلّا الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السّماء. وكما أنّ موسى قد رفع الحيّة في البريّة، كذلك ينبغي أن يُرفع ابن البشر، لكي تكون به الحياة الأبديّة لكلّ من يؤمن به” (يو 3/ 13- 15؛ راجع أيضًا يو 13/ 1).
ساعة موت يسوع هي إذاً ساعة تمجيده وفي الوقت عينه ساعة بدء الملكوت، العالم الآتي، الذي فيه يحصل المؤمنون به على الحياة الأبديّة. “سينظرون غلى الذي طعنوه” (يو 19/ 37؛ زخريّا 12/ 10). “بيد أنّ واحدًا من الجند طعن جنبه بحربة، فخرج للوقت دم وماء” (يو 19/ 34). الدّم يشهد على حقيقة ذبيحة الحمل، والماء، الذي هو إشارة إلى الرّوح القدس في إنجيل يوحنّا، يرمز إلى الحياة الأبديّة، إنّه الماء الحيّ الذي يُحيي المؤمنين بالمسيح. لذلك رأى بعض الآباء في الدّم رمز الإفخارستيّا وفي الماء رمز المعموديّة، وهذان السرّان هما علامة الكنيسة لأنّهما السرّان الأساسيّان اللذان بهما تتكوّن وتنمو.
في هذه الساعة، ساعة المجد وساعة الفداء وساعة بدء الملكوت ونشأة الكنيسة شعب الله الجديد، نرى مريم واقفة عند أقدام صليب يسوع: “وكانت أمّ يسوع وأخت أمّه مريم زوجة كليوبّا، ومريم المجدليّة، واقفاتٍ عند صليبه. فلمّا رأى يسوع أمّه وبقربها التلميذ الذي كان يحبّه، قال لأمّه: “يا امرأة، هوذا ابنك”. ثمّ قال للتلميذ: “هي ذي أمّك”. ومنذئذ أخذها التلميذ إلى بيته الخاصّ” (يو 19/ 25-27). بهذه الكلمات صارت مريم أمًّا لجميع تلاميذ يسوع وأحبّائه. إنّ ابنها يسوع يغادرها، ولكنّه يعطيها أبناء آخرين: “في الساعة التي ينكشف فيها عمق شخص الكلمة، يتجلّى أيضًا عمق شخص مريم: لقد جُعلت لتصير أمًّا، هذا هو كيانها الصميم، أمًّا وحسب. وهي أمّ، ليس لأنّها تأخذ، بل لأنّها تعطي.
ويشير يوحنّا إلى مقارنة: عندما يموت يسوع يظهر ابن الله، وعندما تذهب مريم إلى بيت التلميذ الذي كان يسوع يحبّه تظهر أمّ الله. هذا هو تقديسها، كما يقول السيّد المسيح في صلاته الأخيرة: “وأنا أقدّس ذاتي، لكي يكونوا هم أيضًا مقدّسين بالحقّ” (يو 17/ 19). وذلك ليس فقط لأنّها ولدت يسوع، بل لأنّها قبلت أن تصير أمًّا لجميع الذين يحيا فيهم المسيح القائم من بين الأموات. مريم ليست أمرًا عارضًا، آلة وقع عليها الاختيار بطريق الصدفة، بل هي التي تشارك بدعوتها تاريخ ابنها. إنّها الأمّ”.
في هذا الموضوع يضع جاورجيوس أسقف نيقوميدية (+حوالى 880) على لسان يسوع القول التالي: “من الآن فصاعدًا، أجعل مريم دليلا ً للتلاميذ، وأمًّا ليس فقط لك بل لجميع الآخرين. وأريد أن تكرَّم بحقٍّ إكرام الأمّ. وإذا كنت قد منعتكم من أن تدعوا أحدًا أبًا لكم على الأرض، فإنّي الآن أريد أن تدعوا مريم أمًّا لكم. وتكرّموها كأمّ”. وكذلك يقول البابا يوحنّا بولس الثاني: “إنّ الكلمات التي يتلفّظ بها يسوع وتتساقط من أعلى الصليب، تشير إلى أنّ أمومة والدته تجد لها امتدادًا في الكنيسة وبالكنيسة، ممثـّلة بيوحنّا. وهكذا “فالممتلئة نعمة” التي أدخلت سرّ المسيح لتكون أمًّا له، أعني والدة الإله الفائقة القداسة، تظلّ في هذا السرّ في الكنيسة بوصفها “المرأة” التي يعنيها سفر التكوين (3/ 15) في البدء وسفر الرؤيا (12/ 1) في خاتمة تاريخ الخلاص”.