admin
نشر منذ سنتين
2

مزامير المصاعد



مزمور 129 (مراجعة التاريخ) من مزامير المصاعد

مزمور 129
مراجعة التاريخ



1[كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي]. لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: 2[كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ. 3عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ]. 4الرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ الأَشْرَارِ. 5فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ. 6لِيَكُونُوا كَعُشْبِ السُّطُوحِ الَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ 7الَّذِي لاَ يَمْلَأُ الْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ وَلاَ الْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ. 8وَلاَ يَقُولُ الْعَابِرُونَ: [بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ].

“التاريخ هو ذاكرة الشعوب” هذا القول المأثور صحيح تماماً لذا فإن مراجعة التاريخ أو العودة إليه بين الحين والآخر، شىء هام فى حياة الشعوب. ومن أخطر الأمور أن تُفقد هذه الذاكرة أو يُشَوَّه هذا التاريخ. وفى هذا المزمور لا يتوقف القائد أمام حياته الشخصيّة، بل يتوقف طويلاً مع مجموعته أمام تاريخ شعبه، وأمام المراحل الطويلة التى عانوا فيها صراع البقاء وسط عالم عدوانى وقاسى يضمر لهم الكراهية. ولذلك يعود المرنم بالشعب من التوقف أمام المعاناة الطويلة إلى الجوانب المشرقة فى هذا التاريخ، برغم كل هذه المعاناة، ليبرز نعمة الله الحافظة لهم، وليستمد الشعب الشجاعة من الماضى، وروح الشكر والرجاء والعمل المطلوب لمواجهة الحاضر.


ولأن المرنم لم يتوقف أمام حياته الشخصية، ولكنه توقف طويلاً، كصاحب رسالة أمام تاريخ أمته وذاكرة شعبه، لذا يجب أن نتعلم أن المؤمن الناضج صاحب الرسالة والرؤية لا يعيش لذاته منحصراً فى همومه الشخصية، لكنه باستمرار مهموم بقضايا شعبه ورؤى كنيسته، وكذلك الكنيسة التى دعاها الرب، هى بدورها، لا ينبغى أن تتقوقع داخل جدرانها، بل ينبغى أن تتسع اهتماماتها إلى الاهتمامات العامة، وفى كل ذلك علينا أن نرى يد الرب العاملة معنا لنستمد الشجاعة من هذه الحقيقة.


ونلاحظ أن هذا المزمور ينقسم إلى جزئين كبيرين:

أولاً : عبرة الماضى (1-4) :

يذكرنا هذا المزمور فى محتواه وبنائه ولغته بما جاء فى مزمور 124. فمثلاً فى هذا المزمور يبدأ المرنم الترنيم ثم يتوقف لينادى الشعب “ليقل إسرائيل”، ثم تبدأ كل المجموعة فى ترديد باقى المزمور، ونجد أن نفس طريقة الترنيم تتكرر هنا فى مزمور 129. إن التشابه بين المزمورين واضح جداً فى الصياغة الأدبية، وفى المحتوى، وفى الفكرة، وفى التوجه العام للنص الذى يعود إلى ذاكرة وعبرة التاريخ.


وكلمة “كثيراً” التى تُفتتح بها الترنيمة تشير إلى الكم “مرات كثيرة” وتشير إلى الكيف “مضايقات عنيفة” ومنها إذن نفهم أن الشعب تعرض “فترات كثيرة لمضايقات شديدة”.


“منذ شبابى” ترد فى معظم الترجمات العربية والإنجليزية “منذ صباىّ أو منذ حداثتى”، وربما يريد المرنم – بهذه الكلمة – أن يُرجع الشعب إلى التاريخ المبكر الذى قد يعود إلى أيام العبودية المُرَّة فى مصـر والخروج منهــا بيد الرب القديرة. (خر 3 : 7، 5 : 14، 6 : 9، هو 11 : 1) والمرنم يسترجع كذلك الـتاريـخ الطويل من المعاناة والضيق الشديد على يد المصريين والكنعانيين والفلسطينيين والآراميين
(1 مل 20، 2 مل 6) والآشوريين (2 مل 18، 19) والكلدانيين (2 مل 25) والفرس وغيرهم ممن عاصروا فترة ما بعد السبىّ.


إن المرنم بهذه الجملة القصيرة : “كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي” يُسَرِّب الكثير من الأفكار والذكريات إلى ذهن المستمعين عن ذلك التاريخ الطويل المملوء بالمضايقات العنيفة والمواقف المشرفة لشخص الرب الذى وقف إلى جوار شعبه فى هذه الضيقات.


والمرنم – كعادته فى هذه المجموعة من الترانيم – يكسو أفكاره بالصور الحية من الاستعارات والتشبيهات، مثل تشبيه “الحقل المحروث” فيقول “عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ”
(3). إنه يشبه تـاريخ الشـعب بالحقل المحروث، ويشبـه الآلام والمضايقات التى جاءت عليهم بالخطـوط التـى يتـركها المحراث فـى الأرض، وكلما كانت أتـلام المحراث طويلة، كلما زاد عمق الحفر فى الأرض. إن هذا التشبيه يذكرنا بصورة رجل تنفذ فيه عقوبة الجلد، وهو حامل فى ظهره علامات الجلد العميقة والطويلة كخطوط المحراث، وهو تشبيه قوى يبرز شدة وعمق وطول معانـاة الشعب (نح 9 : 6، مز 68، 78، 105، 134).


لكن بالرغم من شدة وطول المعاناة وبقاء الشعب مجروحاً نازفاً، إلا أنه ظل حيّاً يناضل من أجل فجر جديد ومستقبل أفضل أكثر إشراقاً، فيقول فى (2) ” لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ”. تُرى، ما سرُّ بقاء وصمود شعب الرب؟ ما سِرّ بقاء الكنيسة حتى اليوم؟ برغم كل الاضطهادات والمضايقات عبر التاريخ الطويل ؟ يقول فى (4) شهادة مؤثرة وقوية تمثل قلب ومركز المزمور وتكشف عن سر بقاء الشعب:”الرَّبُّ صِدِّيقٌ” أو “الرب الصديق”. إنه الله البار العادل، الأمين لإقرار الحق، والضامن لإجراء العدل فى الأرض.


ثـم يعـود المرنـم إلى الاستعارات مـرة أخرى، فيقـول فى (4 ب) “… قَطَعَ رُبُطَ الأَشْرَارِ”. إنه يعود إلى صورة المحراث ولكن فى شكل آخر، شكل ثور مربوط ومقيد إلى المحراث بربط قوية، هذه الربط هى إشارة واضحة إلى العبودية والتسخير، لكن الرب العادل قطع هذه الربط، وحَــرَّرَ وفـدى شعبـه، وكسـر نير الأشرار (إش 45 : 20، 25، نح 9 : 8). إنه نفس المعنى تقريباً الذى نجده فى مز 124 : 6و7 “6مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لأَسْنَانِهِمْ. 7انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا.”.


هذا هو السر الذى أعُلن : الرب الصدّيق الساهر على شعبه، ضامنُ مسيرته، وِفَىّ لحقه، أمين لعهوده.



إن عبرة الماضى ومراجعة التاريخ، تؤكد لنا حقيقتين كبيرتين :
الحقيقة الأولى :

إن حياة المؤمن وتاريخ الكنيسة لا يخلوان من الألم والاضطهاد والمرض والمعاناة فى أوقات كثيرة “كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي.. عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ”. ومجرد قبول هذه الحقيقة فـيه قدر كبـير من نضوج الإيمان. والرب يسوع نفسه هو مثالنا “بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ….” (إش 50 : 6) “وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا” (إش 53 : 5) وهو الذى علّمنا:
“فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ ..” (يو 16 : 33).


وفى هذا لم يسعَ المسيح وراء الجماهير الكاذبة أو الشعبيّة المزيفة، ولم يخدعنا، لكنه علّمنا الحقيقة كاملة. إن الألم ضرورة تصاحب رحلة الإيمان ورحلة الإنسان عموماً.

الحقيقة الثانية:

برغم الألم والمعاناة إلا أن النتيجة باستمرار فى صالح المؤمن وفى صالح شعب الله. إن أظلم ساعات الليل هى تلك التى تسبق الفجر مباشرة، ولابد للصليب أن يعقبه قيامة. إن هذه الحقيقة تستحق أن نشكر الرب لأجلها. وكما قال أحد اللاهوتيين مرة :
إن الانتصار هو القرار الجميل لترنيمة الألم المتعددة الأبيات.
كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي… مقدمة 1.
لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ… نتيجة1.
عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ … مقدمة 2.
الرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ الأَشْرَارِ…. نتيجة2.
ويستطيع كل منا أن يُكمِّل الترنيمة كالآتى :
الاضطهاد والجلد وموت الصليب .. مقدمة 1.
القيامة والفجر الجديد … نتيجة 1.
دم الشهداء وعصور الاضطهاد والإرهاب .. مقدمة 2.
أبواب الجحيم لن تقوى عليها … نتيجة 2.
عالم المعاناة والألم والمرض والصراع … مقدمة 3.
الرب راعىّ فلا يعوزنى شىء … نتيجة 3.
إن شعار مزمور 124 : لولا الرب.
وشعار مزمور 129 : الرب صديقّ.
فهل نذكر ونشكر؟

ثانياً : طلبة الحاضر (5 – :

ترتبط هذه الطلبة بالعبارة المركزية : “الرب صدّيق”. الرب عادل لذلك قطع ربط الأشرار فى الماضى وحَرَّرَ شعبه، لكن الحاضر لا يخلو أيضاً من المبغضين والأعداء كالسامريين وغيرهم. وعلى هذا يطلب المرنم بصوت الجماعة فى عدد (5) “فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ.” وصهيون هنا هى “اسرائيــل” (عدد 1)، وهى”مدينة إلهنا” (مز 48 : 1)، “وهى الجبل الذى اشتهاه لسكنــه” (مز68 : 16)، وهـى “مكان مقدسات كل العالم” (مز 78). إن صهيون بالنسبة للمرنم – بل وبالنسبة للرب – ليست مدينة عادية. لذلك يارب، يامن قطعت كل ربط الأشرار فى التاريخ الطويل، يا من حررتنا وفككتنا ورددت سبينا فى الماضى، أيها الرب الصدّيق العادل اعمل على خزىّ وانكسار كل المبغضين والمقاومين لشعبك.

وفى الأعداد (6 – يبرز المرنم الكيفية التى يحقق بها الرب هذه الطلبة، وفيها أيضاً يعود المرنم إلى الصور الحية التى يستوحيهــا من البيئة، فيقول “ليكونوا كعشب السطوح …”.
وفى هذه الأعداد يتحدث عن ثلاث مقارنات:
1- الوجود والتعبير : فهم “كَعُشْبِ السُّطُوحِ ” (6 أ) الذى ينبت وينمو عشوائياً فى شقوق السطوح الريفية وأحياناً فى جدران المنازل فى بلاد الشرق. فالوجود عشوائى (أو كما يقولون فى الشرق شيطانى)، على عكس الوجود الإرادى للقمح فى حقول المزارعين وما يحتاجه من جهد ورعاية واهتمام. يريد المرنم أن يقول “ليكن وجود المبغضين أيها الرب العادل عشوائياً عابراً”.
2- النهاية والمصير: “…. يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ”.
إن العشب دائماً يشير إلى النهاية السريعة والمصير المحتوم (مز 90 : 5 و6، إش 40 : 6-8) مقابل خلود كلمة الله (1 بط 1 : 23-24، 1 يو 2 : 17) وبقاء شعب الله (مت 16 : 18). إن “أبواب الجحيم لا تقوى على الكنيسة، وكل آلة تُصوَّر ضد الكنيسة لن تنجح، وكل لسان يقوم عليها فى القضاء تحكم هى عليه”.
وفى المزمور الأول يقارن المرنم بين الأبرار والأشرار فيذكر نفس هذه الحقيقة فى مز1 : 4 “لَيْسَ كَذَلِكَ الأَشْرَارُ لَكِنَّهُمْ كَالْعُصَافَةِ الَّتِي تُذَرِّيهَا الرِّيحُ.”
وفى مزمورنا يضيف المرنم “الَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ” وفى بعض التراجم “قبل أن يصبح فى مرحلة الحصاد” ييبس بفعل حرارة الشمس، ويسقـط بفعل الريح. أىّ: “ليكن مصير هؤلاء المبغضين يا رب هو الزوال السريع والنهاية العاجلة”.
3- البركة والتأثير : “7الَّذِي لاَ يَمْلَأُ الْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ وَلاَ الْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ. 8وَلاَ يَقُولُ الْعَابِرُونَ: [بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ].” (7و8). أى لا يجد الحاصد شيئاً ليمسكه بيده اليسرى عندما يهّم بالحصيد باليد اليمنى، وبالتالى لا يجد من يأتى ليجمع الحصيد فى حضنه شيئاً ليضعه فى حزم أو أغمار. لماذا ؟ لأنه يبس وسقط، فلا تأثير ولا قيمة لحفنة من العشب اليابس مقابل تأثير وقيمة حزم القمح التى تستدعى إلى الذهن التبادل المفرح للبركة بين العابرين الذين يتطلعون إلى الحصاد فى توقع واهتمام ورجاء (را 2 : 4) “وَلاَ يَقُولُ الْعَابِرُونَ: [بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ.” فيرد الحاصدون ” بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ”.

إن هذه الكلمات تضع أمامنا الحقائق التالية :


1- الكراهية تدمّر نفس صاحبها:
لذا لنطهر نفوسنا منها، ليس فقط من أجل الآخرين، بل أيضاً من أجل صحتنا وحياتنا، إن من يكره يدمر نفسه، فالكراهية تقتل أما الحب فيحيى من جديد.


2- الضمان الحقيقى والأمان الكامل:
فى هذا العالم المتغير القاسى، لا يمكن أن نجد الضمان الحقيقي والأمان الكامل إلا فى شخص الرب، فى ثقتنا به وفى يقيننا أنه صديق وعادل، لا يسمع للذين يقاومون وجود ورخاء شعبه أن يحققوا أبداً نتيجة تدبيراتهم. إن الأشياء تزول، والأشخاص يرحلون، والمستقبل مجهول، والأيام لا أمان ولا ضمان لهــا، لكن الرب يبقى كما هو : “إله أمانة لا جور فيه. صديق وعادل هو” “أما المستمع لى فيسكن آمناً ويستريح من خوف الشر”. (تث 32 : 4، أم 1 : 33). لذا فلنتعلم من التاريخ، ولنحيا الحاضر مستمتعين بوجود الرب الصديق فيه، ولنتطلع إلى المستقبل بإيمان وأمان فى شخص إلهنا


هل تبحث عن  "كل حين مع الرب" ( يو 14: 3 ؛ 1تس4: 17)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي