admin
نشر منذ سنتين
4
مزمور 137 (136 في الأجبية) – تفسير سفر المزامير

إن نسيتك يا أورشليم!

يسجل لنا المرتل مشاعر الذين كانوا في السبي، خاصة الذين كانوا يقودون التسبيح في أورشليم. وقد طُلب منهم أن يرنموا بإحدى تسابيحهم التي كانوا يسبحون بها في الهيكل بأورشليم. لم يكن ممكنًا لهم وهم محرومون من التمتع بالهيكل أن يسبحوا بفرحٍ وتهليلٍ في أرض السبي. هذا وما كانوا يمارسونه في هيكل الرب المقدس، كيف يمكن أن يمارسوه في أرض نجستها عبادة الأوثان! لذلك جاء المزمور يمثل قمة الشعور بالمرارة. وأما مفتاح المزمور فهو الكلمتان: “أذكر” و”أسبح“.
يرى البعض أن هذا المزمور سجله داود النبي، متنبأ بما سيحدث لشعبه حين يؤخذ إلى السبي البابلي. ويرى آخرون أنه وُضع بعد العودة من السبي بقليل، سجله أحد المرنمين في الهيكل. إنه صرخة كل مؤمنٍ حين يشعر أن عدو الخير أسره بالخطايا، وأفقده التمتع بالمقدسات الإلهية، فيندب المؤمن حاله، طالبًا الخلاص من الله محرر أولاده من سبي الخطية.

1. بكاء على أنهار بابل
1-3.
2. حب قلبي لأورشليم
4-6.
3. بابل المُخْربَةَ
7-9.
من وحي المزمور 137
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - إن نسيتك يا أورشليم!

العنوان

جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “لداود وإرميا” أو “لداود لأجل إرميا”.
* توهم قوم مما جاء في العنوان أن هذا المزمور وضعه إرميا النبي عند ذهابه إلى بابل مع المسبيين. لكن الأمر ليس كذلك، بل يُقال أنه كتب لإرميا لكي يقرأه دائمًا في أيام السبي، أو لأنه شبيه بمراثيه، أو لأن كلمة إرميا وتأويلها المرميين والمطروحين للسبي.

الأب أنسيمُس الأورشليمي
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - إن نسيتك يا أورشليم!

1. بكاء على أنهار بابل

عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا.
بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ [1].
يقصد المرتل بأنهار بابل القنوات التي كانت تخرج من نهري دجلة والفرات، وذلك لاستخدامها في الري والشرب، وكانت هذه القنوات أو الترع كثيرة. كما كان اليهود يجتمعون كثيرًا بجوارها للعبادة أو الراحة (حز 1: 1؛ 3: 15). غالبًا ما كانوا يجتمعون في أيام السبوت عند إحدى هذه القنوات للصلاة، حتى يمارسوا الغسلات أثناء عبادتهم.
يكشف المزمور عن المرارة التي حلت بالشعب الذي حُرم من بلده، وصار مسبيًا كعبيد للبابليين.
كانوا يتذكرون الهيكل والحرية التي فقدوها والفرح الروحي الذي لم يعرفوا قيمته إلا بعد الحرمان منه. وإن مارسوا الصلاة لكن كان من الصعب وأحيانًا من المستحيل أن يعزفوا على القيثارات ليرنموا بالمزامير والتسابيح. صاروا في أرض نجستها العبادة الوثنية. يتطلعون إلى مياه أنهار بابل، فيرون فيها صورة لأنهار دموعهم ومرارة نفوسهم. وكأنهم يرددون مرثاة إرميا النبي: “سكبت عيناي ينابيع ماء على سحق بنت شعبي. عيني تسكب ولا تكف بلا انقطاع، حتى يشرف وينظر الرب من السماء. عيني توتّر في نفسي لأجل كل بنات مدينتي” (مرا 3: 48-51). كما يقول: “يا ليت رأسي ماءً، وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي” (إر 9: 1).
إن كانت “بابل” تعني “بلبلة” أو “ارتباك”. فإن من تربكه مشاغل هذا العالم لا يدخل الفرح إلى أعماقه، ولا يقدر أن يسبح الله في أعماقه.
يرى العلامة أوريجينوس أن أنهار بابل تشير إلى حياة اللهو والاستهتار، حيث تفيض مجاري اللذة، ونستحم وسط أمواج عدم العفة. في هذا الجو لا نستطيع القيام، بل نبقى جالسين في رخاوة، حتى نذكر صهيون أي الكنيسة بشريعة الله التي لها وجبال الكتاب المقدس عندئذ نبكي على بؤسنا[1].
ويرى القديس أغسطينوس في هذا المنظر، حيث كان المسبيون يجلسون في انسحاق بجوار أنهار بابل، صورة رمزية لمن سباهم حب العالم وشهواته، فصاروا في السبي يبكون على ما بلغوه من مذلة.
ويميز القديس أغسطينوس بين الذين يجلسون على أنهار بابل أو مياه بابل أي بجوارها وبين الذين يجلسون أو يغطسون فيها أو تحتها في أعماقها. فالجالسون على الأنهار يبكون في حزنٍ على ما بلغوه بسبب سبي الخطية، أما الذين في داخل المياه، فهم الذين يغرقون في الملذات ولا ينالون السعادة، وفي نفس الوقت لا يطلبون التحرر من شهواتهم. يقول عن هؤلاء إنهم يبكون على حرمانهم من السعادة، لكنهم يفرحون أيضًا بملذات ومباهج بابل، أي فرح العالم الشرير وشهواته.
* لاحظوا “مياه (أنهار) بابل”. مياه بابل هي كل الأشياء التي تُحب هنا وتزول… يدرك بعض مواطني أورشليم المقدسة سبيهم.
لاحظوا كيف تُسرع شهوات الناس المتنوعة ورغباتهم الطبيعية وتسحبهم هنا وهناك، وتلقي بهم في البحر. يرون ذلك ولا يلقون بأنفسهم في مياه بابل، إنما يجلسون ويبكون إما من أجل الذين سحبتهم شهواتهم بعيدًا، أو من أجل أنفسهم الذين أهَّلوا أنفسهم ليُلقوا في بابل، فيجلسون أو يصيرون في مذلةٍ.
آه يا صهيون المقدسة، حيث يقف فيك الجميع بثباتٍ ولا يسيلون (كالماء).
من الذين ألقونا بطيشٍ في هذا (المجرى المائي)؟
لماذا تركنا الذي أسسك (الله) وجماعتك (المقدسة)…؟
لنجلس بجوار مياه بابل وليس تحتها. ليكن هكذا تواضعنا حتى لا تبتلعنا[2].

القديس أغسطينوس

* وإن كنا قد سقطنا من الفردوس خلال خطأنا، غير أننا نتذكر سعادتنا السابقة، ولن ننساها[3].

القديس جيروم

* “على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون”. عظيم هو اشتياق الناس للمدينة، وعظيمة هي شهوتهم للعودة. أقصد عندما كانت لديهم الخيرات بين أيديهم استمروا في المظاهر وارتكاب المساوئ، لكنهم إذ فقدوها صار شوقهم أن يقتنوها.
هذا هو السبب الذي لأجله استبعدهم، لكي ما يقودهم إلى هذا الاشتياق. هذه هي طريقة الله في الغالب، عندما نفسد ولا نقدِّر خيراته، ينزل بنا إلى حد الحرمان منها، وخلال الفقدان تعود أحاسيسنا إليها، ونطلب التمتع بها مرة أخرى.
الآن، لماذا جلسوا بجوار الأنهار؟ إنهم كمسبيين كانوا تحت التحفظ بعيدًا عن مناطق العدو، لهم مناطق خاصة خارج الأسوار والمدن[4].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* الآن إذ ذُبح الشيطان، ذاك الطاغي على العالم كله، فإننا لا نقترب من عيدٍ زائل يا أحبائي، بل من عيدٍ خالدٍ سمائي، ليس في ظلالٍ نتبيَّن العيد، بل نأتي إليه في الحق.
لأنهم إذ شبعوا بلحم حمَل أبكم أكملوا العيد، وإذ دهنوا قوائم أبوابهم بالدم، طلبوا العون ضد المهلك، لكننا نحن الآن إذ نأكل من كلمة الآب، ولنا أعتاب قلوبنا مختومة بدم العهد قال: “اُنظروا، لقد أعطيتكم أن تدوسوا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو 10: 19). لأن الموت لن يسود فيما بعد، بل منذ الآن عوضًا عن الموت توجد الحياة. قال ربنا: “أنا هو الحياة” (يو 14: 6). حتى امتلأ كل شيءٍ بالفرح والسرور. وكما هو مكتوب: “الرب يملك، فلتفرح الأرض”.
لأنه عندما ملك الموت، بكينا إذ كنا جالسين على أنهار بابل (مز 137: 1) ونحنا، إذ شعرنا بمرارة السبي (للموت)، لكن الآن وقد بطل الموت ومملكة الشرير، فإن كل شيء مملوء بالتمام والفرح والمسرة.
يجب علينا أن نقترب إلى هذا العيد، لا بملابس قذرة، إنما نرتدي عقولًا (ثيابًا) نقية، إذ نلبس ربنا يسوع (رو 13: 14)، حتى نستطيع أن نحتفل بالعيد معه[5].
القديس أثناسيوس الرسولي

* مكتوب أيضًا: “اخرجوا من بابل؛ اهربوا من أرض الكلدانيين” (إش 48: 20). يُنذِر العبراني بكلمات النبي، لا لكي يهرب حقًا من أرض البابليين، وإنما من سيرتها الأخلاقية، إذ كان العبرانيون في أرض بابل، وظهروا بسلوكهم الأخلاقي أنهم رحلوا عنها. عن هؤلاء يقول المرتل إنهم جلسوا على أنهار بابل (مز 137: 1).
هم مكثوا فعلًا في أرض بابل، لكنهم لم يكونوا في رذائلها المخزية. وفي خضم تلك النقائض المشينة بكوا وتابوا، لأنهم سقطوا عن تابوت الإيمان والعبادة التقية وعن الفضيلة واستحقاقات آبائهم. النفس التي تخرج تسير بكلمته (أي في طاعة لها)، إذ تطلب الكلمة[6].

القديس أمبروسيوس

عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا [2].
حينما يشعر الإنسان بأنه لا يستخدم آلة موسيقية لمدة طويلة، غالبًا ما يحفظها في عبوة، ويضعها على رفٍ مرتفع وبعيدٍ، هكذا فقد الشعب أمله في عودة سريعة، فعلقوا قيثارتهم على أشجار الصفصاف العالية. فلا حاجة لهم لقيثارات وقد زال الأمل عندهم في عودة الفرح للترنم، وربما سقطوا في اليأس تمامًا.
يرى القديس جيروم إن هذا الشجر الذي علقوا عليه قيثارتهم يدعى “الحَور الرَّجراج” بطبيعته عقيم بلا ثمر، ويُقال إن من يشرب جرعة من زهره أو يأكله يصير عقيمًا. وهو يحمل صورة رمزية، فإنه يليق بالإنسان أن يستخدم جسده بحواسه المتعددة كآلة موسيقية يعزف عليها تسبحة لله. فإن كانت أحاسيسه عقيمة، يكون كمن علق جسمه على هذا الشجرة، فلا يقدم تسبحة للرب. هذا وقد قيل أن هذا الشجر متى سقط منه غصن وغُرس بالقرب من المياه يبدأ ينمو في الحال. هكذا الإنسان الشرير إذ سقط بجوار مياه الأسفار المقدسة وأنصت لكلمة الله من إنسانٍ قديسٍ، تنتعش نفسه وتهتدي إلى التوبة.
ويقول الأب أنسيمُس الأورشليمي إن المسبيين علقوا الآلات الموسيقية التي كانوا يستخدمونها في التسبيح حين كانوا في أورشليم، ولما كان الصفصاف شجرًا عديم الثمر، فإنه حيث لا يوجد ثمر الروح لا يمكن ممارسة التسبيح. وأيضًا أن بذور الصفصاف إذا سُحقت وشُربت لمدة أيام ينزع هذا المشروب الرغبة في العلاقة الجسدية، ويجعل شاربه عقيمًا. وكأن من أراد أن يصير آلة مسبحة لله يلزمه أن يضبط شهواته.
* لنفهم هنا الأشجار العقيمة تنمو على مياه بابل. هذه الأشجار التي ترتوي بمياه بابل، ولا تأتي بثمرٍ، مثل الناس الشرهين والطماعين، الذين بلا ثمر الأعمال الصالحة.
مواطنو بابل لهم مثل هذه الحكمة، هم أشجار هذه المنطقة، يقتاتون بملذات الأشياء الزائلة، كمن يرتوون بمياه بابل[7].

القديس أغسطينوس

* “على الصفصاف علقنا آلاتنا”. في ترجمة مختلفة “قيثاراتنا” وأخرى “أعوادنا”. لماذا أخذوا الآلات الموسيقية معهم عندما ذهبوا إلى السبي وهم لا يحبون استخدامها؟ هذا كان بتدبر الله أيضًا حتى يذكرهم حتى في الأماكن الغريبة بحياتهم السابقة، وتوخز ضمائرهم عند رؤيتهم آلات الليتورجيا العجيبة[8].
* يقول: “علقنا أعوادنا” (مز 137: 2)، وذلك على الصفصاف الذي كان يوجد في هذا البلد (بابل)، لكنهم ولا بهذه الآلات استطاعوا التسبيح. ونحن أيضًا حتى وأن كان لنا فم ولسان، وهما عضوا الكلام، لا نستطيع أن نتكلم بجرأة، إن بقينا عبيدًا للخطية، التي هي أكثر قسوة من كل البربر[9].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبُونَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ،
وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحًا:
رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ [3].
كان المسبيون يتذكرون ما حذرهم منه الأنبياء قبل سبيهم، فكانوا يعلقون قيثارتهم على الصفصاف، لأنهم لا يستخدمونها، ويبكون على عدم سماعهم لأقوال الله لهم خلال الأنبياء. أما الذين سبوهم، فكانوا يطلبون منهم أن يسبحوا إلههم، إما رغبة في الاستهزاء بهم وبإلههم، أو كنوعٍ من حب الاستطلاع.
لا نعجب إن كان البابليون يطلبون ممن سبوهم وأذلوهم أن يرنموا إحدى تسابيحهم التي كانوا يتغنون بها في أورشليم. فإنهم لم يشعروا بالمُرْ الذي حل بهم، أو لعلهم طلبوا ذلك كنوعٍ من السخرية بهم.
يدهش القديس يوحنا الذهبي الفم من المسبيين، هؤلاء الذين حين كانوا في بلدهم يستخفون بالأنبياء، الآن وهم في السبي يبكون ولا يريدون أن يكسروا الشريعة، ويقدمون تسابيح في أرض غريبة. لقد انتفع الأعداء أنفسهم من ذلك، إذ أدركوا أن المسبيين لم يهتزوا بالسبي، فيكسروا الناموس، إنما تذكروا صهيون. لم يكن بكاؤهم باطلًا، بل صار هذا هو عملهم. لقد اجتمعوا معًا لينوحوا ويرثوا حالهم. كأنهم يقولون للأعداء: “وإن سبيتم أجسامنا، لكن لا سلطان لكم على أفكارنا. يختم الذهبي الفم تعليقه على هذه العبارة، قائلًا: [ألا ترون هذا الروح ذا القيم السليمة بسبب الضيق، فقد سما بالمتاعب![10]]
ربما يتساءل البعض: لماذا اخذوا آلات التسبيح إلى أرض السبي، وهم يعلمون أنه لا يجوز لهم أن يسبحوا تسابيح صهيون في أرض غريبة؟ يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن هذا حدث بسماح من الله لكي برؤيتهم لها يحزنون على ما وصلوا إليه، فيرجعون إلى الرب، أو لكي تلتهب قلوبهم شوقًا وحنينًا للعودة إلى وطنهم خلال التوبة.
* “سألنا الذين سبونا كلام تسابيحنا“. فإن الأرواح الشريرة التي خدعتنا وقادتنا إلى الأسر في استخفاف تهزأ بنا: “قدموا لنا كلمة إيمانكم، افعلوا هذا كما اعتدتم وأنتم تسبحون تسبحة الله حين كنتم في أورشليم”[11].

القديس جيروم
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - إن نسيتك يا أورشليم!

2. حب قلبي لأورشليم

هل تبحث عن  كلمات ترنيمة صلاة الروح | روح المسيح رفيق خلوتي*

كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ [4]
حسب اليهود أن الترنم في أرض السبي أمر غير لائق، وأنه لأمر سخيف أن يطلب منهم من سبوهم هذا. فمن جهة كيف يسبحون الترانيم التي كانت تُقدم في المقدسات الإلهية في أرض دنسة، ومن جانب آخر كيف يفعلون هذا كأنهم قد نسوا وطنهم؟!
لعل الله سمح لهم بهذا، لكي يتذكروا أنهم قد دنسوا الهيكل بإرادتهم حين كانوا في بلادهم، الآن ها هم في أرض مدنسة بالأوثان، جاءوا إليها مسُوقين بغير إرادتهم.
إن الحاجة الحقيقية لا العودة إلى أورشليم الأرضية، بل عودة القلب إلى رب أورشليم القادر أن يقيم من قلوبهم مقدسًا يسكن فيه، ويملأه بفرح الروح.
يقول القديس غريغوريوس النزينزي إنه يليق بنا أن نفكر في الله حتى أكثر من تنفسنا، وإن ننشغل به. غير أنه يلزمنا أن نعرف الوقت المناسب والحدود اللائقة لكل عمل[12].
يسجل لنا القديس جيروم مشاعره وهو ملتزم بالخروج من روما إلى الشرق، وكأنه قد خرج من أرض الغربة مع أن الغرب وطنه، وانطلق إلى مدينته في الشرق. لقد شعر أنه كان من الصعب أن يسبح الله في أرض الغربة.
* أكتب إليكِ في عجالة أيتها السيدة العزيزة أسيلا Asella، فإنني ذاهب لأبحر، وقد ابتلعني الحزن والدموع، إلا أنني أشكر الله أنه حسبني أهلًا لكراهية العالم (لي). صلي من أجلي، لكي أرى أورشليم مرة أخرى بعد بابل… كنت غبيًا حين أردت أن أسبح تسبحة الرب في أرضٍ غريبة، وأن أترك جبل سيناء وأطلب معونة مصر. لقد نسيت أن الإنجيل يحذرنا إذ من ينزل من أورشليم يسقط عليه اللصوص للحال ويُنهب ويُجرح ويُترك ليموت (لو 10: 30-35)[13].

القديس جيروم

* “كيف نسبح تسبحة الرب في أرضٍ غريبة، نحن الذين ارتبطنا بالخطايا، وسقطنا من أورشليم إلى بابل؟ لا يستطيع أحد أن يسبح الرب إن كان غير أمينٍ، إذ يليق بالخاطئ أن يحزن على خطاياه، لا أن يسبح الرب[14].
* أتريدون أن تذكروا الرب على الدوام؟ مارسوا أعمال اليمين (الأعمال المقدسة).
“ليلتصق لساني بحنكي، إن لم أذكرك!” لأفقد القدرة على الكلام تمامًا، وقوة العمل، إن لم تكن ذكراك (يا الله) حاضرة في قلبي[15].

القديس جيروم

* على أي الأحوال يجدر بنا أن نسعى إلى انسحاق القلب الصادق، الذي يهدف نحو الفضيلة والاشتياق إلى ملكوت السماوات، ولا يكون هدفه مجرد تذكر الشر المميت. فالإنسان بالتأكيد يختنق من روائح البالوعات الخانقة طالما قبل الجلوس بجوارها أو يستنشق نتانتها[16].

الأب بينوفيوس

* لا يجوز لأي شخص وهو في الخطية (متهاونًا)… أن يشترك في الأسرار… فإن داود يقول في مزموره: “على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا… كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟” (مز 137: 2، 4) إن كان الجسد لازال يقاوم الذهن، ولا يخضع لإرشاد الروح القدس، فإنه لازال في أرض غريبة، لم يخضع لكفاح المزارع، لهذا لن يأتي بثمار المحبة والاحتمال والسلام… فإذا كانت التوبة غير عاملة فيك، فخير لك ألاَّ تتقدم للأسرار، لئلا تحتاج إلى توبة عن هذه التوبة غير العاملة، ولكنك محتاج إلى تلك الكلمات “انقضوا، انقضوا حتى الأساس منها” (مز 137: 7).
يواسي داود هذه النفس البائسة قائلًا: “يا بنت بابل الشقيَّة!” حقًا إنَّها شقيَّة لأنها بنت بابل، حيث رفضت بنوَّتها لأورشليم أي السماء (وتمسَّكت بالخطيَّة بابل أرض السبي). ومع ذلك فإنَّه يدعو لها بالشفاء قائلًا: “طُوبَى لِمَنْ يُكافئك مكافأتك التِي جَازَيْتِنَا! طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ، ويدفنهم عند الصَّخْرَةَ!” (مز ١٣٧: ٩). أي يدفن أفكارها الفاسدة المضادة للمسيح. فقد قيل لموسى: “اخلع نعليك من رجليك” (خر ٣: ٥). فكم بالأولى يلزمنا نحن أن نخلع من أرجلنا الروحيَّة رباطات الجسد، وننظِّف خطواتنا من كل ارتباطات العالم؟![17]

القديس أمبروسيوس

* بالتأكيد لا، يا أصدقائي وإخوتي، فإني ما زلت أدعوكم “إخوة”، بالرغم أن شعوركم وموقفكم ليس أخويًا.
بالتأكيد لا يمكن أن نَقبَل هذا الرأي، لا يجب أن نكون مثل الخيول العنيفة الجامحة التي تُلقي براكبها أرضًا، فنطرح العقل عنا، والتي تلفظ اللجام من فمها، ونفعل مثلها، فنلفظ التمييز والإفراز الذي يكبحنا ويتحكم فينا لفائدتنا، فنجمح بعيدًا عن مسارنا.
لتكن مناقشاتنا في داخل حدودنا، ولا تحملنا إلى مصر أو تجرنا إلى أشور. لنحذر من أن “نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة” (مز 137: 4). وأعني بهذا ألا نتناقش أمام أي نوع وكل نوع من السامعين، وثنيين أو مسيحيين، أصدقاء أو أعداء، متعاطفين أو عدائيين، فإن هؤلاء يراقبوننا ويتربصون بنا، ويتمنون أن تصبح شرارة أي اختلاف بيننا حريقًا، ويشعلون الحريق، ويحركون المراوح كي يزداد اشتعالًا، حتى يرتفع اللهب إلى عنان السماء، ودون أن ندري. فإنهم يرفعون اللهب إلى أعلى من الأتون المتقدة في بابل (دا 3: 20). وحيث أنه ليس لديهم قوة في تعليمهم، فإنهم يبحثون عنها في ضعفنا.
ولهذا فإنهم مثل الذباب الذي يستقر على الجروح، يقفون على كوارثنا، أو بالأحرى على أخطائنا.
علينا ألا نتغاضى عن أفعالنا أكثر من هذا، وعلينا ألا نهمل اللياقة في هذه الأمور. وإذا كنا لا نستطيع أن نحسم خلافاتنا ومنازعاتنا تمامًا وفورًا، فعلينا على الأقل أن نتفق على أن نتحدث بالحقائق الروحية بالاحترام الواجب، ونناقش الأمور المقدسة بطريقة مقدسة، ولا نذيع على أسماع المستهزئين ما لا يجب إذاعته.
يجب ألا نكون أقل احترامًا وتبجيلًا من أولئك الذين يعبدون الشياطين، ويبجلون القصص والأشياء الخارجة عن اللياقة. إن هؤلاء مستعدون للتضحية بدمائهم قبل أن يفشوا كلمات معينة لغير المؤمنين بعقائدهم. ويجب أن ندرك أنه كما توجد معايير معينة للياقة والاحترام في الملبس والطعام والضحك والمظهر، فإن هذا ينطبق أيضًا على الكلام والصمت، خاصةً عندما نقدم تكريمًا خاصًا “للكلمة” (كلمة الله) عندما نستعمل هذا اللفظ كأحد ألقاب الله وصفاته. وحتى جدالنا يجب أن يكون محكومًا بقواعد[18].
القديس غريغوريوس النزينزي
* طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد، قائلًا: “كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟” (مز 137: 4).
طالما نحن في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تستخدم في توصيل النغمات للرب، معلقة دون استخدام، لذلك يقول النبي: “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)”.
طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث “رؤية السلام“، فإن القيثارات التي كانت قبلًا معلقة بلا استخدام، ترجع مرة أخرى إلى أيادينا ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله.
كما قلنا في البداية، إن النفس دائمًا موجودة في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية. مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في “دان” التي يِشْغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضِل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم.
من جهة أخرى، الإنسان الخاطئ الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر[19].

العلامة أوريجينوس

* انظروا إلي تعظيم المادة، التي تحتقروها! ماذا يمكن أن يكون أحقر من شعر الماعز الملون؟ أليس الأزرق والبنفسجي والأحمر كلّها مجرّد ألوان؟
انظروا إلى عمل صنعة الإنسان يصبح كاروبين! ألم تكن خيمة الاجتماع صورة في كل شيءٍ؟ “وانظر فاصنعها على مثالها الذي أظهر لك في الجبل” (خر 25: 40)، ومع ذلك وقف كل الشعب حولها وتعبدوا!
ألم يوضع الكاروبان حيث يستطيع كل الشعب أن يراهما؟ ألم ينظر الشعب إلى تابوت العهد، والمنارة، والمائدة، والقسط الذهبي، وعصا هارون، وسقطوا في تعبد؟
أنا لا أعبد المادة، أنا أعبد خالق المادة، الذي أصبح مادة من أجلي، آخذًا مسكنه في المادة، ومتمّما خلاصي من خلال المادة. “والكلمة صار جسدًا، وحل بيننا”. إنّه واضح لكل إنسان أن الجسد مادة، إنها مخلوقة. أنا احيي المادة، وأقترب منها باحترام، وأعبد هذا الذي جاء خلاصي عن طريقه. أكرمها، ليس مثل الله، ولكن لأنّها ممتلئة من النعمة والقوّة الإلهيّة. لو كنتم ترفضون الصور بسبب الناموس، فلماذا لا تحفظون السبت، وتمارسون الختان، لأن الناموس يطلب هذه الأشياء. يجب أن تراعوا الناموس، ولا تحتفلوا بعبور المسيح من أورشليم. ولكن يجب أن تفهموا إنّكم لو حفظتم الناموس، فالمسيح لن يفيدكم في شيء (غل 5: 2). لقد حان الوقت لك أن تتزوّج زوجة أخيك وتقيم نسلًا له (تث 25: 5)، وأن لا ترنموا للرب في أرض غريبة (مز 7 13: 4) ولكن كفانا من ذلك! “قد تبطّلتم عن المسيح أيّها الذين تتبرّرون بالناموس، وسقطتم من النعمة” (غل 5: 4)[20].

القدّيس يوحنا الدمشقي

* كيف لا نكون سوى حيات، ونحن لا نطيع الله، بل نعيش في العصيان الذي دخل إلينا بواسطة الحية؟ وأنا لا أستطيع أن أعرف كيف أبكي وأنوح على شقاوتنا هذه كما يليق، ولا أعرف كيف أصرخ بصوتٍ عالٍ باكيًا أمام الله الذي يستطيع وحده أن ينزع مني الخطأ المزروع فيَّ. “كيف أرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟” (مز 137: 4)[21]

القديس مقاريوس الكبير

إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ،
تَنْسَى يَمِينِي [5]
يحمل هذا المزمور نوعًا من التبكيت للذين استقرت مشاعرهم وتبلدت، فأرادوا البقاء في أرض السبي لمصالح مادية شخصية.
كان المسبيون يشعرون أنهم أن نسوا أورشليم يحل الفالج (الشلل) باليد اليمنى، حتى لا تعزف على القيثارة. كما يحل باللسان، فيصير الإنسان أخرس.
هذا هو حال من ينسى وطنه السماوي، أورشليم العليا، فإنه يصير عاجزًا عن التمتع بالفرح الحقيقي، تُصاب يمينه بالفالج، فيعجز عن العمل اللائق به كابن لله، ويعجز لسانه عن القدرة على الكلام، فلا يستطيع الدخول في حوار مع مخلصه، وبالتالي يفقد لذة العمل الروحي عذوبة التسبيح!
يرى القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نذكر أورشليم السماوية، لكن لا يكفي ذكرها، إنما نذكرها ويلتهب قلبنا شوقًا إليها بحبٍ خالصٍ. فإن الأشرار يذكرون أورشليم أي الكنيسة أو المؤمنين، لكنهم يشعرون بأن المؤمنين يغلبونهم روحيًا، فلا يحبونهم بل يودون الخلاص منهم في بغضةٍ شديدةٍ بلا سبب.
* انتبهوا كيف تسكنون في وسطهم يا شعب الله، يا جسد المسيح، يا جماعة المتجولين، أبناء العز، لأن بلدكم ليس هنا، بل في موضعٍ آخر (السماء)، لئلا تحبوهم، وتصارعوا لأجل بلوغ صداقتهم (مع قوات الظلمة)، وتخشوا أن تثيروا استياءهم، فإن بابل تبدأ تجد لذتها فيكم، وتنسوا أورشليم[22].
* “يلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك” يقول: ليتني أكون أبكم إن كنت لا أذكركِ. فإنه أية كلمة أو أي صوت يصدر عن من لا ينطق بترانيم صهيون؟ فإن لساننا هو ترانيم صهيون.
ترانيم محبة العالم لسان غريب، لسان بربري، تعلمناه في سبينا.
من ينسى أورشليم يكون أبكم بالنسبة لله.
لا يكفي أن نذكرها، فإن أعداءها أيضًا يذكرونها، راغبين في طرحها.
يقولون: “ما هي هذه المدينة؟ من هم المسيحيون؟ أي نوع من البشر هؤلاء المسيحيون؟ يا ليتهم لا يكونون مسيحيين!” الآن، جماعة الأسرى يغلبون الذين أسروهم، ومع هذا فهو متذمرون وثائرون ويريدون أن يقتلوهم بكونهم يعيشون كغرباءٍ بينهم.
إذن لا يكفي أن نذكرها، إنما لتهتموا كيف تذكرونها. فإننا نذكر بعض الأمور بكراهية، وبعضها بالحب[23].

القديس أغسطينوس

* لاحظوا التغير العظيم هنا. هؤلاء الذين كانوا يسمعون يومًا فيومًا أنهم سيّسبون ويسبحون المدينة ولم يبالوا بذلك، الآن يصبون اللعنات على أنفسهم على أنفسهم إن نسوها.
ماذا يعني: “تنسى يميني”؟ إنه يقول “تنسى قوتي، لينسَ سلطاني، وأصير أبكم بسبب عظم جُرم الشرور”[24].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* سؤالٌ من الأخ نفسه للشيخ الكبير: أتوسل إليك، يا معلِّم، أن تذكرني دائمًا، وتوضِح لي كيف يجب أن أتعامل مع الأخ الساكن بجوارنا؟
إجابة القديس برصنوفيوس: أيها الأخ، مكتوبٌ: “إن نسيتكِ يا أورشليم، تنسَى يميني” (مز 137: 5)، هذا بخصوص التذكُّر. أما عن كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع الأخ، فإن الذي يريد أن يُرضي الله يقطع مشيئته لأجل قريبه بأن يغصب نفسه. لأنه مكتوبٌ: “ملكوت السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12). فاعرف، إذن، كيف يستريح أخوك وافعل هكذا، وأنت أيضًا تجد راحةً من الله بالمسيح يسوع ربنا، له المجد إلى الأبد آمين.

القديس برصنوفيوس

لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي، إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ!
إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي! [6]
* لنسمع نحن جميعًا هذا ونتعلم، وذلك مثل هؤلاء الذين اُستبعدوا منها، ها هم يبحثون عنها.
هكذا كثيرون منا سيكون لنا هذه الخبرة في ذلك اليوم الرهيب، عندما يُستبعدون من أورشليم العليا. بينما كان لهؤلاء الرجاء في العودة بعد استبعادهم، أما بالنسبة لنا فلا يكون ممكنًا بعد الاستبعاد أن نرجع في ذلك الحين…
لهذا من الضروري لنا أن نهتم جدًا بخصوص أمورنا وسلوكنا في الحياة الحاضرة بطريقة لا نصير فيها أسرى أو منفيين أو نُستقصى من تلك المدينة أمنا[25].

القديس يوحنا الذهبي الفم
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - إن نسيتك يا أورشليم!

3. بابل المُخْربَةَ

هل تبحث عن  البولس من رسالة بولس الرسول الي عبرانيين ( 7 : 18 - 8 : 13 ) يوم الخميس

اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ،
يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ:
هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا [7].
يكشف لنا سفر عوبديا موقف أدوم من جهة شماتتهم، بل والتحالف مع البابليين حيث كانوا يلقون القبض على اليهود الهاربين ويسلمونهم للبابليين.
لا يستطيع المؤمن أن يحطم خطة إبليس، ولا أن يقف أمامه في المعركة الروحية، إنما يصرخ إلى المخلص القادر أن يواجه هذا العدو.
يرى القديس جيروم أن المتحدث هنا هو آدم الذي بحسد إبليس له طرده من الفردوس. وأن أدوم هو إبليس الدموي، لذلك يطلب آدم من الله أن يعاقب إبليس على حقده له وسحبه إلى بابل وسط الأشوريين!
* كل الجسدانيين هم أعداء للروحيين، فإن مثل هؤلاء الذين يطلبون الزمنيات يضطهدون الذين يطلبون الأبديات…
مرة أخرى يتطلع المرتل إلى أورشليم، ويطلب من الله أن ينقذها من السبي.
ماذا يقول؟ “اذكر يا رب لبني أدوم”. خلصنا من الجسديين، من أولئك الذين يتمثلون بعيسو، هؤلاء الإخوة الكبار، لكنهم يحملون عداوة. هم أبكار لكن الأخيرين سموا عليهم، لأن شهوات الجسد أسقطت الأولين، بينما الاستخفاف بالشهوة يرفع الأخيرين.
الأولون يعيشون ويحسدون ويضطهدون.
“في يوم أورشليم”؛ هل يوم أورشليم هو يوم تجربتها، يوم سبيها؟ أم يوم سعادتها عندما تتحرر من السبي، عندما يتحقق هدفها، عندما تتمتع بالشركة في الأبدية؟
يقول: “القائلين هدوا هدوا، حتى إلى أساسها”. إذن يعني ذاك اليوم الذي فيه أرادوا أن يهدوا أورشليم.
يا لشدة الاضطهادات التي تحتملها الكنيسة! من هم أبناء أدوم؟ الجسدانيون، خدام إبليس وملائكته…
الذين يتبعون شهوات الجسد يقولون: استأصلوا المسيحيين، حطموهم! لا تتركوا أحدًا منهم يعيش! انزعوهم من أساسهم! أما يُقال هذا؟ وعندما قيل هذا طُرح المضطهدون وتكلل الشهداء[26].

القديس أغسطينوس

* رغبتهم كما ترون هي ألا يتركوا حتى أساس المدينة، بل تُقتلع الأساسات. هؤلاء الناس هم الذين كانوا يهاجمون اليهود في صحبة البابليين… والذي يقدم الكتاب الموحى له اتهامات قاسية بسبب عنفهم أكثر من الأعداء، مع أنهم أقرباء لهم[27].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ،
طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! [8]
وإن كانت بابل هي الآلة التي استخدمها الله لتأديب شعبه، غير أن هذه الآلة كانت غاية في العنف والتخريب، تشامخت على الله نفسه. يخاطبها الرب نفسه، قائلًا: “غضبت على شعبي، دنَّست ميراثي، ودفعتهم إلى يدكِ. لم تصنعي لهم رحمة. على الشيخ ثقَّلتِ نيرك جدًا” (إش 47: 6). كما يقول: “وأنا مغضبٌ بغضبٍ عظيم على الأمم المطمئنين. لأني غضبت قليلًا، وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب: “قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم، فبيتي يُبنى فيها يقول رب الجنود، ويُمد المطمار على أورشليم” (زك 1: 15-16).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل لم يكن يشتهي أن يجازيهم حسب أعمالهم، وذلك كما ورد في مز 7: 9، إنما يعلن أنهم إذ ينالون استحقاقهم حسب أعمالهم يسقطون تحت هذا الجزاء القاسي.
هذا ولا تنسَ أن ما ورد في العهد القديم يلزم تفسيره رمزيًا، فتكون بنت بابل هي مملكة إبليس. فكما أن بنت صهيون أو أورشليم كانت رمزًا لمملكة المسيح الروحية، فتقابلها بنت بابل، المدينة التي تُدعى في سفر الرؤيا “أم الزواني”.
* “يا بنت بابل الشقية”. شقية حتى في بهجتها، وفي وقاحتها، وفي عداوتها![28]

القديس أغسطينوس

* “يا بنت بابل الشقية”. بنت بابل هي النفس التي لا تجد راحة مطلقًا، بل دائمًا في ارتباك، بدون استقرار، مملوءة بالنقائص والخطية. إنها بالحق شقية.
“طوبى لمن يجازيكِ جزاءك الذي جازيتينا”. طوبى لمن يرد لها ما فعلته.
هي سحبتني من جنة الفردوس، بالصوم أردها إلى موضعها ذاته.
هي اقتنصتني في الزنا، بالطهارة أردها إلى أورشليم، من الرذيلة أردها إلى الفضيلة.
لا أعاملها كعدوة، بل أتعامل معها كصديقة[29].

القديس جيروم

طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ،
وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ! [9]
يرى البعض أن هذه الطلبة ليست شهوة قلب المرتل، إنما هي نبوة عما سيحدث فعلًا، فقد جاء في إشعياء النبي: “تُحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتُنهب بيوتهم، وتُفضح نساؤهم” (إش 13: 16).
هذا بجانب ما لهؤلاء الأطفال من معانٍ رمزيةٍ كما سنرى في كتابات الآباء.
* من هم أطفال بابل؟ الشهوات الشريرة عند ميلادها. فإنه يوجد من يحارب جذور الشهوات. عندما توُلد الشهوة، وقبل أن تقوى عادة الشر ضدكم، عندما تكون الشهوة طفلًا، لا تتركوها بأية وسيلة أن تصير عادة شريرة قوية؛ حطموها!
لكن لتخشوا لئلا وأنتم تحطموها لا تموت. “اضربوها بالصخرة، والصخرة هي المسيح” (1 كو 10: 4)…
لتُبنوا على الصخرة…
إن أردتم أن تتسلحوا ضد التجارب في هذا العالم، فلينمُ اشتياقكم إلى أورشليم الأبدية. ولتقوَ قلوبكم. بهذا يزول أسركم، وتعود إليكم سعادتكم، وتسيطروا على عدوكم، وتنتصروا بملككم ولا تموتوا[30].

القديس أغسطينوس

* “طوبى لم يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة”. الأطفال هم الأفكار الشريرة. كمثالٍ رأيت امرأة، واشتهيتها. إن لم أقطع في الحال هذه الشهوة، وأوقفها كما بالقدم، واضربها في الصخرة حتى أبطل هذا الهوى الرديء، فسيكون الوقت قد فات. بعد ذلك إن تركت النار المدخنة تصير لهيبًا. طوبى للإنسان الذي يضرب الشهوة الخاطئة بسكين، ويحطمها على صخرة. الآن الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)[31].
* بالحري أقتل إغراءات الرذيلة وهي لا تزال أفكارًا، وحطِّم أطفال بنت بابل بالحجارة، حيث لا يمكن للحية أن تترك أثرًا عليها.
لتكن يقظًا وتنذر للرب نذرًا. “فلا يتسلطوا عليَّ، حينئذٍ أكون كاملًا، وأتبرأ من ذنبٍ عظيمٍ” (مز 19: 13).
ففي موضع آخر يشهد أيضًا الكتاب المقدس: “يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع” (عد 14: 18). بمعنى أن الله لا يعاقبنا فورًا على أفكارنا ويأخذ القرار، إنما يجعل المجازاة على نسلها، أي على الأفعال الشريرة وعادات الخطية التي تثور منها. وكما يقول على فم عاموس: “من أجل ذنوب هذه المدينة وتلك الثلاثة والأربعة لا أرجع عنها” (راجع عا 1: 3)[32].

القديس جيروم

* “بابل” معناها “ارتباك”… “ابنة بابل” تعني “عداوة”. أولًا توضع النفس في حالة ارتباك، بهذا تُصدر خطية.
يدعو (المرتل) الخطية شقية، لأن ليس لها وجود، ولا كيان في ذاتها، إنما وجودها يقوم على إهمالنا.
مرة أخرى بإصلاحنا تتحطم الخطية وتفقدها وجودها[33].

الأب دوريثيؤس من غزة

* يسبق فيُخبر النبي بما يحلّ على بابل حين فتحها كورش الملك، وصنع بها ما هو أعنف مما فعله الأشوريون باليهود، فذبح أهلها، وكان يضرب أطفالهم بالصخرة ويقتلهم…
أيضًا بنت بابل هي جماعة الأمم التي ضرب الرسل المطوبون أولادها بالصخرة التي هي ربنا يسوع المسيح، وجعلوهم طائعين له بالإيمان.
كل نفس خاطئة يقال عنها بنت بابل، أما أطفالها فهي شهواتها، فطوبى لمن يحطمها ويُخضعها للمسيح الإله الذي هو الصخرة الثابتة.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

* يقصد بأطفال بابل هنا الأفكار الشريرة… هذه التي إن شعرنا أنها صغيرة في البداية يجب علينا أن نمسكها، ونقطعها، ونضرب بها الصخرة، التي هي المسيح (١ كو ١٠: ٤). يجب أن نقتلها حسب أمر الرب، ولا نترك فيها نسمة تتنفَّسها داخلنا[34].

العلامة أوريجينوس

* الرمزية هنا هي أن الشخص الإنجيلي الحقيقي والطوباوي يقتلع جذور الشهوات والملذات الجسدية النابعة عن الضعف البشري. يفعل هذا فورًا قبل أن تنمو، عند بدء الهجوم، وذلك بالإيمان بالمسيح الذي يوصف بأنه صخرة (1 كو 10: 4)[35].

الأب خروماتيوس
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - إن نسيتك يا أورشليم!

من وحي المزمور 137

هل تبحث عن  كلمات ترنيمة صلاة الروح | روح المسيح رفيق خلوتي*

لتمرر الخطية في فمي!

* كم أنت حلو يا إلهي!
أنت فرح قلبي وتهليل نفسي!
في غباوة انجذبت إلى ملذات الخطية.
وحسبت أن العالم قادر أن يُشبع نفسي!
عطشت إلى مياه الخطية،
وظننت أنها قادرة أن ترويني!
وإذا بملوحتها أفسدت أعماقي!
لأرجع إليك، فأنت ينبوع المياه الحية.
* مع المسبيين أجلس عند أنهار بابل.
أبكي وأنوح، لأن خطاياي كبَّلتني بالقيود،
وملذاتها سحبت قلبي كما إلى السبي.
الآن في مرارة أدركت أنني بالحق صرت في بؤسٍ.
علقت قيثارات الفرح على أشجار الصفصاف العقيمة!
كيف أعرف لحنًا مفرحًا سماويًا بأعماقي العقيمة.
خطاياي حرمتني من ثمار روحك القدوس.
خطاياي عزلتني وسحبتني من وطني السماوي.
من يفك أسري سواك؟!
من يطلقني من حزني إلا غنى نعمتك!
* هب لي بروحك القدوس تبكيتًا على خطاياي.
وليحملني إلى الجلجثة، فأتمتع بالتطلع إلى صليبك المحيي.
تمتلئ نفسي رجاءً بخلاصك.
وينفتح لساني بتسابيح المفرح.
وتمتلئ أعماقي ببهجة الخلاص.
* يحملني روحك القدوس كما إلى عربون السماء.
بل يقيم من قلبي هيكلًا مقدسًا لك!
* ملذات الخطية أفسدت قلبي.
جعلت منه بابل الشقية،
عوض ثمر الروح أنبت قلبي شوكًا وحسكًا!
روحك الناري يحرق أشواك الخطية،
ويحَّول قفري إلى جنة مبهجة!
* بنعمتك أضرب بأطفال بابل الصخرة.
أنت هو الصخرة التي تحطم كل فسادٍ!
أنت سرّ نصرتي وإكليلي!
لتمرر كل خطية في فمي،
فاستعذب برّك، وأختبر حلاوة الشركة معك.
لتنطلق نفسي من السبي البابلي،
وأنعم بأورشليم السماوية في داخلي!

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي