مزمور 27 - صلاة برجاء


صلاة برجاء:

“استمع يا رب صوتي الذي به دعوتك.
ارحمني واستجب لي.
فإن لك قال قلبي:
طلبت وجهك،
ولوجهك يا رب التمس.
لا تصرف وجهك عني،
ولا تمل بالرجز على عبدك” [7-9].

أحاط بالمرتل أعداءه فصار يُصلي طالبًا العون من الله نوره، لكنه إذ يُعاين النور الإلهي ينسى أعداءه، سائلًا الله أن يشرق عليه، فينعم بوجه الله.
في النص العبري: “قلت: اطلبوا وجهي”، ربما تذكّر داود النبي الدعوة المملؤة نعمة أو الوعد الإلهي أننا إن طلبنا وجهه لا يحجبه عنا.
بينما كان المرتل معذبًا بالتفكير في الضيق الذي جلبه على نفسه خلال الخطية، تشرق في مخيلته ذكريات كنور وسط الظلام، ويستدعى في ذاكرته تلك العهود التقليدية التي يلتزم بها وكلمة الله التي تعبّر عن الوصية والوعد في آن واحد: “اطلبوا وجهي”.
عوض الارتباك بالأعداء وتهديداتهم ينشغل المرتل بوصية الله ووعده، يوصينا أن نطلب وجهه، وتحسب هذه الوصية وعدًا، إذ يحقق لنا طلبتنا فننعم بالتطلع إليه.
حجب وجه الله أو اخفاؤه يعني رفضه كقاضي أن يستمع إلى قضيتنا وأن يحكم بخلاصنا. ربما يُريد المرتل القول: إنني أعرف أن خطاياي كثيرة التي تحجب وجهه عني، فأنت ترفضني بسبب عدلك وبرك، لكنك إله رحوم قادر أن تخلص.
* حجب وجهه بسبب خطايانا لا يعني انصرافه عنا في غضب؛ فقد يحوّل وجهه عن خطاياك لكنه لا يحوله عنك شخصيًا.
القديس أغسطينوس
أننا نصرخ مع المرتل ألا يعود فيذكر خطايانا بل يذكر نفوسنا الخاطئة لتتقبل بالتوبة رحمته، وإلا يحجب وجهه عنا بل عن خطايانا فنرجع إليه، نراه ويرانا! لذا يكمل المرتل صلاته، قائلًا: “لا ترفضني يا الله مخلصي” [9].
* لا ترفضني يا الله مخلصي” [9]. لا تستخف بجسارة مائت يطلب الأبدي، لأنك أنت يا الله تشفي الجرح الذي تركته خطيتي.
القديس أغسطينوس
إذ يُصلي المرتل يشعر بالعزاء، وأنه مرفوع بالنعمة الإلهية مع أن أصدقاءه قد أداروا له ظهورهم، إذ حسبوا ضيقته تأديبًا من قبل الله؛ وربما أبوه وأمه أيضًا قد تركاه لنفس السبب، لكنه يوجد نور يبهجه في عزلته وهو أن الله يقبله ويضمه إلى صدره ويحتضنه، كإبن له يحمله على ذراعيه. محبة الله تسمو فوق كل محبة، حتى فوق المحبة الوالدية.
“فإن أبي وأمي قد تركاني، وأما الرب فقبلني” [10]
من الصعب أن نتصور ترك الأب والأم لطفلهما، لكنه حتى أن ضاقت بهم الظروف وتخليا عنه، يوجد الآب السماوي الذي يضمه إليه ويرفعه فوق الأعداء، ويدخل به إلى الأحضان الأبدية. لقد تركت هاجر ابنها تحت أحد الأشجار ليموت من العطش ومضت وجلست مقابله من بعيد، أما الرب فسمع لأنين الغلام وفتح عن عيني الأم لتبصر ماء بئر يروي الغلام. هكذا أيضًا ترك الأبوان موسى في النهر والرب ضمه إذ أرسل إليه ابنه فرعون تتبناه.
لم نسمع عن داود النبي أن والديه غضبا عليه، لكنه ربما قصد عجزهما عن تقديم معونة له في وقت الشدة. يرى البعض أن الأب والأم هنا يمثلان الأصدقاء الأعزاء والقريبين منه الذين سحبوا ثقتهم فيه وتقديرهم له.
* “فإن أبي وأمي قد تركاني” [10]. لأن مملكة هذا العالم، ومدينة هذا العالم، اللتان قدمتا لي ميلادي الزمني المائت قد خذلاني، لأني طلبتك واستخففت بما يقدمانه لي. إنهما يعجزان عن تقديم ما اطلبه، وأما الرب فقبلني. الرب القادر أن يهبني ذاته يهتم بي ويرعاني…
* لقد جعل المتكلم هنا من نفسه طفلًا صغيرًا أمام الله، فقد اختاره ليكون له أبًا وأمًا. إنه أبوه لأنه خلقه، وهو أمه لأنه يهتم به ويُربيه ويقوته ويرضعه ويقول بتمريضه.
لنا أب آخر وأم أخرى… فحينما كنا عديمي الإيمان، كان الشيطان أبانا (يو 8: 44)، وكانت لنا أم أخرى (هي بابل)… لكننا تعرفنا على أب هو الله… وأم هي أورشليم السماوية، الكنيسة المقدسة التي جزء منها لا يزال متغربًا على الأرض…
بعيدًا عن الأب والأم، أي بعيدًا عن الشيطان وبابل، يستقبلنا الله كأولاده ليعزينا بأمور لا تفنى، ويباركنا بالباقيات…
المسيح رأسنا هو في السماء؛ ولا يزال أعداؤنا قادرين على الهياج ضدنا، إذ لم نرتفع بعد عن متناول أيديهم، لكن رأسنا هناك في السماء فعلًا، وهو يقول: “شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟‍”(أع 9: 4)، موضحًا أنه هو فينا نحن الذين أسفل (على الأرض)، لكننا في نفس الوقت نحن فيه في العلا، إذ “يرفع رأسي على أعدائي” [6].
القديس أغسطينوس
إذ يعلن المرتل عجز والديه عن مساندته أو حتى ملازمته أثنا الضيق، وجد في الله الأبوة السماوية الحانية القادرة أن تخلصه من أعدائه، وترد له كرامته فيرفع رأسه عليهم. أنه مازال على الأرض، يدخل دومًا في صراع مع العدو الروحي، وهو في هذا لا يحتاج إلى خريطة نرشده في معركته بل إلى قائد يمسك بيده، ويخيفه فيه، ويجتاز به أرض المعركة، واهبًا إياه روح النصرة، لذا يقول: “اهدني في سبيل مستقيم من أجل أعدائي[11]. يتقدم السيد المسيح كمرشد وطريق في نفس الوقت، يسند المؤمن ليجتاز الطريق الملوكي الضيق، طريق الصليب، بلا توقف ولا تراجع.
* اهدني الاستقامة في الطريق الضيق، فإنه لا يكفي أن أبدأ، إذ لا يكف الأعداء عن مضايقتي حتى أبلغ غايتي.
“لأنه قد قام عليّ شهود ظلمة، كذب الظلم لذاته” [12].
لا يقدم الظلم التهنئة لنفسه إلا بتحقيق البطلان الذي له، لكنه أخفق في إزعاجي، لذلك صار لي الوعد بمكافأة أعظم في السماء: “وأنا أؤمن إني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء” [13].
القديس أغسطينوس
وجد الظلم له شهود كثيرين ووجدت أنا بالإيمان الله أبًا وأمًا وسندًا لي. ينتهي الظلم ببلوغ غايته وهو البطلان والدمار، وأبلغ أنا غايتي إذ أُعاين ما وعدني به الله من بركات في السماء “أرض الأحياء”. يتكئ الأشرار على الظلم فينهارون معه، واتكئ أنا على الإيمان فارتفع به إلى أرض الأحياء.

هل تبحث عن  تأملات‏ ‏في‏ ‏سفر‏ ‏نشيد‏ ‏الأناشيد‏3‏

ما هي أرض الأحياء؟

* لست أظن أن النبي يدعو هذه الأرض أرض الأحياء، إذ يرى أنها لا تُعطي إلا الأمور الزائلة، وينحل فيها كل ما يصدر عنها. لكنه عنى بأرض الأحياء تلك التي لا يقترب منها موت ولا يطأها سبيل الخطاه ولا موطئ للشر فيها.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص
* بالمعمودية صرنا نحن أرض أحياء لا أرض أموات، أعني الفضائل لا الرذائل. لكن يكون هذا صحيحًا إن كنا لا نعود إلى حمأة الرذائل بعد نوالنا المعمودية، وإن كنا بعدما نصير أرض الأحياء لا يكون للدم موضع فينا، أي أعمال الشر المُلبس الموت .
الأب قيصروس أسقف آرل
* يليق بهذه الأرض أن تُشتهى لا بشكل أرض بلا حياة، بل بطريقة سماوية، وبقلب يقظ، لأنها الأرض التي إلتهب حب المرتل شوقًا إليها، فرنَّم في فرح. وإذ يقول في مزمور آخر: “أنت هو رجائي، وحظي في أرض الأحياء” (مز 142: 6).
القديس أغسطينوس
* لأن أرض الأحياء هناك، فمن المؤكد أن أرض الموتى هنا‍‍!
* لأن الخيرات هناك، حيث الحياة الأبدية، الحياة التي بلا خطية. يقول في موضع آخر: “نمتلئ من خيرات بيتك” .
القديس إمبروسيس

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي