مناسبته
هذا المزمور هو تسبحة الحمامة البكماء، أي خاصة بالمؤمن الذي يقف أمام الضيقات والتجارب في عجزٍ تامٍ. فإذ يُصاب كما بصدمةٍ في أعماق نفسه، ويتوقف لسانه عن الكلام، يئن قلبه ويصرخ، فيستجيب الله لأنات القلب، ويصنع عجائب. عندئذ ينفتح قلب المؤمن وفكره وكل أحاسيسه مع لسانه للتسبيح لله وتقديم ذبائح شكر مقبولة لدى الله.
الحمامة البكماء هي الكنيسة المتألمة في كل عصرٍ، وفي كل جيلٍ، كما هي المؤمن الحقيقي، العضو الحيّ في كنيسة المسيح المصلوب.
تصدر صرخات داود النبي من قلوب الكثيرين، حين يشعر الإنسان كأن كل من هم حوله يودون أن يبتلعوه، أو يفترسوه، حتى وإن أظهروا كلمات معسولة أو حنانًا ظاهريًا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن من بركات الرب على الإنسان أنه لم يهبه أنيابًا كالأسود، ولا قدرة على السرعة، مثل كثير من الحيوانات، ولا ضخامة جسم كالفيلة، لأن هذه الحيوانات المفترسة غالبًا ما لا تؤذي من هم من فصيلتها، أما الإنسان فكثيرًا ما يود أن يؤذي أخاه الإنسان حتى وإن لم يكن قد بادره بأذيته. فلو كان للإنسان هذه الإمكانيات التي للحيوانات لبادت البشرية من على وجه الأرض.
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن داود النبي –الحمامة البكماء– يتحدث عن الأعداء، ويقصد بهم الشياطين التي تثير البشر، ليحملوا عداوة ضد أبناء الله. إذ تريد أن تطأ عليهم كما بأقدامها. كما يقصد هنا بالعدو شاول الملك الشرير، وأيضًا أنطيوخس أبيفانس الذي قاوم شعب الله، ودنس الهيكل مقدمًا خنزيرًا على المذبح في أيام المكابيين، وأيضًا يرى في العدو بابل التي أسرت الشعب.
من المحتمل أن يكون هذا المزمور تسبحة شعبية، قُدمت بمناسبة احتفال قومي، يقدم فيه الشعب الشكر لله في مدينة أورشليم. ربما يكون أحد احتفالات الخريف، حيث يتطلع المؤمنون إلى سنةٍ جديدةٍ تكون مملوءة بالبركات. يمارس المؤمنون في الاحتفال طقوسًا معينة، خلالها يطلبون حلول بركة الله عليهم.
ويرى البعض أن هذه التسبحة أنشدها الشعب في احتفال أقيم في الربيع بمناسبة تقديم البكور في عيد الفصح، حيث تتسم البلاد في ذلك الوقت بالمروج الخصبة. ويرى آخرون أنها أُنشدت بعد عبور مجاعةٍ ما، حيث أنعم الله على شعبه بأمطار ردت الخصوبة للأرض، وقدمت ثمارًا عوضت المجاعة.
على كل الأحوال، إنه مزمور شكر لله واهب الخيرات، ومعطي البركات، ومانح البهجة بروحه القدوس.
يكشف هذا المزمور عن حقيقة هامة، وهي أننا كلما اقتربنا من الله، فاضت أعماقنا بالتسبيح وقبول إرادته التي تعمل دومًا لنمونا وتقدمنا المستمر.
يربط التقليد الكنسي هذا المزمور (خاصة أية 4) بليتورجيات الجنازات، حيث يرى المؤمنون أن الذي عاش يسبح الله في بيت الرب، وفي وسط الطبيعة الجميلة، يهتف ويغني في الأودية كما على التلال، ينطلق ليسبح مع طغمات السمائيين إلى الأبد.