الرب يملك في جلال قدسه
المزمور الأول من مزامير “تسبيح الله كملك”، وهي مجموعة من 93 إلى 99 أو 100 باستثناء المزمور 94. تتسم هذه المزامير برفع قلب المؤمن إلى عرش الله. تتركز أنظار المؤمن في هذه المزامير على الله، ويندر أن نجد إشارة إلى متاعب المؤمنين أو مشاكلهم، فلا يُسمع فيها تنهد أو أنين.
تُستخدم مزامير الرب الملك في الاحتفالات الخاصة بالسبت وفي بعض الأعياد اليهودية مثل عيد الحصاد. جاء في المشناة Mishna أن هذا المزمور كان يُسبح به في عشية السبت، كافتتاحية ليوم الراحة رمز الأبدية.
غالبًا هذا المزمور من وضع داود النبي. كان كثير من الدارسين اليهود القدامى يتطلعون إليه كمزمور مسياني، يشير إلى مملكة المسيّا.
1-2.
2. الملك القدير
3-4.
3. الملك القدوس
5.
من وحي المزمور 93
العنوان
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: بركة تسبحة داود، لليوم الذي قبل السبت عندما عُمرت الأرض”.
رفض اليهود العنوان، لأنه يشير بوضوح إلى السيد المسيح الذي ملك بالصليب يوم الجمعة، قبل السبت حين عمّر الأرض بكنيسته المقدسة بعمله الخلاصي.
* معناه أن الموت هدم سور مدينتنا الذي كان يصوننا… وقد استولى على جنس البشر. فربنا بآلامه وموته على الصليب في اليوم الذي قبل السبت قهر الموت، وأعاد بناء مدينتنا، وأقام أسوار حياتنا وأسكننا فيها.
1. الملك في جلاله
اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ.
لَبِسَ الْجَلاَلَ.
لَبِسَ الرَّبُّ الْقُدْرَةَ.
اتَّزَرَ بِهَا.
أَيْضًا تَثَبَّتَتِ الْمَسْكُونَةُ.
لاَ تَتَزَعْزَعُ [1].
لن يتوقف عدو الخير عن مقاومة الله عبر كل الأجيال، بوسيلة أو أخرى، لكن كما جاء في دانيال تتحطم ممالك الشعوب المقاومة للحق الإلهي.
عظمة الله وجلاله وقدرته تهب المؤمنين الثقة والرجاء وسط الضيقات، فيقتربون منه ويلتصقون به، ليتمتعوا بحبه وعنايته الإلهية الفائقة، وتدفعهم إلى قبول وصيته الملوكية. يمارسون العبادة له في مخافة، بفكر سماوي وقور.
قدرته وعنايته ومحبته لم تقف عند خلقة المسكونة، بل تمتد للعمل الدائم لتحقيق رسالتها. إنه الخالق المخلص والراعي محب البشر.
الكلمتان “لبس” و”اتزر” مأخوذتان من التعبيرات العسكرية، لأن الله حامي شعبه من الشيطان وجيشه الروحي، كما قيل: “استيقظي، استيقظي، البسي قوة يا ذراع الرب” (إش 51: 9).
* قيل بخصوص الرب نفسه بطريقة لائقة، بعدما جعل الكنيسة تزداد خصوبة: “الرب قد ملك، لبس الجمال” وفي عبارة أخرى: “اتزرت بالتسبيح والجمال”. فمن الواضح أن ما هو مثمر جميل، وما هو غير مثمر أيضًا غير جميل[1].
* بالحقيقة إذ هو أبرع جمالًا من كل البشر، يعطي مما له، فإنه لا يقدر أحد أن يعطي ما ليس له. ولذلك قيل: “الرب قد ملك، لبس الجمال“. إنه يلبس الجمال خلال النعمة التي للكنيسة، ففي المعمودية تنزع كل معصية، وكل الرجاسات، وتشرق ببهاء النعمة السماوية. هكذا يقول لها العريس: “من هذه التي تشبه الفجر، جميلة كالقمر، مختارة كالشمس، عجيبة كجيش سامٍ بألوية”[2].
* ذاك الذي جاء في شكل عبد، في شبه الإنسان، جدد (الإنسان بروحه) وسكب نعمته في قلبه، واتزر بسمو خلاص الجنس البشري[3].
* الرب ملك، لبس الجلال. لبس الرب القدرة، اتزر بها. أيضًا تثبت العالم، لا يتزعزع”. هذه المقاطع الثلاثة تتحدث عن الرب المخلص بواسطة النبي، أما بقية المزمور فموجه مباشرة نحو الرب نفسه… الرب الذي صار عبدًا هو ملك، لبس الجلال. ماذا يقول إشعياء؟ “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه… رجل أوجاع، اعتاد على الضعف” (راجع إش 53: 2-3).
ملك الرب كملكٍ، ولبس الجلال. إذن المعنى هنا أن ذاك الذي مظهره كان قبلًا مخيفًا وهو في ضعف الجسد، الآن بهي في جلال لاهوته. فإن ما هو غير منظور فيه، إنما يُنسب لحالنا نحن، أما ما هو خاص بالجمال فهو متجانس مع جلاله.
“اتزر” (تمنطق)، هو تعبير يعني نوعًا من السرّ. عندما لا نتزر، يسقط رداؤنا حتى إلى القدمين. فما لم يُمسك الرداء بالمنطقة، يصير محلولًا. لهذا، فإننا إذ لم نستطع أن نحتمل كمال قوة الرب، فإنه يمنطق جلاله بالجسد. هذا الفكر عينه يظهر في موضع آخر في الكتاب المقدس: “تنظر ورائي، وأما وجهي فلا ترى” (خر 33: 23). أيضًا في كتاب الملوك يُقال عن إيليا أنه وقف في مدخل مغارة على جبل سيناء، ومن هناك رأى الرب حين عبر (1 مل 19: 11-12).
لاحظوا إنه يقول إنه رأى خلف الرب المخلص عندما وقف عند فتحة في صخرة. إن كانت الصخرة هي رمز للرب المخلص… يقول الرسول: “والصخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 4)، إذن بالحقيقة نحن نرى فتحة الصخرة، خلال الجسد، فندرك الله. لماذا قلت هذا كله؟ لأنه في هذا التفسير عينه نحن نشمل أيضًا الآية: “لبس الرب الجمال واتزر”. كما لو كان خلال فتحة الصخرة، يدرك الرب المخلص، هكذا أيضًا خلال المِنْطقة يُدرك جلاله[4].
* اقتدٍ بربك، حتى تصير ثوبه، يكون لك الجمال نحو الذين يُسرون بأعمالك الصالحة، وأظهر قوتك مقابل الذين ينتقصون (بالإيمان)[5].
* الاتزار يعني العمل، فإن كل إنسانٍ يتزر عندما يتهيأ للعمل… يقول في مزمور آخر: “تمنطق بسيفك على فخذك أيها الجبار… شعوب تحتك يسقطون” (مز 46: 3، 5)… سيف الرب الذي به يهزم العالم المحيط بقتل الإثم هو روح الله في حق كلمة الله…
قيل إنه تمنطق بمئزره، وبدأ يغسل أقدام التلاميذ، لأنه كان متواضعًا عندما تمنطق بمئزرة. لقد غسل أقدام تلاميذه. لكن كل القوة هو في التواضع، وكل الكبرياء هش. ولهذا عندما تحدث عن القوة أضاف: “اتزر”، حتى تذكر كيف أن إلهك اتزر بالتواضع عندما غسل أقدام تلاميذه (يو 13: 4-15)…
إن كانت القوة في التواضع لا تخف إذن من المتكبرين. المتواضع مثل الصخرة. تبدو الصخرة كأنها تنهار مع ذلك فهي ثابتة.
ما حال المتكبرين؟ مثل الدخان، فإنهم وإن كانوا مرتفعين لكنهم يتبددون![6]
* ما هي المسكونة (الثابتة) التي لا تتزعزع؟ ما كان يشير إليها لو لم توجد مسكونة أيضًا يمكن أن تتزعزع. توجد مسكونة لا تتزعزع، وتوجد مسكونة تتزعزع. فإن الصالحين الثابتين في الإيمان هم المسكونة. لا يقدر أحد أن يقول إنهم مجرد جزء من المسكونة. أما الأشرار الذين لا يقطنون في الإيمان، فعندما يسقطون في أية ضيقة فهم في العالم كله. توجد مسكونة تتزعزع وتوجد مسكونة ثابتة يتكلم عنها الرسول.
أسألكم عمن يتكلم الرسول قائلًا: “الذين منهم هيمنايُس وفيليتس، اللذان زاغا عن الحق، قائلين إن القيامة قد صارت فيقلبان إيمان قومٍ” (2 تي 2: 17-19). هل هذان ينتميان إلى المسكونة الثابتة؟ إنما كانا قشًا، وكما يقول “فيقلبان إيمان قومٍ… ولكن أساس الله راسخ قد ثبت، إذ له هذا الختم”. أي ختم كأساس ثابت له؟ “يعلم الرب الذين له”. هذه هي المسكونة الثابتة؛ وأي ختم هو هذا؟ “كل من يُسمي اسم المسيح، ليتجنب الإثم” (راجع 2 تي 2: 17-9)[7].
* لما صُلب ومات وقام وتمّ خلاصنا، أظهر مجد لاهوته في ناسوته، فصار غير قابل الموت، وغير مائت وغير قابل للجوع والعطش وغير محتاج إلى كسوة، لأن ضياء لاهوته ظهر ساترًا لناسوته، حتى ظنوا، عند نظرهم له، أنه روح بغير جسد، لما نظروه من عظم نوره. وهذا الضياء هكذا هو له لم يزل، ولكنه كان يخفيه حتى تمم خلاصنا من العدو الذي خدعنا[8].
* تُمدَح النفس لخصوبتها، وذلك ليس بدون سبب، من جهة لأنها ولود في الفضائل، ومن جهة أخرى أنها بلا شر في ذاتها.
إنه لأمر جميل ألاَّ يوجد شر، إنه جميل ما هو صالح، أما الشر فليس بجميل.
الخصوبة في الأعمال الصالحة جميلة؛ أما العقم فمضاد للجمال، إذ يوجد شر فيما هو محروم من الجمال واللياقة.
ما هو شر فهو عقيم وغير مخصب. وما أدل على ذلك ما تقدمه الطبيعة. الأرض الجيدة خصبة ومثمرة، أما الرديئة فمجدبة وبور.
كان مناسبًا ما قيل بالنسبة للرب نفسه بعد أن جعل الكنيسة تزداد خصوبة: “الرب قد ملك، لبس الجلال” (مز 93: 1). وفي نص آخر: “مجدًا وجلالًا لبست” (مز 104: 1). واضح إذن إن ما هو ولود وخصيب جميل، وما هو عقيم قبيح.
حال النفس كحال التربة، فالنفس تكون جميلة إن كانت وفيرة في استحقاقاتها وفي المشورة، وأما النفس العقيمة (والمشغولة بالماديات) قبيحة، لأن العقم هو ضعف في النفس، يجردها من ثمرها ويخدعها. يجعلها في عوز ويثير مخاوف، يضاعف الشهوات الشرهة والأفكار الخاملة فتسقط![9]
* يغسل الرب أقدام كل الذين يسلكون في الطريق، ويمسحها بالمئزرة التي يتزر بها. بالحق إن طوق الرب له القوة أن يطهر من الخطية[10].
* دخلت العروس هذا الطريق حيث غسل السيد المسيح قدميها، وجففهما بقماش الكتان الذي كان متمنطقا به. تنظف قوة هذا القماش الذي كان متمنطقا به السيد المسيح من الخطايا. “الرب قد ملك. لبس الجلال. لبس الرب القدرة. ائتزر بها” (مز 1:93). ابتدأت العروس تراقب نفسها عندما وضعت قدميها على الطريق الملكي فلا تحيد عنه إلى اليمين أو اليسار، ولم تلوث قدميها بالطين بالسير خارج الطريق. أنت تعلم بالتأكيد معنى هذه الكلمات: خلعت العروس حذاءها نهائيا بالعماد (لأن عمل من يُعمد يشمل فك سيور الحذاء، كما شهد بذلك يوحنا، عندما لم يتمكن من فك سيور حذاء السيد المسيح. إذ كيف يتمكن يوحنا من فك سيور حذاء ذاك الذي لم يرتبط برباط الخطية؟) حفظت العروس قدميها بدون تلوث على الطريق المرصوف مثل ما عمل داود بوضع قدميه على صخرة بعد ما غسلها من الطين، حيث قال: “أصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجلي. ثبت خطواتي” (مز 2:40). نحن نفهم أن هذه الصخرة هي السيد المسيح، فهو النور والحق وعدم الفساد والبرّ الذي يصف الطريق الروحية. وعندما نحفظ خطواتنا على هذا الطريق دون أن نبتعد عنه إلى الجانبين، تبقى حياتنا غير ملوثة بالقاذورات. هذه هي الطريقة التي حفظت بها العروس بابها مفتوحًا للسيد المسيح. ولقد وعدت أن لا تعود مرة أخرى للقاذورات المرفوضة، أو تستقبل أي ملوثات أرضية على طريق هذه الحياة، لذلك أصبحت روحها مستعدة لكي تكون مقدسة. المسيح نفسه هو هذه القداسة(1 كو 30:1). وهكذا قد أكملنا فحص معنى هذه الكلمات[11].
* اليوم تتهلّل بالفرح الوديان وكل ما فيها، لأنّ تربة النفس شربت من ندى السماء. لقد ملك الرب ولبس الجلال (مز 93: 1)، فآدم قديمًا إذ كان سيدًا وملكًا صار بسبب التعدِّي عبدًا للخطية. أما اليوم فها هو آدم الثاني يملك على أعدائه، “لأنه يجب أن يملك” (1 كو 15: 25) كما هو مكتوب.
اليوم ثبَّت الرب المسكونة (مز 93: 1)، أي النفس التي كانت في الماضي مهجورةً بسبب الخطيئة ومرعوبةً ومرتعدةً وقد استولى عليها الخوف والفزع، لأنه مكتوب: “تحت اللعنة تصير خائر القوى ومرعوبًا في الأرض” (أنظر تك 4: 11-12). ففي الحقيقة منذ أن صار هيكل النفس مبنيًّا على الرمل (أنظر مت 7: 26)، صار متذبذبًا مهزوزًا، أما اليوم فقد صار مشيَّدًا على صخر اللاهوت الذي لا يتزعزع[12].
* كما أن الملك إذا كتب رسائل للذين يشاء أن ينعم عليهم بعطايا ومواهب خاصة يقول لهم: بادروا إليَّ جميعكم لتنالوا مني نعمًا ملوكية. فإن لم يذهبوا ويأخذوها لا تفيدهم قراءة الرسائل شيئًا، بل يستحقون الموت… كذلك الله الملك (مز 93: 1) أرسل كتابه الإلهي ورسائله (رؤ 1: 4)، قاصدًا بها أنه بالدعاء له والإيمان به يسألون وينالون… أن نكون شركاء في الطبع الإلهي (1 بط 1: 4). وأما إن لم يأته الإنسان ويسأل لينال فلا يستفيد شيئًا من قراءة الكتب المقدسة، بل يكون في خطر الموت (يو 12: 48)، لأنه لم يرد قبول موهبة الحياة من الملك السماوي، التي بدونها لا يمكن نوال الحياة الخالدة، التي هي المسيح نفسه (يو 11: 25)، له المجد إلى الأبد آمين.
* عندما أظهر قوته بقهره الأبالسة، حينئذ عرف كافة الناس أنه ملك بالحقيقة وليس ملك غيره، وهو لم يزل رب القوات.
أيضًا الجمال الذي لبسه هو إبراء الجسد من البلاء والفساد بعد قيامته من الأموات. بما أن جسده قبل القيامة كان قابلًا للآلام والموت، ولكن بعد قيامته لم يعد يقدر عليه الألم والموت. فإبراء الجسد من هذه ، ورفعه إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب، هذا يقال عنه جمالًا.
أما قوله: “تمنطق بالقوة” فمعناه ليس أنه أخذ من الناسوت قوة لم تكن فيه: لأنه هو قوة الله وقوته كقول الرسول، لكن معناه أن أظهر في تجسده قدرة لاهوته بفعله خلاصنا. والمسكونة التي كانت قبلًا تعاني من اهتزاز الضلالة قد ثبتها على الحق، وأقام مسكونة مؤسسة على صخرة إيمانه، لن تزعزعها أبواب الجحيم، وهي الكنيسة المقدسة.
كُرْسِيُّكَ مُثْبَتَةٌ مُنْذُ الْقِدَمِ.
مُنْذُ الأَزَلِ أَنْتَ [2].
مملكة الله، ملك الملوك، ثابتة منذ القدم، وتبقى دائمة إل الأبد. لهذا فإن الأتقياء لا يخشون الزمن، لأن القائد الحقيقي للكنيسة هو الأزلي السرمدي، لن يتغير. يقيم في كل جيل قادة، لكننا لا نتكئ عليهم، بل على الله القائد الحقيقي غير المتغير، الأمر الذي يبهج قلبنا، ولا ينزع عنا رجاءنا مطلقًا. لذا يتغنى المرتل، قائلًا: “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك” (مز 45: 6). كما جاء عنه: “له على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ 19: 16).
* ما هو كرسي (عرش) الله؟ أين يجلس الله؟ في قديسيه. أتريدون أن تكونوا عرش الله، أعدوا موضعًا في قلوبكم حيث يجلس عليه. ما هو عرش الله إلا الموضع الذي يسكن الله فيه؟ أين يسكن الله إلا في هيكله؟ وما هو هيكله؟ هل هو محاط بأسوارٍ؟ حاشا! لنفرض أن هذا العالم هو هيكله، لأنه عظيم جدًا، وشيء يليق بأن يحوي الله. إنه لا يحوي ذاك الذي صنعه؟ أين إذن يوجد؟ في النفس الهادئة، النفس البارة[13].
* تذكروا أيضًا ما كنت أتحدث عنه كثيرًا بخصوص جلوس الابن عن يمين الآب، حيث جاء في قانون الإيمان: “وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب”.
ليتنا لا نتطفل في معرفة معنى “العرش”، لأنه غير مدرك. لكننا لا نقبل أبدًا القائلين كذبًا أن الابن بدأ يجلس عن يمين أبيه بعد صلبه وقيامته وصعوده إلى السماوات، لأن الابن لم يتمتع بالعرش بالتقدم (أي ترقى إليه)، بل هو دومًا على العرش حيث كائن. وقد عرف إشعياء النبي هذا العرش قبل مجيء المخلص في الجسد فيقول: “رأيت السيد جالسًا على عرشٍ عالٍ ومرتفعٍ” (إش 6: 1). وقد قيل إن الآب لم يره أحد قط (يو 1: 18)، فكأن النبي رأى الابن.
يقول أيضًا المرتل: “كرسيك مثبت منذ القدم، منذ الأزل أنت” (مز 93: 2). توجد أدلة كثيرة على هذا[14].
* “أيضًا تثبتت المسكونة (العالم)، لا تتزعزع”. إن أخذنا هذا بمعنى أن هذا العالم خُلق ثابتًا بواسطة الرب حتى لا يضطرب بأي فوضى، فماذا يعني ما قيل في موضع آخر في الكتاب المقدس: “السماء والأرض تزولان” (مت 24: 35)… كلمة Olkouménê في هذه العبارة ترجمت “الأرض المسكونة”، تبدو لي أنها الكنيسة التي يُقال عنها في الإنجيل: “أنا وأبي نأتي ونصنع معه مسكنًا” (راجع يو 14: 23). بحق تُدعى “مسكونة inhabitant” حيث يسكنها الآب والابن والروح القدس. فما نعرفه عن “الأرض المسكونة” هو أن العالم يصير ثابتًا أبديًا. لنطبق هذا أيضًا على نفوسنا، فإنه إذ يكون لنا الآب والابن والروح القدس ساكنين، تصير أرضنا غير مزعزعة كل الأبدية[15].
* إذ يتحدث المرتل عن ملكوت الرب ومجد ثوبه، يشير إلى قوته، وإن العالم لا يتزعزع، الآن يحول الحديث إلى الرب نفسه ملكًا باهرًا. ماذا يقول النبي؟ “كرسيك مثبته منذ القدم، منذ الأزل أنت”. العبارة: “لبس الرب القدرة” تخص ضعف الجسد، ومع هذا فإن مُلكه قائم دائمًا. كرسيك ثابت، قائم على الدوام، ليس له بداية. “منذ متى؟” منذ أي زمن؟ لا يمكن أن يُعين، لأنه ليس من بداية له… ها أنتم ترون أن النطق النبوي وُضع بدون حدود، وها أنتم تدركون أنه يحتوي على قياس منطقي… لم يقل: “منذ الأزل أنت بدأت” وإنما “منذ الأزل أنت”. إنك كائن دائمًا، يا من قلت لموسى: “هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه (أنا هو) أرسلني إليكم” (خر 3: 14)[16].
* مُلك الله دائم وليس حديثًا، بل أزلي.
وأيضًا معناه أن سرّ التجسد الذي به أظهر للجميع مُلكه، وجلس عليه كأنه على كرسيه قد هيأه منذ خلقة الإنسان بوصفه صورته الإلهية مثل ختم، لعلمه بأنه بعد زمان مزمع أن يتخذه أقنوم لاهوته ويتحد به. إذن يقول النبي: أنت الإله الأزلي، أنت هو المتجسد في آخر الزمان.
2. الملك القدير
رَفَعَتِ الأَنْهَارُ يَا رَبُّ،
رَفَعَتِ الأَنْهَارُ صَوْتَهَا.
تَرْفَعُ الأَنْهَارُ عَجِيجَهَا [3].
هنا تشير الأنهار التي ترفع صوتها بأمواجها إلى الأمم الكثيرة الثائرة ضده. إنها كأمواج الأنهار القديمة والمستمرة، ولا تتوقف في هذه الحياة. ماذا يمكن لأمواج النهر أن تفعل في مملكة المسيح، فإنه يسير على الأمواج، ويأمرها فتطيعه.
يرى القديس جيروم أن الأنهار بمياهها الحلوة تشير إلى الكرازة المستمرة في العالم بواسطة خدام الله في العهدين القديم والجديد.
* اعتقد أن الأنهار التي تفيض بالمياه على العالم هي الأعمال الرسولية والنبوية. “رفعت الأنهار صوتها”، تنشر تسبيح الرب ومجده، تعلن عن أحكامه في العالم. “في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقطار المسكونة رسالتهم” (راجع مز 19: 4). “أكثر قوة من أصوات مياه كثيرة”. أصوات المياه الكثيرة تعلن لنا ثلاثة أسرار. لنرى ما هي هذه:
“أكثر قوة من أصوات مياه كثيرة،
أكثر قوة من أمواج البحر المنكسرة،
قوي في الأعالي هو الرب”[17]
* “رفعت الأنهار صوتها”… لم نسمع صوت الأنهار؛ حتى عندما وُلد ربنا لم نسمعها تتكلم، ولا عندما اعتمد، ولا عندما تألم لم نسمع تلك الأنهار تتكلم. إنها ليست فقط رفعت صوتها… وإنما بشجاعة، بقوةٍ، بصوتٍ عالٍ. ما هذه الأنهار التي تتكلم… الروح نفسه نهر قدير، منه تمتلئ الأنهار. يقول المرتل عن هذا النهر في موضع آخر: “نهر سواقيه تفرح مدينة الله” (مز 46: 4). صارت الأنهار تفيض من بطن التلاميذ عندما قبلوا الروح القدس. هم أنفسهم كانوا أنهارًا، عندما قبلوا الروح القدس[18].
* (الأنهار هي) رسله القديسون والمبشرون وسائر الذين ضارعوا النهر الذي يُسر مدينة الله. فهم يُدعون أنهارًا، وقد رفعت أذهانها وأفكارها إلى الله، ثم رفعت أصواتها وأخبرت العالم بما رأت عقولها.
والأنهار أيضًا هي مواهب الروح القدس كما جاء في الأصحاح السابع من بشارة يوحنا الإنجيلي، قوله: “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 38). قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، هذه المواهب قد رفعت أصواتها، أي ظهرت وأُعلنت في كافة الأرض.
أيضًا هي أنهار أقوال الكتب الإلهية التي تحققت.
مِنْ أَصْوَاتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ،
مِنْ غِمَارِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ الرَّبُّ فِي الْعُلَى أَقْدَرُ [4].
إن كانت المقاومة ضد الله مستمرة من الشعوب، فهي كضجيج الأمواج، لكن الله القدير أعظم!
جاء عن الترجمتين السبعينية والقبطية: “عجيبة هي أهوال البحر. عجيب هو الرب في الأعالي”. وقد جاءت هذه العبارة تكمل العبارة السابقة “رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار صوتها من صوت مياه كثيرة” [3]. هذا ما تحقق بصورة رائعة في كنيسة العهد الجديد. ولعل المثل الفريد والرائع هو لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية، فقد كانت جزءًا من البحر الثائر ومياه الأمم المُرة. التقت بذاك الذي وعد: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 37-38). ماذا فعل السيد المسيح بالمرأة العطشى لأن مياهها مالحة لا تقدر أن ترتوي ولا تروي أحدًا؟ لقد حوَّلها من بحر مالح ثائر بأمواجه المهلكة إلى نهر مفرح، رفع قلبها وعقلها وكل أعماقها إليه فأدركت الأمور الإلهية السماوية، وعندئذ رفعت صوتها إلى مدينة سوخار التي للسامريين، فجعلت من شعبها أنهارًا عذبة، وتحولوا إلى بيت الله الذي يليق به القداسة. هذا هو العجيب. حقًا مسيحنا الرب الذي في العلي أقدر من البحار الثائرة بأمواجها لا بتهدئتها بل بجعلها أنهارًا عذبة تفرَّح مدينة الله.
يرى القديس جيروم أن الأعمال الرسولية والنبوية تهب المؤمن سلطانًا أعظم من صوت مياه كثيرة وأقوى من أمواج البحر التي لا تتوقف، وأن سرّ هذا السلطان أو هذه القوة هو الرب الذي في الأعالي واهب القداسة للمؤمن. إن كانت الخطية قد أفسدت إمكانية الإنسان. وحطمت سلطانه، ونزعت عنه القدرة على التطلع إلى السماء، فإن ربنا يسوع يهبنا القداسة، فننعم بقوة فائقة.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه كما هاجت الأمواج على التلاميذ فهدأها السيد المسيح، هكذا تهيج غمار أمواج البحر أي الشعوب وتقاوم المؤمنين وتضطهدهم، ولكن ربنا بقدرته العجيبة يجعلها هادئة. وفي نفس الوقت يعطي قوة للمؤمنين كأنهار ترفع عقول المضطهدين إلى السماء، وهذا هو الأعجب!
* ارتفاعات البحر هي العالم أي الأمم التي أصلحتها المياه الكثيرة أعني بها تعاليم الرسل والإنجيليين، وصيرتهم مؤمنين المسيح، وصاروا عجيبين.
* لتثر الأمواج كما تشاء. ليزأر البحر كيفما أراد. غمار أمواج البحر بالحقيقة قوية؛ قوية هي التهديدات؛ قوية هي الاضطهادات. لكن انظروا ماذا يتبع ذلك: “الرب في العلي أقدر”…
كان البحر مضطربًا، وكانت الأمواج تلطم القارب. القارب هو الكنيسة، والبحر هو العالم. جاء الرب وسار على البحر وهدَّأ الأمواج. كيف مشى الرب على البحر؟ فوق رؤوس تلك الأمواج الثائرة القوية. آمن الرؤساء والملوك ، وخضعوا للمسيح. لذلك لا تخافوا، لأن الرب في العلى أقدر[19].
3. الملك القدوس
شَهَادَاتُكَ ثَابِتَةٌ جِدًّا.
بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ الأَيَّامِ [5].
يدعو المرتل جماعة المؤمنين أن يمارسوا الحياة المقدسة اللائقة بأبناء القدوس، ويكفوا عن كل خطية أو إثم، فإنه ليس شيء في حياة القديسين أفضل من تشبههم بأبيهم القدوس، فيشهدون له بحياتهم وشركتهم معه. بفقدان القداسة تحول الملاك إلى شيطان.
قداسته هي جمال هيكله ومجده، وهي فيض نعمته على شعبه، هيكله الحي. وكما يقول الرسول بولس: “إن كان أحد يفسد هيكل الله فيفسده الله، لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1 كو 3: 17).
* “ببيتك تليق القداسة يا رب” (مز 93: 5). فقط لنتحقق ماذا يقول: إن كان أحد يظن أنه يسكن في بيت الرب، وهو غير طاهر وغير مقدس، فهو غريب عنه، لأنه لا يقتني الزينات اللائقة. “بيتك تليق القداسة يا رب” إن كنا بحسب قول الرسول نحن هيكل الله وبيته، فإن قداسة سلوكنا يلزم أن تكون هي زينة الكنيسة وكرامتها. وعلى العكس فإن كانت الخطايا والرذائل واضحة فينا، نكون عارًا وإفسادًا لبيت الرب وليس له جمال[20].
* “شهاداتك يا رب صادقة جدًا”. الرب الساكن في العلي أقدر من غمار البحر القوية!
“شهاداتك صادقة جدًا، لأنه سبق فقال: “قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق” (يو 16: 33). لقد أضاف: “ولكن أفرحوا. أنا قد غلبت العالم”. إذ يقول: “أنا قد غلبت العالم” التصقوا بذاك الذي غلب العالم، هذا الذي غلب البحر. افرحوا فيه، لأن الرب الذي في العلى هو أقدر. وشهاداته صادقة جدًا.
وما هي نهاية هذا كله؟ “ببيتك تليق القداسة يا رب“. ببيتك، بكل بيتك، ليس هنا أو هناك، بل بكل بيتك عبر العالم كله… بيت الرب سيكون قويًا، وسيغلب في كل العالم. كثيرون سيسقطون، لكن ذلك البيت يبقى ثابتًا. كثيرون سيضطربون، لكن هذا البيت لن يتزعزع. “ببيتك تليق القداسة يا رب”. هل فقط إلى وقت قصير؟ لا! “إلى طول الأيام“[21].
* إذ يصير البيت مسكونًا، يبدأ الإنسان يهتم بأن يتعرف على متطلبات ذاك الذي يسكن البناء… لكن إن كان البيت خاليًا من كل الأمور الصالحة، لا ينزل الملك فيه، ولا يسكن في وسطه. إذ يُطلب أن يكون البيت فيه كل متطلبات الملك ولا ينقصه شيء…
هكذا يليق بالإنسان الذي يصير بيتًا، نعم، إذ يصير مسكنًا للمسيح يليق به أن يكون حريصًا على ما يلزم لخدمة المسيح الذي يسكن فيه، وعلى ما يسُر به. فإنه أولًا يقيم مبناه على حجر الإيمان كأساس. وعلى الإيمان يشيد كل البناء. فلكي يكون البيت عامرًا يتطلب هذا صومًا طاهرًا، وهذا يثبت بالإيمان.
توجد حاجة إلى الصلاة الطاهرة أيضًا، خلالها يُقبل الإيمان. هذا يستلزم أيضًا الحب الذي ينشئه الإيمان. علاوة على هذا فالصدقة مطلوبة، والتي تقدم خلال الإيمان.
يحتاج أيضًا إلى التواضع الذي يزيِّنه الإيمان. يختار أيضًا البتولية التي يحبها الإيمان. يربط نفسه بالقداسة التي تُغرس بالإيمان. يهتم أيضًا بالحكمة التي تطلب أيضًا بالإيمان. يشتاق أيضًا إلى الكرم الذي يصير بالإيمان سخيًا.
يطلب البساطة من أجل (المسيح الساكن فيه) هذه التي تختلط بالإيمان. يطلب أيضًا الصبر الذي يكْمل بالإيمان. ويطلب طول الأناة التي يسألها بالإيمان. يحب الحزن (الندامة) الذي يعلنه بالإيمان. يبحث أيضًا عن الطهارة التي يحفظها الإيمان.
كل هذه الأمور يطلبها الإيمان المؤسس على صخرة الحجر الحقيقي، أي المسيح. هذه الأعمال تُطلب من أجل المسيح الملك الساكن في البشر المبنيين بهذه الأعمال[22].
* “شهاداتك قد صدقت جدًا”، أي أن ما قد ناشدته بأنبيائك وسبقت بإخباره بأنه سيجري علينا قد تحقق، وصدقنا حقيقة أقوالك. أيضًا كل ما حُرر في الكتب الإلهية والأنبياء من أجل المسيح الإله قد كمل وتحقق.
أما بيت الله فهو الكنيسة المقدسة وجماعة المؤمنين. فإذًا ينبغي لها القداسة والطهارة إلى طول الأيام، أي إلى أبد الأبد. وقد قال “طول الأيام” لئلا يظن اليهود أن بيت الله الذي يستحق التقديس هو هيكل سليمان الذي كان محل عبادتهم، لأن ذلك الهيكل لا يدوم مؤبدًا.
من وحي المزمور 93
أسندني يا ملكي القدوس!
* لك الجلال والقدرة والقداسة يا ملك الملوك.
بحبك ارتفعت على الصليب من أجلي.
فأشرق بهاء حبك يا شمس البرّ.
ورفعت قلوبنا كأنهار حيَّة إلى سماواتك.
* التحفت بجلالك، لتنزع عاري،
وسكبت جمالك الفائق على أعماقي.
اتزرت بالقدرة لكي تغسلني من أدناس الخطية.
تقدسني إلى التمام يا أيها القدوس العجيب.
* ارتفعت على الصليب كعرشٍ فريدٍ،
وأنت ملك الملوك ترعى كنيستك منذ القدم.
تقودها في معركة ضد إبليس وجنوده.
تهبها النصرة وتكللها بالمجد الأبدي.
تبقى ترعاها إلى الأبد.
فلا يخور مؤمنوك،
ولا يتسلل اليأس أو الرعب إلى قلوبهم!
* تبقى قوات الظلمة في هياج لا ينقطع.
أمواجها في ضجيج مستمر.
ولكن كيف يمكنها أن تقف أمامك؟
أنت الذي تسير على البحار.
تأمر الرياح والأمواج فتطيعك.
* ليهج البحر بكل أهواله ضد مؤمنيك،
لتطلب المياه الكثيرة أن تغرق أولادك.
فإنك أنت هو العجيب في قدرتك وأعمالك.
تحول البحار الهائجة بأهوالها إلى أنهار مياه مفرحة.
تعلن ذاتك بين مضطهدي شعبك.
ترفع قلوبهم إلى السماء، فيكتشفون أسرارك.
عوض الاضطهاد، ترفع أصواتهم للكرازة بإنجيلك!
عوض المقاومة يصيرون أصدقاءك.
حولت السامرية إلى كارزة بين شعبها.
حولت شاول الطرسوسي إلى رسولك العجيب!
تقيم من البحار بأهوالها بيتك المقدس، كنيستك الطاهرة.
لك المجد يا محب البشر!
* شهاداتك يا رب صادقة جدًا.
لم تخفِ عنا أنه سيكون لنا في العالم ضيق.
لكن لنتهلل ونفرح،
فقد حملت ضيق الصليب بمسرة.
وكما غلبت بالصليب، به نحن نغلب.
أنت هو سندنا يا ملكنا!
أنت هو نصرتنا وإكليلنا.